كتاب ... نقد العقل المسلم ... الأزمة والمخرج ...

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-14-2024, 10:14 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الثاني للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-29-2005, 05:01 AM

عبد الله إبراهيم الطاهر
<aعبد الله إبراهيم الطاهر
تاريخ التسجيل: 04-19-2005
مجموع المشاركات: 616

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
كتاب ... نقد العقل المسلم ... الأزمة والمخرج ...

    هذا الكتاب لـ عبد الحليم أبو شقة ...
    قدمه د. محمد عمارة ... وفي الكتاب وقفة وموضوعه يحتاج إلى مناقشات ووقفات ... إن الأزمة التي تجتاح العالم الإسلامي والعربي هي أزمة تحتاج إلى مبضع يفتش في دهااليز آلامها ... سننزل هذا الكتاب هنا ونتمنى أن يجد موضوعه العناية في المناقشة والتداول ...
    مع أمنياتي ...
    عبد الله

    نقد العقل المسلم
    الأزمة والمخرج

    عبد الحليم أبو شقة

    تقديم: د/ محمد عمارة

    تمهيد

    هذا الكتاب صفحات من الإبداع الفكري الخالص لأنه لم يكتب في صورة كتاب يتوجه به صاحبه إلى الحياة الثقافية والفكرية ، فيراعى ملابساتها وضغوطاتها ومقتضيات مجاملاتها أو توقى محاذيرها وإنما كتب في صورة:
    • ومضات فكرية ، وإلهامات إبداعية خالصة في الصدق والتجرد والعمق والنقاء• فهو زفرات عقل ، تصاعدت في لحظات خلوة مع نفس كبيرة تحمل هموم الأمة الإسلامية، بل والإنسانية وتتعبد الله ، سبحانه وتعالى ، في محراب التفكر والتدبر والتعقل فيما آلت إليه أحوال المسلمين ، كأمة والإسلاميين ، كطليعة تعلق عليها الأمة أغلب الآمال في النهوض المنشود
    • فهو نظرات تأسيسية ، أراءها صحابها ـ عليه رحمة الله ـ لبنات في عمران الاجتهاد الإسلامي ، الذي يمثل الفريضة الكبرى في واقعنا الفكري المعيشي
    • وهو أطواق نجاة للعقل المسلم المعاصر من حالة التردي والتخبط والإحباط، التي تمثل المخاض الذي طال انتظار الخروج من أوحاله فلما تم التأليف بين هذه الومضات الصادقة والمشعة والإلهامات المبدعة والنظرات التأسيسية واللبنات الفكرية ، استوى البناء الذي هو فصول وصفحات هذا الكتاب إبداعا خالصا ، ومن ثم متميزا في الواقع الفكري العربي والإسلامي
    • ولأن هذا الكتاب قد ولد ـ في صورته الأولى ـ ومضات فكرية وإلهامات إبداعية على امتداد سنوات عديدة فلا يكاد مرض من أمراض حياتنا الفكرية ولا عاهة من عاهات مناهج التفكير السائدة إلا وقد أحصاه هذا الكتاب ثم أشار إلى طرق العلاج من هذه الأمراض والعاهات لذلك ؛ كان صفحات ـ بل وسطور ـ هذا الكتاب أشبه ما تكون بالمثيرات الفكرية والمحفزات العقلية التي تستنفر في الإنسان ملكات التفكر والتدبر في أمرضنا الفكرية ـ المو######## والوافدة ـ مع الإشارة الأمنية لسبل البرء والخلاص
    • وصاحب هذا الكتاب ـ يرحمه الله ـ وإن لم يغفل نقد الوافد الفكري الغربي ؛ وتيار التغريب المقلد لذلك الوافد التغريبي ، إلا أن انشغاله الأساسي بهموم العقل المسلم واليقظة الإسلامية ، قد جعله يعطي أغلب الجهد ومعظم المساحة لنقد مناهج التفكير الإسلامي ، وعيوب العقل الإسلامي فهو لم يفتقر إلى فضيلة التوازن في نقد مناهج التعامل مع الوافد والموروث ، وإنما كان التركيز على نقد مناهج التعامل مع الموروث ، لأنه قد علق الآمال على الإسلاميين المنطلقين من الموروث وأحيانا المتحصنين بهذا الموروث ـ وعندما رأى أن نضج إسلامية التفكير عندهم هي السبيل إلى نضج معايير التعامل مع الوافد الفكري أيضا.
    • ومع النقد الشديد والصريح والطويل ـ بل والقاسي ـ الذي يقدمه الكتاب للعقل المسلم فإنه لا يقف عند هذا النقد وحده وإنما يقدم سبل
    الخروج من أزمة هذا العقل وذلك دونما أوهام أو "ينبغيان" وإنما في واقعية وعمق وتوازن ويأخذ من القديم والجديد ومن الموروث والوافد ويضم فقه الأحكام إلى فقه الواقع ليصوغ دليل عمل الإقلاع المسلم من مأزقه الخانق إلى رحاب النهوض المنشود
    • ولقد نزل هذا الكتاب ـ في حديثه على منهاج التفكير الإسلامي ـ بمقاصد الشريعة الإسلامية وقواعد أصول الفقه إلى ميادين التطبيقات العملية في الاجتماع الإنساني المعاصر وضرب لهذه التطبيقات العديد والعديد من الأمثال ، الأمر الذي قدم نموذجا لفقه القواعد ، ولفقه الواقع ، ولعقد القران بينهما وهو جوهر ولب التجديد
    • ولأن لصاحب هذا الإبداع تجربة طويلة ـ رآها غير إيجابية ـ مع "الحركة الإسلامية " وبسبب استخلاصه كل أوقاته وجميع جهوده ـ في سنوات نضجه ـ للفكر ـ كصناعة ثقيلة ـ هذا الفكر الذي أهملته "الحركة الإسلامية" ـ لظروف تعذر في بعضها، ولا تعذر في جميعها ـ حتى غدت قوة طاردة بل ولدى بعض فصائلها قوة مطاردة للفكر ورموزه!! لذلك نالت هذه "الحركة" من صفحات هذا الكتاب الكثير من الانتقادات المرة ، والأوصاف القاسية ، والمصارحات العارية ، لأن الرجل كان يصعد الفرات بينه وبين نفسه ، ولم يكن في هذه الزفرات يكتب للجمهور!
    • ولد سامة الفكر في صفحات هذا الكتاب ، لأنه إبداع فكري خالص ، يحار كاتب التقديم له إذا هو أراد الاقتباس من صفحاته في هذا التقديم فأغلب ما فيه يغري بأن يكون نموذجا مرشحا للاختيار لذلك يجد الإنسان نفسه ـ إزاء هذه القضية ـ مفضلا دعوة القارئ إلى الوقوف أمام أفكار هذا الكتاب في مكانها من فصول وصفحات وذلك بدلا من أثقال هذا التقديم باقتباسات تزاحمت أغلب صفحات هذا الكتاب كي تكون هي هذه الاقتباسات!
    • وإذا كان كتاب المؤلف عن (تحرير المرأة في عصر الرسالة) هو أبرز الأعمال الفكرية التي صدرت في القرن العشرين ، لتحرير المرأة العربية والمسلمة ، بل ومطلق المرأة فإن هذا الكتاب هو واحد من أهم الأعمال الفكرية التي كتبت في نقد العقل المسلم المعاصر ومناهجه في التفكير
    بقى أن يعرف القارئ كيف استوى هذا الكتاب نصا متسقا ، تآلفت فقراته وفضوله له ، بعد أن تركه مؤلفه ـ عليه رحمة الله ـ "جذاذات تناثرت فيها الومضات الفكرية
    لقد طالعت هذا الكتاب في صورته الأولية ـ صورة "الجذاذات" ورسمت للتأليف بين أفكاره منهاجا نجد أن : الرابط بين محتوى هذه الأوراق أن أغلبها عبارة عن تأملات ونظرات وخواطر وحوارات ومذكرات وانتقادات ومقترحات خاصة لمناهج البحث والتفكير ، فهي أشبه ما تكون "بمذكرات" الجانب الفكري الحوار الفكري والحوار الداخلي والتفكير بصوت عالي والأعمال التحضيرية للحياة والمشروعات الفكري للمرحوم الأستاذ عبد الحليم ويمكن نشر هذه الأوراق في صورتها النهائية تحت عنوان (نظرات في مناهج البحث والتفكير)
    وحتى نصل بهذه الأوراق إلى الصورة المثلى التي تنفع الباحثين والقراء يحسن :
    1- البدء بترقيم صفحاتها ترقيما موحدا ومتسلسلا
    2- إعادة تصنيف وتبويب أفكارها وموضوعاتها وذلك بتفريغ عناوين فقراتها
    في جذاذات ـ فيش ـ مع إثبات رقم الصفحة قرين العنوان

    3- ضم الفقرات المتحدة في العنوان والموضوع بعضها إلى بعض
    4- إعادة ترتيب كل مجموعة متحدة في العنوان والموضوع وفق المنطق الداخلي لأفكارها
    5- وعندها يتحصل لدينا الذي يفرز ويميز ما كتب في : المنهج والخلاف والتجديد والاجتهاد والقيم والمرأة والعقل والعلم والحوار الخ
    6- وهذا العمل سيتيح لنا التخلص من التكرار الناشئ عن الكتابة في موضوع واحد في فترات زمنية مختلفة والتمييز بين الأفكار المطلوب نشرها للاستفادة بها ، وبين ما هو أشبه "بجدول أعمال" لأبحاث وحوارات ودراسات نقدية مقترحة لكتب ومشروعات فكرية فتوضع هذه في مكانها لتكون في انتظار من ينجزها ولتعبر عن "هموم" إلى توثيق أو زيادة الاستيثاق
    7- وقد يحتاج بعض "الاقتباسات" إلى توثيق أو زيادة الإستيثاق
    8- وعندما توضع هذه الأوراق في صورتها النهائية ، يحسن التقديم بين يديها بدراسة تلقى الضوء على ماهيتها وأهميتها وما حدث في التعامل معها إلى أن خرجت في صورتها النهائية
    ثم هيأ الله لإنجاز هذه المهمة غير اليسيرة باحثا جادا وواعدا هو الأستاذ نبيل فولي فقام بهذا العمل على خير وجه
    ولقد كتب الأستاذ نبيل فولي مقدمة موجزة تلقى الأضواء على الجهد الكبير الذي بذله في "تحرير" هذا الكتاب آثرنا نشرها كما هي ، عرفانا لفضله وجهده ولما تقدمه للقارئ من معلومات عن الجهد الذي بذل حتى استوت الومضات الفكرية في صورة هذا الكتاب
    ونص هذه المقدمة:
    الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى صحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد :
    فليس هذا أول كتاب يلقى صاحبه ربه قبل أن يتم تأليفه ، فقد مات الإمام النووي قبل أن يكمل موسوعته العظيمة "المجموعة" ومات ابن كثير المفسر قبل إتمام شرحه لصحيح البخاري وفي عصرنا هذا رحل الشيخ العلامة أحمد شاكر قبل أن يكتمل عمله العظيم في تحقيق مسند الإمام أحمدوقد تلقى مثل هذه التركات عبثا على الناس حتى يكملوها ، أو يخرجوها إلى النور على هيئتها وتتأكد المسئولية نحوها على قدرها وقيمتها ، وهذا الكتاب الذي نخرجه للناس بعد وفاة صاحبه الأستاذ عبد الحليم أبو شقة ـ رحمه الله ـ مما يستحق أن يقرأ ، بل يقرأ جيدا ، ويحتاج إلى مناقشات ومدارسات تفصل ما أجمله ، وتستكمل ما لم يتح لصاحبه أن يكمله وقد كان الكتاب مجموعة كبيرة من البطاقات التي لم تأخذ صورتها النهائية في التأليف بينها وجمع شاردها ، كما احتوى على تكرار ليس قليلا ، واكتفى المؤلف في كثير منها بالإشارة إلى الحديث النبوي أو المثال الفقهي الذي يستدل به ، فقمت بتصنيف هذه البطاقات ، وحذف المكرر منها ، أو دمجه فيما يشبهه ، ووضع العناوين الفرعية لها ، وذكر الحديث أو المثال الفقهي المشار إليه ، والربط بين الفقرات عند الحاجة ، وإضافة بعض العبارات عند الحاجة الماسة أيضاونقول مرة أخرى : إن الكتاب يستحق أن يقرأ ويقرأ
    والحمد لله رب العالمين
    وأما عن العنوان الذي رجحناه لهذا الكتاب ، ليعبر عن جوهر مضمونه ، والمقاصد من وراء فصوله وصحافته فهو عنوان:
    نقد العقل المسلم ، الأزمة والمخرج
    والله نسأل أن أن ينفع بهذا الكتاب وأن يجعله في ميزان حسنات المؤلف وأن يتحقق به مقاصده إنه سبحانه وتعالى خير مسئول وأكرم مجيب

    دكتور
    محمد عمارة

    (عدل بواسطة عبد الله إبراهيم الطاهر on 05-29-2005, 05:10 AM)
    (عدل بواسطة عبد الله إبراهيم الطاهر on 05-29-2005, 05:29 AM)

                  

05-29-2005, 05:19 AM

عبد الله إبراهيم الطاهر
<aعبد الله إبراهيم الطاهر
تاريخ التسجيل: 04-19-2005
مجموع المشاركات: 616

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتاب ... نقد العقل المسلم ... الأزمة والمخرج ... (Re: عبد الله إبراهيم الطاهر)

    ( الجزء1)

    أزمة العقل المسلم المعاصر

    العقل نعمة كبرى ، فإذا كانت نعمة الإيمان هي أعظم النعم فالنعمة التي تليها هي نعمة العقل الواعي الفاحص المتأمل ، إذ بدون هذه النعمة لا تحصل تلك ، وبدون هذه النعمة لا تعمل تلك عملها الأتم ، ثم بدون هذه النعمة لا تستقيم تلك على أمر الله ، بل سرعان ما تنحرف بها الأهواء والعقل الواعي المتحرر المتأمل ، هو أجل ما في الإنسان ، بل هو أنبل ما يميزه عن الحيوان ، وهو الأداة القيمة القادرة على رفع الإنسان ومنعه من أن يتحول إلى سائمة اجتماعية ، أو إلى شيء من الأشياء الجامدة أو المتحركة الخاضعة في جمودها وفي تحركها لإرادة المجتمع ، دون أن تملك من أمرها شيئا ، ما أروع العقل وأنقذه عندما تتيقظ قواه وتجيش حيويته ، فيثور على الضلال والوهم وعلى الخداع والانخداع وعلى كل ما يخالف الحق أو يستهين به
    { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا} ( سورة سبأ الآية 46)
    وإذا كبل هذا العقل وسلب حريته فلابد من تحريره وإطلاقه من كل ما يعرقل قيامه بدوره أو يعوق حركته وماذا يعني تحرير العقل أكثر من إنقاذه من القيود التي تفرض عليه ، وتحول دونه ودون عمله الحر؟ وهو ما يقوم به الدين الحق
    والدين جاء يحرر العقل من الأنفال ، ولكن ورثه الدين قد يحجرون على العقل ويذلونه مما يلي :
    ـ بتضييق نطاق عمله وحصره في حفظ المتون
    ـ أو بإهمال تغذيته بما ينفع : فلا نظر ولا بحث علمي رشيد ، ولا دراسة لرأي المخالفين ، ولا جدل ولا حوار معهم يتحرى الحق
    ـ أو بتقديس السابقين ، ومجرد تقديسك عقل غيرك يعني حتما إلغاء عقلك أنت
    ـ أو بالاحتراز المسرف من الوقوع في خطأ نتيجة الاجتهاد ، وهذا يعني أنه لا اجتهاد إذ لا يقع اجتهاد من إنسان دون خطأ أو هناك ، وأيضا لا إبداع حيث لا يمكن أن يتم إبداع دون اجتهاد معرض للصواب والخطأ هذا وكأن ورثة الدين لم يعلموا أن المجتهد إذا كان بحاجة إلى الطمأنينة والأمن فقد زاده الله مع الأمن أجر ما كان باذلا من جهد وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجهد ثم أخطأ فله أجر (رواه مسلم) وصدق عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : "فليجتهد رأيه ويقول إني أخاف وإني أخاف"
    ـ وقد يتحرر العقل ويعني ذاته وما حوله ومع ذلك يبقى هناك نقص في التحرر ، فقد يكون متحررا من التقاليد ، لكنه لم يتحرر من الهوى ، فيضله هواه عن الإيمان أو عن الاعتراف بالواقع
    ـ التحرر من غرور العقل ذاته وإيقافه عند حدوده وبعين على كمال التحرر : التعليم ، تعلم سنن الكون من الكون ومن أهل العلم بالكون ، وتعلم الغيب
    من الرسل والوحي
    على أن التعلم غير الحفظ وغير التقليد ، فالتعلم غذاء للعقل وانفتاح، والحفظ مسخ للعقل ، والتقليد طمس للعقل يجعله حيوانا معصوبا يدور في ساقية
    ثلاثة نماذج من العقل المسلم:
    وفي عالم المسلمين اليوم يبرز عقل مقلد خاضع للأشكال المو######## ، سواء كانت محتفظة بمضمونها ، أو فرغت من كل مضمون ، لكنه ليس حالة وحيدة ، أو ليس منفردا في الساحة
    إن شخصية المسلم المعاصر وإن هزلت وإن تناقضت مع منطق العقل نستطيع أن نميز في داخلها بين ثلاثة نماذج:
    1- المسلم المثقف ثقافة مدنية ، وهذا مثله الأعلى هو التكيف مع الواقع أيا كانت مواصفاته وليس تغيير الواقع الفاسد ، وقد يكون صاحب موقف سلبي أو حيادي أو تعاطف وجداني ويعيش العصر (يتعاطف مع الثاني دون الثالث)
    2- الثاني مذبذب بين الماضي والحاضر أو بين الأول والثالث ، يعيش مع الناس ومع وسائل الإعلام العامة ، وهو يقترب بموقفه من الأول ، لكن حصيلته التعليمية ووظيفته وممارسته اليومية تقربه من الثالث
    3- والثالث هو المنتسب للجماعات الدينية ، ويخضع للجمعيات الدينية الإسلامية وللتراث وتمرد على الهيئات الدينية الرسمية ، وثقافته منحازة تماما (تنحصر في اتجاهات الجماعة التي ينتسب إليها) وتبدو ممارسته للحياة بعيدة عن المجتمع تقوقع داخل بيئة صناعية أشبه بالمعلبات)
    وهذا الأخير ـ غالبا ـ لا يتعاطف لا مع الأول ـ فهو جاهلي ـ ولا مع الثاني ـ فهو موظف ـ مرتزق غير ثوري ، وعلى ذلك فهو أشد الجميع تزمتا وبعدا عن أي حوار ، وعنده حصانة ضد أي تدخل أو تفاهم ، فضلا عن التعاون ، والواجب هو زرع نوع جديد يكون بديلا صالحا ـ تدريجيا ـ لهؤلاء ، وهو مسلم الغد ، ويميز بسلامة العقل واستقامة عمله ، فضلا عن تقرير مبدأ عمله ، ويكون عمادا وأساسا لكل استقامة ، سواء استقامة العقيدة ، أو استقامة العبادة ، أو استقامة الأخلاق
    مراحل تطور العقل المسلم المعاصر :
    وحين نتساءل عن الحالة الراهنة التي عليها العقل المسلم تجد أننا طللنا قرونا نعمل في إطار التقليد الفقهي ، ثم انتقلنا إلى مدرسة حديثة تعمل في إطار التقليد الأوربي الغربي ، ثم إلى مدرسة حديثة تتحسس طريقها بين القديم (مع العودة إلى الأصول ) وبين الحديث ـ تأخذ منه بحذر ـ (المسلم المثقف)
    ثم تطورت هذه المدرسة الأخيرة في ردة فعل رجعية لمواجهة الشرود التقدمي ، فألحت على الذاتية واستبعاد التفاعل الإيجابي مع الفكر الإنساني والتجارب البشرية (في المصطلحات ، وفي مناهج البحث ، وفي مناهج الحركة والدعوة ، وفي المفاهيم السياسية والاقتصادية والتاريخية) و التسويغ لذلك هو : الأصالة ومخافة الوقوع في شرك الفكر الغربي ، والنتيجة هي الوقوع في شرك الجمود الخرافي أو اللامعقول
    لقد بدأ الانحطاط في عالم المسلمين في القرن الخامس الهجري ، وتسرب شيئا فشيئا حتى سيطر على أغلب مظاهر الحياة عندنا وأهم مظاهر هذا الانحطاط تلخصت في :
    ـ الجمود الفكري
    ـ التقليد المذهبي
    ـ لا جديد في الإنتاج ، إنما صرنا عالة على القديم ، لا جديد في التفسير أو الحديث أو الفقه ولا أصول الفقه ، فقط مجرد تعليقات واختصارات
    ـ حصر الجهود المبذولة في عالم اللغة وعلوم الشريعة مع مزيد من التقعر الشكلي دون تركيز على المضمون
    ـ نبذ العلوم الطبيعية من فلك وطب وكيمياء وجغرافية وهندسية
    ـ الانقسام الفسيفسائي وزوال الوحدة السياسية
    ـ انعدام الاستقرار السياسي ، واستمرار التنازع على السلطة من عناصر مغامرة ، بل وغريبة عن البلاد في كثير من الحالات ، ووصل التنازع أقصاه مع ضعف السلطة العثمانية وفساد الجهاز الحاكم والجهاز الإداري
    ـ وتبع الضعف العثماني امتداد الأجنبي في فراغنا ، ثم الاستعمار الأوربي الحديث لجميع بلدان العالم الإسلامي تقريبا
    أعرض انحراف العقل المسلم المعاصر :
    إن انحراف العقل يعني أن هناك داء قد أصاب الكينونة البشرية ، ولتلك الحال أعراضها التي تكشف عنها ، وهي :
    أولا : الغفلة عن القواعد الأصولية والقواعد الفقهية ، ومن مظاهر هذه الغفلة :
    ـ عدم مراعاة الأولويات
    ـ الغفلة عن مراعاة درجات المصلحة والمفسدة
    ـ الغفلة عن دراسة الواقع وملاحظة ظواهره عند تقرير الأحكام ، وكذلك الغفلة عن التأمل الفكري
    ـ الوقوف عند المشتبهات وتحريمها دون الرجوع إلى أهل الفكر والفقه الحقيقي ، وبهذا يقع الغلو في الاحتياط
    ـ الغفلة عن مراعاة شروط قاعدة سد الذريعة (ويتبعها غلو في الاحتياط(
    ـ الغفلة عن ضرورة التعدد والتنوع ، إي عن التعدد أمر (طبيعي بشري ( نتيجة اختلاف العقول ، ونتيجة حق الاجتهاد للمؤهل له
    ـ ويتبع كل هذه الأنواع من الغفلة نفور من الحوار مع المخالف ، بدلا من الحرص على الحوار
    ـ وكذلك تتبعها الغفلة عن المنهج الشرعي ، مثل إجراء الأحكام على الظاهر، ويتبعه الاتهام مع التعرض للنوايا وتبادل التهم بالباطل
    ثانيا : الوقوع في بعض المزالق الفكرية الخطيرة ، مثل :
    ـ التفسير بالرأي دون علم ، ويمثل مزلقا فكريا خطيرا ، فهو تحريف مباشر للشرع ، إذ يتم التعامل معه بغير الأدوات التي يتطلبها
    ـ "الدين يحل جميع مشاكل الحياة" مبدأ قد يفهم خطأ ، فيظن الناس منه أن حياتنا تستغني عن التفكير والعقل ، وهذا مزلق فكري ؛ لأن العقل هو الأداة التي ستخرج من الشرع الأحكام والتشريعات
    ـ السيرة مصدر تشريع دون النظر في أحكام الفقه وهي التي حوت جميع النصوص التي تحتوي على أحكام ، وجمعت إليها اجتهادات علماء كثيرين تقدم اجتهاداتهم إضاءات مهمة لمن بعدهم
    ـ الفصام في النظر في النصوص الشرعية أو اعتبار حديث واحد مصدرا للتشريع في الوقت الذي تتوافر فيه أحاديث أخرى ناسخة أو مخصصةـ معرفة الحق بالرجال لا الرجال بالحق ، مع أنه حتى الرسل تعرف بالحق ، ولولا ارتباط الحق بهم منذ البداية لما اعترفنا لهم بالرسالة وقد يؤدي اتخاذ رجال علامة على الحق لا الحق علامة على الرجل إلى مزالق أخرى خطيرة منها:
    ـ الخلط بين ما هو دين منزلي من عند الله وبين ما هو بشري
    ـ الاعتماد على الأذان في التلقي غالبا (المؤثر النفسي وشخصية الحاضر وتتابع الحاضرة كلها لا يعطي فرصة للتأمل) ولذلك لا بد من الكتاب حتى تتوافر فرصة التأمل
    ـ الجمود على كتب ومنشورات معينة
    ـ الجمود على صحبة أفراد الجماعة ( ترك حتى الأهل والزملاء في الرأي(
    ـ النفور من الأفكار المعارضة أو حتى المحايدة ، ومن النقد من الخارج
    ـ عدم تقدير العلوم الحديثة ، وإهمال الكلام في الفكر الحديث ، وهناك مبررات دائمة للإعراض عنه (فكر منحل ، إباحي ، الحاد)
    ثالثا : سيطرة الأغراض النفسية السلبية :
    ومن أخطرها غلبة روح الانهزامية في مواجهة الحضارة الغربية ، وفقدان الجرأة على مخالفة المتفوق ، وتترسخ نفس هذه الروح أمام الموروثات ومن مظاهر هذه الانهزامية
    1- عدم القول برأي لم يسبق أن قال به أحد القدامى
    2- طغيان طلاوة الحديث على ضبط المعاني
    3- الانشغال بالجزئيات عن الكليات وفهمها منفصلة عنها
    4- العزوف عن الإبداع والأصالة ، والركون إلى التقليد والتبعية عن عجز فالتقليد أيسر أو عن منطق فاسد
    5- تقديم النوافل على الفرائض ، والغفلة عن الفرائض انشغالا بممارسة النوافل لميل الهوى مع النوافل
    6- الاتكالية والميل عن الأخذ بالأسباب
    7- الصنمية وشخصنة المباديء والأفكار
    8- الإعواجاج في التفكير والحوار والاستدلال العقلي
    9- الخلط بين الثوابت والمتغيرات وتقديس ما ليس بمقدس
    1.- السطحية والعجز عن التأصيل والتمحيص
    11- الميل إلى الارتجال وفقدان الثقة في التخطيط
    12- النزوع إلى اتهام الآخر
    13- فقدان الثقة بالنفس ، والآخرين
    14. الانشغال بالشعارات عن تحليل مضمونها
    15- الفصام بين الفكر والعمل
    16- الكسل العقلي
    17- توهم التعارض بين الدين وبين العقل والعلم وحصر المعرفة في الوحي المنزل وحده ، مع أن الوحي ليس وحده ملكا لله بل العقل والكون كله أيضا
    18- سيطرة الفصام والتناقض على التصرفات الشخصية (الحرص على الصلاة في المسجد وأكل أموال الناس بالباطل)
    19- عدم وعي العقل بحدود المتناقضات (الشجاعة والتهور ، البخل والاقتصاد، الكرم والسرف)
    2.- الاهتمام بالخيالات (غير المتوقعة) وإهمال الواقع
    21- الاهتمام بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل
    22- التعميم في الأحكام وعدم ضبطها
    23- عدم تحديد المفاهيم
    24- غياب الموازين المحددة لما يقبل وما يرفض من نتاج حضارات الآخرين،
    25- التفكير الأحادي غير المتعدد الزوايا
    26- غياب المعايير الصحيحة التي تعرف بها أقدار الأشياء وقيمتها
    27- التحيز إلى الذات بلا تعقل ، والتمييز ضد الآخر بلا تعقل كذلك
    28- المبالغة في إبراز مزايانا ، في مقابل المبالغة في إبراز عيوب المخالفين
    29- عدم استشعار المشكلات القائمة أ المحتملة في المستقبل
    3.- اليأس من حل بعض المشكلات
    31- عدم الاتفاق على الإطار الفكري العام
    32- عدم تحرير أو تحديد المصطلحات (القوة / السلطة الخ)
    33- افتقاد الصيغة الناقدة
    موقف الحركات الإسلامية المعاصرة من أزمة العقل المسلم:
    يمكن تلخيص دور الحركة الإسلامية في هذا المجال بأنها حاولت واستطاعت ـ لحد ما ـ أن تخرج الدين من نطاق الإصلاحات الجزئية (تصحيح العقيدة ـ تصحيح العبادة ـ الوعظ و الإرشاد ) إلى نطاق الإصلاح الكلي ، أي التغيير الشامل للسياسة الاقتصادية والتربية والتعليم
    ولكن مع الأسف البالغ : إنها حاولت إدخال الدين في مجال الإصلاح العام والكلي للمجتمع بطريقة ساذجة سطحية ، وفي تهجم الغر الجاهل ، بتقرير أحكام جامدة متعسفة ، أو الكلب العقور ، بمحاولة السطو المسلح على السلطة لإقامة حكم الله في الأرض ، فأفسدوا الدين وأفسدوا السياسة معا ! أي شوهوا الدين وعطلوا السياسة
    أي أن الحركات الإسلامية المعاصرة لم تعالج أزمة العقل المسلم ، فقد استمرت كأسلافنا القريبين ، وهي حين أخرجت المسلم المعاصر من الجزئية إلى الكلية ظلت تحتفظ بالتقديس أو السلبية ، وطبعت الاتجاه إلى الكلية بنهاية الخاصتين : التقديس للتراث ، والسلبية من الفكر الإنساني
    وبأسلوب آخر نقول : إن ظهور جماعات دينية سياسية تحمل نداء الدين كنظام شامل لجميع جوانب الحياة ، كانت له آثار إيجابية وأخرى سلبية ، فهذه الجماعات ـ بسبب نشاطها السياسي ـ كسبت أنصارا من نوع جديد من الشباب الجديد في المدارس الثانوية وفي الجامعة ، حيث تغلب عليه العاطفة وحب البطولة ، وبسبب نشاطها السياسي أيضا صار لها صحف ونشرات وكتب تساعد على جذب العناصر المتدنية من مختلف قطاعات الشعب
    لكن هذه الجماعات الدينية السياسية إذا كانت قد جددت التفكير الديني التقليدي ، فمن ناحية واحدة فقط ، وهي إبراز الجانب السياسي للدين ، أو بمعنى آخر نشرت فكرة شمول توجيه الدين لجوانب الحياة جميعا ، ولكنها من الناحية العقلية أو الناحية المنهجية كانت تقليدية ، بل ومتعصبة أشد التعصب ، لذا كان دور مزدوج له جانب إيجابي ، وهو تثبيت دور الدين كقيم خلقية رفيعة تحكم الحياة جميعا ، حتى تكون الحياة فاضلة خيرة ، ويعمر قلب الإنسان إيمان بالله يوفر له الطمأنينة الروحية الضرورية
    أما الجانب السلبي فيرجع إلى أن هناك جراثيم منتشرة في جسم الحركة الإسلامية ، تقتل الطاقات ، وتبعثر الجهود ، وتنحرف بالخطط هذه الجرائم تتمثل في :
    ـ غموض مجموعة من المفاهيم
    ـ تشويش واختلاط مجموعة ثانية
    ـ انحراف وفساد مجموعة ثالثة
    وكل هذه يعد من تجليات الأزمة التي يعيشها العقل المسلم المعاصر
    ومن أمثلة هذه المفاهيم (الغامضة أو المشوشة أو الفاسدة) :
    ـ شمول الفكرة يقتضي شمول الحركة
    ـ وحدة الأمة الإسلامية تقتضي وحدة الحركة الإسلامية
    ـ الثبات على الدعوة يقتضي الثبات على أساليبها(في العمل وفي التنظيم وفي التكوين)
    ـ اختلاط مفهوم الجهاد بمفهوم الجهاد بمفهوم العنف
    ـ طغيان مفهوم الحكم الإسلامي على مفهوم الفرد المسلم والمجتمع المسلم وما يتبعه من سيادة مفهوم الانقلاب على مفهوم الإصلاح)
    ـ غلبة العمل الجماهيري على العمل الفكري
    ـ تقسيم المجتمع الواحد إلى مجتمعين : مجتمع جاهلي وآخر إسلامي
    ـ غلبة السفلية العقلية (بل الجهالة أحيانا) خاصة فيما يتعلق بالفكرة لكن أخطر محنة تواجهها جماعة من الجماعات هي التي تنشأ عن افتقارها إلى الرجال القادرين على الارتفاع إلى مستوى أحداث مجتمعهم والمجتمعات المحيطة به ، القادرين أيضا على الارتفاع إلى استيعاب الأفكار التي تنتشر فيه وأهم ما يتميز به هؤلاء الرجال ـ فوق كفايتهم العقلية وقيمهم الخلقية ـ هو أنهم أهل عطاء لا أهل أخذ ينمو شعورهم بمسئوليتهم وتحملهم تبعتهم ، فيؤثر إشعاعهم فيما حولهم ، ومثل هؤلاء الرجال لا يتهيأون لجماعة من الجماعات إذا لم تكن فيها خلايا حية فاعلة ، تستولدهم وتتعهدهم ، وأهم ما تستولده وتتعهده فيهم العقلية المستقيمة والخلق الحميد
    هذه الجماعات ـ بإجمال ـ ألهاها التطور في الأهداف النظرية والوسائل الحركية عن التطور الواجب في منهج التفكير والبحث ، ولذلك ظل فكرها في إجمال مغلقا ضيقا تقليديا ، فهي غارقة إلى الأذقان في استخراج صور التشريع في المجالات المختلفة ، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، دون أن تمنح نفسها الفرصة الكافية للاستفادة من الخبرات العملية الحديثة التي صاحبت النهضة الحديثة في المغرب
    ومما يزيد في ضيق فكر هذه الجماعات وانغلاقه ما قررناه من سلبيتها إزاء الفكر الإنساني الحديث ، سلبية من حيث الكم ؛ لأنها حين تطالع معنا الفكر تطالعه بقدر ضئيل ، وتكتفي بجوانب دون جوانب ، وسلبية من حيث الكيف ؛ لأنها حين تأخذ من هذا الفكر تكتفي بعرض إنتاجه وثماره دون الغوص في منهجه ، منهج البحث العلمي وهذه هي ميزته الكبرى التي أبرزت للوجود الحضارة الحديثة
    ثم إن أي تيار فكري لا يمكن أن يتكامل ، ولا يمكن أن يحظى باهتمام المثقفين إلا إذا اجتهد صاحبه ـ أولا ـ في أن يفهم غيره من التيارات ، وحاول أن يضم من أفكار التيارات الفكرية الكبرى ما يلبي ـ بحق ـ الرغبات الأصلية لعالمنا المعاصر
    حول الأزهر :
    عند طرح الحديث عن وضعية العقل المسلم المعاصر لابد أن يكون للأزهر وضع خاص في الكلام ، فهو إحدى القلاع الثقافية والحضارية الكبرى للمسلمين ، وسلامة المسار الذي ينتهجه الأزهر يعني الكثير بالنسبة لخروج العقل المسلم من أزمته الراهنة ، ونسجل هنا ما يلي:
    1- يقف الأزهر مع مؤسسات أخرى ـ مثل الطرق الصوفية والجمعيات الدينية ـ موقف الممثل للدين ، لكن دوره أكبر وأعم وأشمل ، لأنه أكبر مؤسسة في هذا المجال ، إلا أن وضعه الرسمي وجمعه بين العلوم الشرعية والعلوم الحديثة بصورة ما زالت في حاجة إلى تصحيح ـ يوحي ويرسل إشعاعات تثبت ازدواجية التفكير وازدواجية عقلية المسلم ، واستمرار مسيرة مذبذبا بين الدين بلا علم حديث وبين الحديث بلا دين
    2- ثم هو ينتج فكرا مكتوبا ومسموعا يؤكد هذا الازدواجية
    3- ثم هو بالتميز في الزي يدعم هذه الازدواجية
    4- وقف الأزهر عند تحقيق المخطوطات والطبع الأنيق لها ، وهو عمل أشبه بتحديد الأضرحة لتكون أشد جذبا لعقول السذج حتى يطوفوا حولها
    ولا نريد أن نكون كأجيال كان همها الإحياء على طريقة عمل الشروح والهوامش والمختصرات واحتراز ما أنتجه الآخرون ، بلا إبداع ولا تجديد
    والمطلوب إحياء حقيقي لتكون هناك حصانة فكرية ، تعتمد الأصول المنهجية الصحيحة لأسلافنا الأوائل ، فإذا عرض علينا شيء من الداخل أو الخارج وقفنا منه موقف الفاحص الناقد ، فنأخذ منه وندع ونصحح ونضيف ـ حسب الأصول المستقرة في الشرع والعقل
    مظاهر الأزمة
    سنقف هنا وقفة قد تطول أمام مظاهر الأزمة التي يعيشها العقل المسلم المعاصر ، أملا في وضع أيدينا جيدا على مكامن المرض ، حتى نسعى إلى انتزاعها واجتثاثها من الجذور وهذه المظاهر تتمثل فيما يلي:
    أولا : النظرة الخاطئة إلى تاريخ العالم : يظن الكثيرون أن تاريخ العالم لا يزيد عن أن يكون صراعا بين حضارات ، وأن واجبنا تجاه حضارتنا الإسلامية العريقة أن نصارع الحضارة الغربية الحديثة فهل الصراع الطويل الذي سود تاريخ البشرية هو صراع بين حضارات حقا ؟ أم هي حروب يشنها أصحاب أطماع وأصحاب مبادئ ، سواء بين حضارتين مختلفتين أو داخل حضارة واحدة
    ومن أمثلة صراع أصحاب الأطماع في العصر الحديث : الاستعمار ، فهو بوسائله العسكرية والاقتصادية والفكرية يريد أن نظل بقرة حلوبا ، وكان سببا في تعطيل التفاعل افيجابي بين ماعندنا من قيم وما عنده من علوم ونظم
    ومن أمثلة حروب أصحاب المبادئ الفتوح الإسلامية ، خاصة في عصر الراشدين ، فهم حاربوا الفرس والروم لإزاحة سلطان قيصر وكسرى وعملائهم عن رقاب الناس ، وبعد انتهاء مرحلة الصراع ؛ أي الحرب بدأت مرحلة التفاعل بين الحضارات ، على مستوى ذلك العصر .
                  

06-04-2005, 08:15 AM

عبد الله إبراهيم الطاهر
<aعبد الله إبراهيم الطاهر
تاريخ التسجيل: 04-19-2005
مجموع المشاركات: 616

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: كتاب ... نقد العقل المسلم ... الأزمة والمخرج ... (Re: عبد الله إبراهيم الطاهر)

    ( الجزء 2 )
    ثانيا: تعطيل عمل العقل خوفا على عمل الوحي وكأنها خصما لدودان، كما يعتقد البعض أن عقولنا أصغر وأعجز من القدرة على التعامل مع نصوص القرآن والسنة مباشرة ، فهي أعلى وأسمى وأكبر من قدرة عقولنا ، أي لابد من وسيط بيننا وبينها ، وهنا يبرز دور إغلاق باب الاجتهاد ، فنحن حسب هذا التصور لسنا أهلا للاجتهاد ، وبالتالي وقفنا بمعنى الاجتهاد عند استنباط أحكام من نص عام باستعمال أدوات الاجتهاد ، مثل تحديد العلة والقياس ، ومثل تحديد دلالات الألفاظ من خاص وعام ومطلق ومفيد وناسخ ومنسوخ ، والجمع بين الأدلة ، وإزالة ما يمكن أن يكون بينها من التعاون الظاهر.
    لقد وقفنا عند الاجتهاد بهذا المعنى دون النظر كلية في الأدلة الشرعية الواضحة والجلية القاطعة الدلالة ؛ أي وضعنا حاجزا بيننا وبين نصوص الكتاب والسنة.
    ثالثا : شيوع أنواع عديدة من مخدرات العقول مثل :
    ـ حشو الذهن بحفظ المتون والشروح واستيعاب الهوامش .
    ـ الضغط على حرية الآخرين (سياسة واجتماعية واقتصادية) بإعطاء الذات حق الوصاية على الجميع ، فضلا عن الإرهاب الفكري من أفراد ومؤسسات تحمل لافتة دينية.
    ـ الحرمان من الغذاء الفكري الصحي ، وتقديم غذاء ضعيف أو فاسد لا يحوي المواد اللازمة لنمو العقل.
    ـ حفظ العلم للامتحان بدلا من فهم العلم للحياة.
    ـ التلقين بدلا من الفهم والاستيعاب .
    ـ الاكتفاء بالكتاب والدراسي بدلا من النظرة للمراجع المختلفة وجمع المادة الممتازة.
    ـ الهيام بالتحليق في النظيرات ، بدلا من الاهتمام بفهم الواقع والسعي لتتغير .
    ـ شيوع سياسة ردود الفعل ، وما تضمن من سوء في التفكير أو في المواقف .
    ومعنى رد الفعل : أن يلابس تفكيرك قدر من الانفعال ـ قليل أو كثير ـ يؤدي إلى ظهور طبقة ضباب رقيقة أو كثيفة على القدرة العقلية ، مما يحجب الرؤية الواضحة ، ويعطل النظرة الشاملة والعميقة لجميع جوانب الموضوع ، فيكون الإسراف في تقدير جانب ما ، مما يجعل النتيجة أو القرار أو الموقف يحمل شططا .
    ومن المؤكد أنه يكون مبررا تبريرا كافيا ، لأن العقل المغشي بالضباب سوف يسعف القرار بكل التبريرات الممكنة ، حتى يسند الانفعال كخادم أمين ، فيظل مستورا غير واضح ..
    ـ ومن المخدرات أيضا ترسب بعض سلبيات التصوف ، ومنها تثبيت الإلحاح على العبادات (الشعائر) والإلحاح على الزهد في الدنيا بدون موازنة ، حتى بدت كأنها تعبير عن : الدين يقابل الدنيا ، والدين ضد الدنيا من يعمل للدين لا يعمل للدنيا ، ومن يعمل للدنيا لا يعمل للدين.
    وهنا نشير إلى أن الفكر المسيحي قريب م الفكر الصوفي أو الفكر الصوفي هو القريب من الفكر المسيحي فالكنيسة حملت لواء الدين، وهي ضد النشاط الدنيوي ، لأنه ـ في رؤيتها ـ صارف عن ملكوت الله "فبع ما لديك وأعط ثمنه للفقراء ثم ابتعني".
    ومن هنا ظهر أيضا الدين مقابل الدنيا ، وهذا أمر ديني وذاك أمر دنيوي ، والحقيقة أن الدنيا ه مزرعة الآخرة ، بل إن ثواب الدنيا أحيانا يكون مكملا لثواب الآخرة ؛ أي أن الثوابين ليسا متضادين إما هذا و إما ذاك.
    وانظر أدلة كثيرة تعبر عن هذا المعنى ، منها قوله تعالى : " فآتهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة".(سورة آل عمران 14
    وكما يقول سيد قطب " لابد من قيادة تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية ، وعن طريق العبقرية الأوربية في الإبداع المادي ، وتزويد البشرية بقيم جديدة جدة كاملة بالقياس إلى ما عرفته البشرية ، وبمنهج أصيل وإيجابي وواقعي في الوقت ذاته ، والإسلام وحده هو الذي يملك تلك القيم وهذا المنهج ، لقد أدت النهضة العلمية دورها.. هذا الدور الذي بدأت مطالعه مع عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي ، ووصلت إلى ذروتها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، ولم تعد تملك رصيدا جديدا ؛ جاء دور الإسلام الذي لا يتنكر للإبداع المادي في الأرض ، لأنه يعده وظيفة الإنسان الأولى منذ أن عهد إليه بالخلاف في الأرض ، ويعتبره ـ تحت شروط خاصة ـ عبادة لله وتحقيقا لغاية الوجود الإنساني .
    و جاء دور الأمة المسلمة لتحقيق ما أراده الله للعباد بإخراجهم للناس: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"(سورة آل عمران : 11.).
    ـ وثمة ـ إضافة إلى ما سبق ـ مخدرات روحية سامة من شأن تعاطيها فقدان الإنسان لحريته ، وتقع مخدرات الدعاية الأيديولوجية في المقام الأول من بين كل مخدرات القرن العشرين.
    ويوجه أندريه مارسيد(سويسرا) نقدا إلى عبارة ماركس "الدين أفيون الشعوب" ويرى أن أفيون الشعوب هو الدين المذنب وليس الدين الحقيقي، والدين الذنب هو الدين المشبع بالخرافة ، والخرافة بالنسبة إلى الدين مثل الأيديولوجية بالنسبة إلى الفلسفة ، والقيادات الشريرة تروج للخرافة في مجال الدين وللأيديولوجية في مجال الفلسفة .
    ولهذا فالأيديولوجية مخدر ، ومع ذلك فالجماهير تعشقها ، وهي في هذا العشق تفقد الحرية ، بل تفقد المحبة ، والأيديولوجية الكامنة في الفلسفة الماركسية هي من هذا القبيل ، وقد أعدم سقراط سنة 399 ق.م بدعوى أنه يفسد الشباب وينكر الآلهة(انظر نفس التهمة التي وجهت إلى رسول الله صلى الله علية وسلم في مكة ـ مع الفارق الكبير طبعا) وقد كانت هذه الدعوى هي السبب الظاهر للإعدام أما السبب الحقيقي فقد كان يدور على محاولة سقراط إزالة القناع عن جذور الأوهام الهائمة حول معتقدات زائفة ، ممهدا بذلك إلى نمو الإنسان نموا كاملا.
    رابعا : ومن عيوب التفكير التي تبدو كظواهر في تفكيرنا المعاصر ـ أيضا ـ النظرة الناقصة إلى الأمور ، ومن صورها ما يلي :
    ـ النظر الأحادية الجانب : وكأن كل القضايا والظواهر سطحية ليس لها غير جانب واحد ، بينما تكاد تكون جميع الظواهر الاجتماعية والاقتصادية و السياسية تتفاعل في تكوينها عناصر عديدة..
    ـ النظرة السطحية الساذجة : تكتفي وتقف عند ما يظهر على السطح دون غوص في الأعماق ، والأعماق قد تكون ممتدة في التاريخ (في الزمان) أو ممتدة في الواقع (في المكان)
    ـ الجهل العام (شبه الأمية) والجهل المركب (نصف العلم) فهناك قراءات مشوشة قاصرة مبتسرة ، تحسب نفسها امتلكت ناصية العلم ، واكتشفت كل المخبأ والمستور ، فتجابه في صلف وغرور الأمور البديهيات التي لا تحتاج إلى دراسات ومماطلات وقعرات..
    ـ فهم الحياة على أنها فقط أبيض وأسود : لا وجود لألوان أخرى ، فقط هناك حق واحد أبيض ، وكل ما عداه أسود ذو مضمون واحد وذو صورة واحدة أيضا ، ولا يمكن أن تختلف الصور مع وحدة المضمون.
    وكما يسرف الشيوعيون أحيانا فيضخمون الجانب الاقتصادي ، وكأن العامل الوحيد في حياة الإنسان يسرف المتدينون فيضخمون شيئا من الدين (مثل خلق معين أو أدب معين أو أمر معين) فيبدو كأنه هو كل الدين ، مثل علم المرأة المهني ، فتبدو المشكلة الأولى والأخيرة عندهم هي الاختلاط بالرجال ، لذا لا يرحبون أصلا بالعمل النسائي ، وإذا أحرجوا في مجال التعليم والطب يرحبون بالعمل للمرآة كمدرسة للنساء أو طبيبة لهن .
    ـ الالتزام بما لا يلزم (من تراث القرن).
    ـ الإهدار لما يجب (من مقاصد الشريعة).
    ـ عدم وضوح وتحديد المصطلحات.
    ـ عدم التمييز بين أصول الدين وفروعه (الكليات والجزئيات).
    ـ عدم التمييز بين الفرائض وبين السنن والمندوبات.
    ـ عدم التمييز بين أحكام الدين الأصلية وبين اجتهاد الفقهاء.
    ـ عدم التمييز بين قضايا الإجماع (أي المجمع عليه) وبين القضايا الخلافية.
    ـ الخلط بين المفاهيم.
    ـ الخلط بين شمول الدين في توجيه جميع جوانب الحياة ، وبين كون الدين هو المؤثر الوحيد أو العنصر الوحيد في اية ظاهرة.
    خامسا : ومن تجليات أزمة العقل المسلم المعاصر أن نصوص السنة غائبة في بطون الكتب ، وبحاجة إلى تصنيف جديد تيسيرا على أهل الاختصاص ( حيث لابد من الاختصاص) فالعام مثل الطبيب العام ، والطبيب العام مهما بلغ لا يحسن إجراء جراحة دقيقة أو يعالج مرضا دقيقا.
    وهذا يدخلنا في أزمة أخرى ، وهي أزمة غياب روح الشريعة (الفقه العام للشريعة ) وغياب الفقه العام لعلوم العصر وواقعه.
    سادسا : اختلال العلاقة بين الإخلاص والصواب : ليس في الإسلام فصام بين إخلاص العمل لله تعالى وبين صواب هذا العمل وموافقته لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقبل العمل بغير ذلك ، وهذا الأمر له صلة بخطورة الانحراف الفكري مع الإخلاص غير المبصر ، فهو أخطر من المعصية العملية الصريحة…
    الإخلاص بغير بصيرة فرع من المزج الصوفي الذي لا يتحرى أحكام الشريعة ، وتستهويه الوجدانيات أو الأذواق والمواجيد.
    وهذا الإخلاص يجعلنا نغفل عن تحري الصواب ، سواء تحريه في أفعالنا نحن أو أفعال الغير.
    ويقابل هذا النوع المطلق من الإخلاص : الرفض المطلق لمن يظن فيه عدم الإخلاص ، فيكون موقفنا رفضا لكل الأفعال والأعمال ، ولو كانت صوابا.
    سابعا : التشدد في تحديد اختيارات الدين ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، منذ بني إسرائيل ويوم البقرة شددوا فشدد الله عليهم.
    وهناك أحاديث كثيرة تؤيد هذا ، منها : " وما سكت عنه فهو عفو" وحين لم يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس في صلاة القيام قال لهم : " خشيت أن تفرض عليكم .رواه البخاري ومسلم).
    كما أن الدين يحكم الحياة بمكارم الأخلاق : إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " (رواه أحمد في مسنده) وليس بالأحكام وحدها.
    فالأحكام حكمتها ظروف الزمان والمكن ن أما ما كان خلقيا صرفا فلا يتغير بتغير الزمان والمكان . مثل تحريم الخمر والميسر والميتة والزنا والسرقة.
    ثامنا : الفصل بين سلامة الاعتقاد ولذة الاعتقاد ؛ أي الفصل بين الجانب الفكري والجانب والوجداني.
    وسلامة الفكرة العقائدية لا تغني شيئا عن عمق الإحساس بمعاني العقيدة واستشعار حلاوتها ، وهو أمر يفتقده قساة القلوب ، سواء فهموا المعنى النظري للعقيدة أم لم يفهموه ، وقد أشار التي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى حلاوة الإيمان في أكثر من موضوع من سنته الشريفة ، ون ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام : " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام يدنا وبمحمد نبيا ورسولا" (رواه مسلم).
    تاسعا : ومن عوامل تغييب العقل المسلم المعاصر ـ كذلك ـ الإسراف بكل صورة .
    ـ الإسراف في التقدير ويؤدي إلى التقديس في غير موضعه.
    ـ الإسراف في جانب الوجدان ، قد يؤدي إلى خيالات وأحلام غير محكومة يعقل ولا شرع.
    ـ الإسراف في الطاعة ، ويؤدي إلى الخضوع غير العاقل.
    ـ الإسراف في الاحتياط ، ويؤدي إلى تعطيل النشاط والحركة.
    ـ الإسراف في العبادة ن ويؤدي إلى اعتزال الحياة.
    لقد افتقد التوازن بين القيم : فهناك ثنائيات من القيم وقع لدينا خلل فيها ، بحيث افتقد تفكيرنا المعاصر توازنه بسبب هذا الخلل ، ومن ذلك الخلل : افتقاد التوازن : بين التوكل والدعاء وبين الاجتهاد والسعي ، بين الإيمان بالقدر وبين إدراك المسئولية.
    عاشرا : السلبية من الفكر الإنساني :
    من عيوب فكرنا المعاصر سلبيتنا تجاه الفكر الإنساني ـ وسيأتي مزيد تفصيل عليها ـ ومن صور هذه السلبية تصور الفساد الشامل في نظرية ما نتيجة بعض أخطاء فيها ، ثم الرفض الكامل لهذه النظرية.
    والإيجابية تقتضي :
    1 ـ الدراسة الكاملة لتلك النظرية وتبين نقاط الصواب ونقاط الخطأ فيها أو نقاط القوة ونقاط الضعف.
    2 ـ تقديم نظرية علمية محكمة بديلة عن تلك النظرية الخاطئة ، حيث النتائج الخاطئة لبحث علمي (طبعا نتيجة خطأ ما في البحث أو ضعف في البحث) لا تدحضها إلا نتائج صادقة لبحث علمي آخر.
    أما الرد على الأبحاث بمجرد ألفاظ الاستهانة أو التهوين منها أو الشتائم والتنديد فكل ذلك لا ينال من سطوة تلك الأبحاث عند كثيرين ممن درسوها وتتلمذوا عليها.
    بين أزمة العقل وأزمة الخلاق :
    ولا تقف مظاهر أزمة العقل السلم المعاصر عند ما سبق إذ إن معظم أزمات الأخلاق مرجعها ـ في رأيي ـ ليس إلى ضعف الهمة والميل مع الهوى ، وإنما مرجعها إلى الفهم الخاطئ ، أي الخلل العقلي والفكري.
    وفي المقابل نجد أزمة أخلاقية أخرى ، سببها الثقة في أن العقل وحده قادر على أن يقرر ما يشاء في أي مجال من مجالات الحياة ، وهذا الاتجاه هو ردة فعل تاريخية عنيفة لمحاولة الاتجاه الديني والوسيط في أوربا حرمان العقل من لك شيء.
    ولن يفيد هذا التفكير الذي يعطي ولاءه كله للعقل وحده ، وسيفشل مثله مثل اتجاه الفكر الديني التقليدي الوارث لعصور الانحطاط الطويلة ، والذي يرى أن الدين جاء بكل شيء بتفاصيله الدقيقة ، كبيرا كان أو صغيرا ، وزاد السلف الأمر شروحا وحواشي حتى لم يبق مجال لمستزيد ، وليس من عمل لعقولنا سوى الغوص في ثنايا الورق الأصفر لنستخرج الدرر!
    ومن هنا كان منطقيا أن يسود في الاتجاه التقليدي الشعور بعدم الحاجة إلى الأخذ من الحضارة الغربية أو من غيرها فهو في حالة اكتفاء كامل ن بل إنه يرى أن العالم كله هو الذي ينبغي أن يأخذ منا ، حيث إن عندنا الكمال كل الكمال في كل شيء ، وأكثر من ذلك فإن كل تقدم في عالم اليوم يرجع إلى جهود أجدادنا فحسب!!
    الآثار الناجمة عن تعطيل العقل :
    إن هناك آثار سيئة شتى نتجت عن تعطيل العقل في عالمنا الإسلامي ، ومن ذلك :
    أننا بتعطيل العقل انحرفت بنا الأهواء بعيدا عن عقيدة سلق هذه الأمة فنشأت مدارس الكلام.
    ـ كما انحرفت بنا الأهواء عن العبادة الصحيحة ، فحدثت مدارس التصوف .
    ـ وانحرفت بنا الأهواء عن الأخلاق الصحيحة ، ورسخت بدلا منها التقاليد والممارسات المنحرفة ، يغذي تلك التقاليد فقه قاصر جامد مختل وتصوف منحرف.
    ـ وانحرفت بنا الأهواء عن الفقه الصحيح ، وحدث الجمود والانحراف الفقهي.
    حيرة العقل المسلم المعاصر بين القديم والجديد
    إن العقل المسلم المعاصر قد ضاع بين القديم الموروث والغريب المجلوب ، فلا حقق من هذا ولا من ذاك القدر المناسب الذي يضمن له سلامة السير ، وكان النقص في إطلاعه على التراث لا يعادله إلا النقص في اطلاعه على الفكر الحديث...
    وأثمر هذا النقص عجز العقل عن صهر ما تلقاه من القديم والحديث ، وحين لم يتم الصهر كان الإخفاق في مجال الإبداع ، لأن الصهر الثقافي الحضاري (الذي يحفظ التميز لأصحابه ولا يمسخ الهوية) هو الخطوة الأولى الممهدة للإبداع الأصيل.
    إن هناك أهمية كبرى لعملية الصهر هذه عند الاستيعاب ، فهي تعبير عن أصالة الفطرة التي تتماشى مع نفسها ولا يتصادم إنتاجها هنا مع إنتاجها هناك .
    وهنا نقول : إن القرآن يطرح "الحكمة" كمنهج لاقتناص ما يصلح ، فيورد لفظه "الحكمة" وكأنها المنهج الذي يمكن أن نتعامل به مع الكتاب "القرآن" والحكمة نفسها هي السنة التي يمكن أن نستنبط منهجها في التعامل مع القرآن ونستعملها ، مع اعتبار أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان نبيا ، فلقوله من العصمة ما ليس لأقوال غيره من العلماء.
    يقول تعالى {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم} سورة النساء 113 .
    قال قتادة عن الحكمة : هي القرآن والسنة.
    والسنة تعني الفهم العميق للقرآن والتطبيق الحكيم لتعاليمه والإدراك الشامل لمقاصده.
    وقال مالك بن أنس : الحكمة طاعة الله والفقه في دين الله.
    وكان لابد أن نعتبر أن الحكمة هنا تعني أمرا آخر غير الكتاب وهو القرآن.
    وإذا أجملنا القول في معنى الحكمة ، فهي حسن التصرف لا في المواقف اليومية ومع الناس فحسب ، ولكن أيضا مع العلم والفكر ، وطبعا حسن التصرف يسبقه حسن إدراك.
    إذن الحكمة هي القوة الماركسية ، هي العقل ، إذن لا يستقيم فهم الكتاب بدون أن يكون معه الحكمة ، أي العقل.
    وكذلك لا تستقيم الحكمة بدون معيار أو دون منار تهتدي به ، حتى تكون الحكمة قائمة على أساس راسخ متين ثابت ، وإلا اعتبر كل إنسان تصرفه حكمة أو مطابقا للحكمة .
    إنها محاولة لكي ندرك الحكمة البشرية الهدي الإلهي ، وهو أساس كلي جامع أبدى ، وهو نابع من الحكمة الكلية الصادرة عن الحكيم ، بينما العقل مهتديا بالهدى الإلهي الأول تصدر عنه الحكمة الجزئية الآتية.
    وأظن أن حيرة العقل المسلم المعاصر بين القديم والجديد تحتاج إلى هذه الحكمة في الأخذ والرد.
    ومن القواعد الفكرية الأصيلة في التراث الإسلامي : جرح الرواة وتعديلهم ، وهو مبدأ مطبق عند كل الأمم للشهود أمام المحاكم ، وذلك أن تعديل الشهود يضمن القبول لشهادتهم ولروايتهم.
    فكيف تطبق مبدأ الجرح والتعديل على أصحاب نظريات وأفكار تطرح أمامنا ؟ ربما يكون ذلك بأن تطرح كاملة وبكل دقائقها أمام عقولنا في مجالها النظري ، وفي محك التجريب في مجالها التطبيقي،
    إن أجدادنا كانوا في غاية التقى والصلاح والإخلاص وفي غاية الذكاء وفي غاية المجد والتحصيل ، حين طبقوا قواعد الجرح والتعديل على الرواة ، وكذلك سائر القواعد المنهجية العظيمة ، ولا ننسى شهادة المعاصرين لهم من ناحية ، ثم شهادة القرون المتطاولة (شهادة المعاصرين أكثر صدقا في الحقيقة لأنها من الآخر ، وإذا تحريناها سنجد أنها معتدلة غير مسرفة) ولابد في هذه الحال من الاستفادة بهذه القاعدة الجليلة في قبول ما نقبله من التراث وما يأتينا من غيرنا ، وكذلك في رد ماترده.
    والقاعدة التي نتحرك عليها في هذا المضمار ( مضمار القديم والجديد) هي أن الانحصار في نطاق علوم الدين يشبه استغراق الصوفي في العبادة ، العبادة عمل صالح وضروري وعلوم الدين أمر صالح وضروري ، ولكن كما ينعزل الصوفي عن الحياة والناس ويكاد يعيش في صومعته ، كذلك المحصور في نطاق علوم الدين أو المنصرف إليها وحدها يعزل نفسه عن علوم الحياة والناس ، وبذلك ينعزل فكريا عن الحياة والناس.
    لا يمكن أن تعتمد مسيرتنا على تعلم علوم الدين وحدها ، بل لابد من أ، تتحرك هذه المسيرة على ساقين ، إحداهما علوم الدين ، والأخرى علوم الحياة ، ونحن في عصور الازدهار والتحضر لم نكن نعتمد على علوم الدين وحدها .
    ثم إننا حينما نكتفي بتعلم علوم الدين وحدها نكون قد أسأنا فهم الدين نفسه ، فكأنه أنزل طلبا للآخر وحدها ، مع أنه نزل للدنيا والآخرة معا.
    وأرجو أن أجلى المسالة في عدة النقاط التالية :
    1ـ ماذا يعني التراث ؟ نقصد بالتراث هنا ما أنشأه الأسلاف بعقولهم ، أما الهدي الإلهي من قرآن وسنة فهو هادي الأسلاف فيما أنشأوا ، وهو هادينا نحن فيما نرجو أن ننشئ.
    ويلحظ القارئ أننا ـ في اكثر ما نتحدث ـ نقصر حديثنا على مجال واحد من مجالات التراث وهو المجال الديني ، رغم شمول التراث لمجالات عديدة ، مثل اللغة والتاريخ والنظم والفنون وغيرها ، ويرجع ذلك إلى أن مجال تراث الدين كان أشد خضوعا للتقديس ، فإذا استطعنا التحرر من التقديس المفضي إلى الجمود هنا كان التحرر في بقية المجالات أيسر .
    وإذا كنا ندعو إلى نبذ التقديس للتراث ، وإخضاعه للدراسة الناقدة ، فالنقد لن ينصب على علاقة التراث بمشكلات عصره العقلية والخلقية ، إنما ينصب على مدى صلاحيته لموقفنا اليوم الذي قد تغير كثيرا ، فالأمور التي جعلت ذلك الجهد العظيم موضع تقدير الناس وإعجابهم في صلاته بظروفه الاجتماعية والثقافية ، هي نفسها تقريبا الأسس التي ينتج عنها تجرده إلى حد كبير من الصلة بالواقع اليوم، والصلاحية في دنيانا تختلف سماتها اختلافا واضحا عن الدنيا التي ظهر فيها ذلك الجهد العظيم ، ويتجلى هذا الاختلاف سواء في المجالات العلمية والاجتماعية والاقتصادية وفي نظم الحكم والعلاقات الدولية ، وعلى ذلك فالدعوة لا يمكن أن تعني الخط من التراث ، بل هي دليل التفاعل ومن ثم الإبداع (أو التفاعل الناقد) وفي نفس الوقتهي دليل على التقدير الواجب للواقع ، وما يمليه من اعتبارات ، وهو نفس التقدير الذي أعطاه السلف لواقعهم ن وقد أبدعوا ما أبدعوا في حدود ذلك .
    إن عبقرية التراث مثل عبقرية الفكر الحديث والعلوم الحديثة ، كل في مجاله عبقري ، ولكن حملي التراث ـ في الأغلب ـ لا يعود ما يحملون ، لم يفهموه بعبقرية والمطلوب منا عبقرية في الفهم كعبقريتهم في الإنشاء .
    2 ـ إن التراث وقع بين قاتلين ثلاثة : مبغض يقتله بحقده عليه ، وجاهل يقتله بمسخه له ، ومستسلم يقتله بقلة فهمه . وحديثنا هنا خاص بالفريق الثالث ، فهو أولى الثلاثة ـ في نظرنا ـ حيث إن دوره في المسخ ساعد على تجهيل الفريق الثاني ، أما الفريق الأول فهو أحد اثنين : إما مبغض نتيجة تصور خاطئ للتراث ، فهذا قد يفيده التصحيح ، وإما مبغض حاقد على العلم وأهله ، فهذا لا نملك معه شيئا.
    والخضوع للتراث درجات بعضها فوق بعض كما يلي :
    الدرجة الأولى : من أتاه الله حظا من الجرأة على البحث والنظر ، فإذا هداه الله لرأي توقف وتخوف ، ولا يطمئن له قلب حتى يعرف أن أحدا ما من السابقين قد قال به أو قريبا منه ، وإلا توقف عن إعلان رايه تماما.
    الدرجة الثانية : من آتاه الله حظا من العلم ن وأطلع على رأي للسلف في قضية كبيرة يخالف رأي الجمهور ن فتوقف وتخوف ، ولم يعلن هذا الرأي للناس، وإنما اكتفى بالإسرار به لخواص منهم ، برغم قناعته بوجاهة الراي وأحقيته بالدراسة والتمحيص ، وذلك لا يقصد مزيد من الدراسة والتمحيص في دائرة ضيقة قبل الإعلان على عامة الناس بل خوفا من أن يرمي بالخروج عن الإجماع .
    الدرجة الثالثة: من يقف عند حدود آراء الأئمة المعتبرين (سواء أصحاب المذاهب الأربعة أم غيرهم) وهو يحسب أنه بلغ أقصى درجات التحرر لعدم وقوفه عند حدود الأئمة الأربعة.
    الدرجة الرابعة: من يقف عند حدود المذاهب الأربعة ، ويظل يبذل أقصى الجهد في المقارنة بينها لاختيار أقواها دليلا.
    الدرجة الخامسة : من يقف عند مذهب بعينة ، لكن يتعرف على جميع الأقوال في إطار المذهب ، ويكتفي بالوقوف عند الرأي المفتي به.
    الدرجة السادسة : من يقف عند الرأي المفتي به في المذهب الذي اختاره.
    الدرجة السابعة : من يقف عند رأي المتأخرين ، بل آخر المتأخرين من علماء المذهب ولا يتعداه مخافة التهلكة ؛ أي أنه يقلد المقلدين ، وهذا هو الدرك الأسفل في التقليد ، ويصدق عليه قوله تعالى : {إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مقتدون}"سورة الخروف:23" وهذا خطأ ولو كان المتبع هو الحق الذي أنزله الله تعالى .
    وهذه الدرجات جميعا ، حتى الدرجة العليا منها ، لا يمكن لعقيدة حية أو لشريعة سامية أن تتمشى وتعيش في إطارها ... لا يمكن أن تعيش العصر ، أو تواجهه أو توجهه ، ولا يمكن أن يصدر عن رجال لا يتعدون هذه الدرجات اجتهاد حقيقي ، أو إبداع صادق أصيل.
    والدرجة العليا لو أن صاحبها إذا لم يطمئن أعاد النظر والبحث ، ثم أضاف حوارا جادا مع عالم أو أكثر ممن يثق بهم (وسيأتي للحوار موضع في هذا الكتاب) بغية مزيد من التحقيق ، فإذا اطمأن إلى اجتهاده أعلنه للناس ـ لو أنه فعل ذلك لنجا من أسر التقليد وأفاد الأمة باجتهاده.
    ونتساءل هنا : هل المطلوب هو العودة إلى "رأي السلف" والسلفيين ، أم العودة إلى "منهج السلف" نطبقه ؟ (هذا أسلم ولكنه بحاجة إلى اكتشاف ـ وسيأتي حديث عن هذا المنهج ، أم العودة إلى الهدي الإلهي لنسترشد به هذا هو الأصح ومنهج السلف ورأي السلف أو آراؤهم لابد منها كمعينات في دراسة الهدي الإلهي.
    وإذا كانت السلفية هي المسك بما كان عليه السلف ، ولاشك أن أصلح السلف هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فننظر ماذا كان منهجهم ؟ ومنهجهم عموما هو الاعتماد في كل أمر على هدي الكتاب والسنة ، والاستيثاق من صحة دلالة النص الشرعي.
    أبو موسى الأشعري يطرق باب عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلا يؤذن له فينصرف ، فلما لقيه عمر بن الخطاب سأله ، فذكر له حديث الاستئذان ثلاثا ، فما ترك عمر أبا موسى حتى أتاه بمن يؤيد سماع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ حتى تزداد الثقة في الدليل.
    وكان إذا طرقهم أمر جديد تشاوروا وتحاوروا وأعلموا عقولهم ، واجتهدوا رأيهم ، ومضوا على بركة الله ، مثل موضوع جمع القرآن وتقسيم أرض السواد (ريف العراق) بعد الفتح.
    3ـ مع أننا سنأتي بكلام كثير عن التقليد فيما بعد ، لكننا نحب أن نشير في هذا السياق إلى أن المقلدين عطلوا عمل عقولهم ، وداروا في الدائرة التي رسمها السلف ، بل داروا في ساقية السلف ، وعصبوا عيونهم عن رؤية العلوم الحديثة والنظم الحديثة والمؤسسات الحديثة والمشكلات الحديثة، ولو رأوها لتوقفوا وما استطاعوا الدوران في الساقية.
    عصبوا أعينهم عن رؤية الحياة والناس والعصر برمته ، فعاشوا في عصر أسلافهم ، وهيهات أن يتم لهم ذلك ، ولو تم لاستقامت أمورهم بوجه من الوجوه ، ولكنهم في حالة انفصام ، عقولهم فقط هناك في عصور ماضية ، وحياتهم كلها هنا في هذا العصر ؛ لهذا سرعان ما ينكمشون ، يفرون بعيدا عن الناس ويعيشون في عزلتهم بائسين أو حالمين ، يسلون أنفسهم ويواسونها بالوهم الكبير بالفرار الفتن.
    فهل المقلدون مجانين ؟؟ .. هناك شبه بينهما :
    ـ المجانين عقولهم معطلة تماما ، والمقلدون يعطلون عقولهم تعطيلا جزئيا .
    ـ المجانين يعيشون في وهم كامل ، والمقلدون يعيشون في وهم جزئي.
    ـ المجانين يعزلهم الناس كليا ن والمقلدون ينعزلون عن الناس جزئيا.
    إذن المقلدون أشباه مجانين ، ينبغي أن نعطف عليهم ، ونبذل الجهد لعلاجهم ، ومن الخطأ أن نعاملهم كأسوياء ، فنضيع أوقاتنا ونفسد أعمالنا ، وينبغي أيضا أن نحصن الشباب من عدوى التقليد.
    وإذا كان الجنون العادي مرضا غير معد فجنون التقليد خطير العدوى .
    إن المنطلقين من أسر التقاليد هم وحدهم القادرون على النقد العلمي الرصين لتلك النظريات التي تأتينا من هنا وهناك ، وهذا النوع من النقد يؤدي إلى إنماء الفكر الإنساني ، ويقتحم على أصحاب تلك النظريات حصونهم بنفس أسلحتهم ، بل بأسلحة أقوى من أسلحتهم (لا مجرد الرمي بقذائف هشة من النعوت المغلظة ، وفي أحسن الأحوال بقذائف سطحية عابرة).
    ونسأل الواقفين عند حدود التقليد الجامد لمن سبق ، غير مستعدين لأي تجديد : " أتريدون أن يكذب الله ورسوله " !! بالطبع أنتم لا تريدون ، ولكنكم بموقفكم هذا توقعون الإسلام في صدام مع العصر ، وبالتالي سيبدو أمام الناس دينا لغير إنسان هذا العصر ، ذلك أن التقليد الجامد مطالبة صريحة إلى الناس بإلغاء عقولهم والتسليم بمقولات ومفاهيم واجتهادات العلماء والدعاة الذين لم يعيشوا عصرنا وظروفه ومناخه ، وكأن هذا الإلغاء ممكن ، وكأن هذا الإلغاء ممكن ، وكأن هذا التسليم هو أمر الله وأمر رسول الله ، وكأن هذا وذاك شأن المؤمنين المتقين، وما دري هؤلاء أن السادة العلماء أنفسهم لم يلغوا عقولهم حين قالوا تلك المقولات ، وحين فهموا تلك المفاهيم وحين اجتهدوا تلك الاجتهادات ، فكانت تلك المقالات والمفاهيم والاجتهادات على قدر ما آتاهم الله من عقول ، بل هم قد أعملوا عقولهم قدر طاقتهم .
    لإذن القضية ليست بين إعمال العقل وإلغاء العقل ن ولكن بين عقول سليمة متفتحة يقظة وبين عقول مريضة منغلقة.
    وقد أنتج الانحطاط في عالمنا الإسلامي مجموعة من الظواهر الخطيرة في سياق التقليد ، منها؛
    ـ نبذ و احتقار علماء العصر وعلوم العصر ، بل ومشكلات العصر أيضا ، وكأنها مشكلات قوم آخرين يعيشون في المريخ.
    ـ أننا نظرا لكوننا في مرحلة متأخرة من عصور الانحطاط الطويلة فإننا نحظى بأكبر قدر من الرواسب والشوائب التي تتجمع عادة في اسفل الإناء.
    ـ التقديس غير الواعي للتراث كلف المسلمين ما يقرب من خمسمائة عام من الجمود والانحطاط والتردي والظلام الفكري.
    إن الله تعالى فرض قدسية دينه ، ولا قدسية فيه لاجتهادات البشر ، ولو كان هؤلاء البشر من صحابة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ـ أو من الأئمة التابعين ومن بعدهم من الأتقياء الصالحين أو من الزعماء الملهمين ، مع إجلال كل هؤلاء بقدر اتباعهم الدين واتباعهم للني ـ صلى الله عليه وسلم . وديننا لم يرض للإنسان أن يقف خاشعا إلا أمام جلال الله تعالى ، ومع خشوع القلب فرض الدين على العقل أن يكون يقظا متدبرا متفكرا.
    هكذا الدين وهكذا الإنسان ، لك نحن ورثة الدين قد سجنا الدين ، وسجنا الإنسان ، سجنا الدين بتحميله كل اجتهادات القرون ، فصار عملاقا رهيبا وسيفا مسلطا على عقل الإنسان ، ومسخنا الإنسان بإخضاعه لتراث القرون ، فصار قزما لا يملك بدا من التسليم ، بل وترفع رتبته كلما استمسك بالتقليد.
    قال ابن حزم "المجتهد المخطئ أفضل عند الله من المقلد المصيب".
    إن متابعة الاجتهاد جيلا بعد جيل كفيل بتصحيح أخطاء السابقين ن وإن بقيت بعض أخطاء نتيجة الاجتهاد ، فهذه سنة الله في خلقه ، حيث خلق الإنسان غير معصوم ولا سبيل للصواب الكامل الدائم إلا للمعصوم.
    أما تقليد فإن أدرك صاحبه الصواب في الأمر فهو إدراك عفوي غير مقصود ، أي أنه مجرد صدفة فهو : يحمل في طياته التخلي عن أمر الله بالنظر والبحث والتحري ، أي الاجتهاد ، وهو نكوص إلى سنن من كان قبلنا : (إنا وجدنا ءاباءنا على أمة...) سورة الزخرف : 23
    وأخيرا لابد أن يفرز المنهج المنحرف (منهج التقليد) أثاره ، وتتسرب الأخطاء إلى عقل المقلد وسلوكه ... خطأ وراء خطأ .
    وهناك فرق بين أن يجتهد إنسان رأيه في أمر الله فيمضي به ويمضي معه ، فهذا اجتهاد بشر ، وبين أن يجتهد إنسان رأيه في أمر الله ، دونما نظر أو اجتهاد ، فهذا تشريع أرباب يدخل من بعض وجهه تحت الشرك ، ويندرج تحت قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله) (سورة التوبة 31) فقد اغتصب الأحبار حق التشريع ، وأطاعهم من أطاعهم ، فصار ذلك عبادة للأحبار من دون الله تعالة.
    ومن وسائل سجن الإنسان في التقليد قسرا إخضاعه لتراث القرون ، بل وإرهابه من المخالفة تحت دعوى الإجماع التي يندد بها الشيخ محمود شلتوت في كتاب "الإسلام عقيدة وشريعة" فيقول "ولكنهم قصدوا أن يرسلوا كلمة الإجماع ليسجلوا على المخالف لوازمها الشائعة بين الناس ، من مخالفة سبيل المؤمنين ومشاقه الله ورسوله ، إلى غير ذلك مما يتحرجه المسلم ، ويخشى أن يعرف به عند العامة ، وكثيرا ما نراهم يزوقون حكايتهم للإجماع بقولهم : " ولا عبرة بمخالفة الشيعة والخوارج أو بمخالفة المعتزلة والجهمية " ، ونحو ذلك مما يخيفون به ، وبهذا امتنع كثير من العلماء عن إبداء رأيهم في كثير من المسائل التي هي محل خلاف ، ضنا بسمعتهم الدينية ، وحيل بين الأمة وبين ما ينفعها في حياتهم العملية والعلمية".
    ويقول ابن تيمية : "اشتهرت المذاهب الأربعة وهجر وانحصر الأمر في اتباعها إلا قليلا منهم ، فقلدوا بعد أن كان التقليد لغير الرسل حراما ، بل صارت أقوال أئمتهم عندهم بمنزلة الأصلية ، وذلك معنى قوله تعالى : {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}(سورة التوبة : 31).
    فعدم المجتهدون ، وغلب المقلدون ، وكثر التعصب ، وكفروا بالرسل ، حيث قال : يبعث الله في كل مائة سنة من ينفي تحريف الغاليين وانتحال المبطلين، وحجروا على رب العالمين ـ مثل اليهود ـ أن يبعث بعد أئمتهم وليا مجتهدا ...
    يجب علينا أن نتحرر من قرارات التحريم التي نصدرها على كل جديد كما تحررت أوربا من قرارات الحرمان وإهدار الدم التي كانت تصدرها الكنيسة ، إن آراء موقف التزمت الديني تنبع من مصدر واحد سواء تحريم التليفون والراديو والقول بكروية الأرض أو تحريم تعليم المرأة (أيام قاسم أمين) أو تحريم عمل المرأة خارج البيت ، أو تحريم ممارسة المرأة حق الانتخاب والترشيح ، أو تحريم تنظيم الأسرة بمعناه المستقيم.
    إن المصدر الأساسي لكل هذه الآراء والمواقف الجامدة هو التقليد الأعمى لما كان عليه الآباء والأجداد ، وما كان يدعم سلوك الآباء والأجداد من أقوال الرجال بعد الرجال.
    ولم يعد للفكر المتزمت سوى نصوص دينية تدعم آراءه ومواقفه إما عن خطأ ووهم ؛ وإما عن جهل وعدم فهم لمرامي الشرع ، كذلك لم تعد له نصوص تحرم اختلاط المرأة "إياكم والدخول على النساء" (رواه البخاري ومسلم) "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب" (سورة الأحزاب :53) ، وعمل المرأة : "وقرن في بيتكن " تنظيم الأسرة "تروجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم " (رواه أبو داود).
    4 ـ المشكلة الصعبة في التقديس المسرف لكل شيء من التراث (وهو الدافع الحقيقي إلى التقليد) وكأنه قرآن أو سنة ـ هي الجانب النفسي، أي التحرر النفسي من التقديس ، وإلا سيظل العقل يعمل دون أن يصل إلى الإبداع ، ولن يعترف أنه غير مبدع أو أن إنتاجه ضعيف واجترار وإضافات هامشية ، بل سيظل يقول إن القديم كما يهو برمته ما زال صالحا تمام الصلاح رائعا غاية الروعة ، فلم تطالبوننا باعتساف التجديد؟! أم أن التجديد (وسيأتي حديث عنه) لحاجة جديدة ، والقديم بحمد الله يوفر هذه الحاجة على أكمل وجه.
    ولا أحد ينكر أن الأئمة العظام القدماء قد توفر لهم ما لم يتوفر لنا الآن ، كانوا قريبين من عهد النبوة ، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال " خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، (رواه البخاري).
    إن تنزيه الله ـ عز وجل ـ وتقديسه واجب إسلامي ، لكن الخطأ أن يتحول ـ كما حدث عند البعض ـ إلى تقديس كل ما له صلة بالدين ، فأي أمر وأي إنسان منسوب إلى الدين ( قيادة الجماع الدينية ـ رجل صالح ـ عابد ـ رجل عالم ـ رجل مجاهد ـ شيخ الطريقة ، مرشد الجماعة) كل هؤلاء يلحق بهم التقديس والتقدير المبالغ فيه من أتباعهم ، فتختفي الأخطاء ، بل تتحول إلى كرمات وعبقرية ، وتضخم قيمة الصواب.
    ومن عيوب العقلية المتدينة غير الراشدة استعداه الكبير لتقديس بغير حساب ، ومع التقديس يكون التسليم المطلق ، فلا تفكير ولا مناقشة ولا تمحيص ولا بحث.
    كذلك من عيوب هذه العقلية المتدنية ـ نتيجة لما سبق ـ استعدادها الكبير للتشدد في أمور الدين ولسان حالها يقول : (زيادة الخير خيرين) وكأن كل زيادة في الدين خير ، بينما كل نقص مهما صغر فهو أكبر الشرور ... وبهذا يختل الميزان الذي وضعه الشارع لحدود الخير وحدود الشر .
    والاستعداد للتشدد والاستعداد للتسليم بلا مناقشة يفرز ضعف البحث والنظر والتمحيص ووزن الأمور ، والتشدد في جانب ما يؤدي إلى التقصير غالبا في جانب آخر ، أي إلى عدم المحافظة على الأولويات الشرعية والغفلة عن بعضها والتقصير في بعضها والتهوين من بعضها.
    إن تقدير التراث حين يكون شهادة من عقل واع يقظ ومنصف فهي شهادة حق ، أما التقديس بلا تمحيص ولا تمييز فهو شهادة من عقل ممسوخ مصاب بعمى الألوان ، لا يميز بين كلام الله وكلام البشر ، فهو أشبه بشهادة الزور سواء كانت عن عمد أم عن جهل .
    5 ـ نحن في حاجة إلى فتح باب كبير وخطير بالنسبة للتراث ، وليس هو باب الاجتهاد ، فقد عالج كثير من العلماء هذا الموضع بما فيه الكفاية ، ولم يبق غير تتابع الممارسة العملية للاجتهاد من أخل الاجتهاد.
    أما الباب الجديد المقصود فهو باب فهم النصوص ، نصوص الكتاب ونصوص السنة ، باب التعرف المباشر على النصوص ، باب التعامل المباشر مع النصوص ، باب الاعتداء بالنصوص.
    وكل هذه الأبواب يمكن أن يقال إنها مفتوحة ويلج العلماء منها ولكن النقص الخطير ليس في مبدأ التعرف على النصوص ، ولا التعامل المباشر معها والاهتداء بها ، ولكن في استقصائها واستقرائها وفي استيعابها ، استيعابا كاملا إننا في حاجة إلى أن نضع ذلك بأنفسنا كما فعله أسلافنا بأنفسهم ، على شرط أن تكون لدينا الإمكانات المناسبة لذلك.
    افتحوا نوافذ العقل يدخل هواء الإسلام النقي ، وهو الإسلام الذي يستقي من مصادره الأولى من قرآن وسنة دون اختلاط باجتهادات البشر ، روائعها وإبداعها صوابها وخطئها ، وبالأولى إسرافها وغلوها و أوهامها ، مع اعتبار التراث هو سجل الجهد البشري والخبرة افنسانية في التعامل مع الدين والحياة ، وهذا التراث هو إنتاج العقل المسلم على مدى العصور ، والعقل المسلم لم يكن منزها عن الخطأ ولا مقدسا يوما.
    6 ـ إن التراث الإسلامي ثمرة عقول مسلمة مستنيرة عبر قرون طويلة ، عقول عملت في دأب وإخلاص لفهم وتطبيق كتاب الله وسنة رسوله..
    والتراث لذلك هو بعض أدوات فهم الكتاب والسنة ، ولكن ليس كل الأدوات ، حيث تبقى هناك الحصيلة النهائية الناتجة عن مراجعة التراث والمقارنة بين الآراء والاجتهاد المتعددة ، وهناك أيضا علوم العصر وقضايا العصر ، وهناك قبل ذلك وبعده عمل عقولنا وقد استوعبت كل تلك الأدوات في محاولة فهم الكتاب والسنة واستنباط الأحكام الشرعية منهما ، وهذا هو كمال الاتباع ، أي الاتباع المبدع.
    وهذا الاتباع المبدع المبشر أسلم الحلول لمشكلاتهم ، والمخرج لهم من الظلومات إلى النور ، وعن طريق يجد العقل في الشرع إجابة عن كل أسئلته ، وبهذه الإجابات كان الدين سكنا للعقل ومصباحا ينير له .
    وإذا كان الإنسان لا يمكنه أن يستغني عن عقله فإن العقل لا يمكنه أن يستغني عن سكنه وعن مصباحه ، فبدون السكن يضطرب وبدون المصباح يضل . ثم إن الدين سكن وملحا للإنسان دائما وأبدا ، حين قوته وحين ضعفه ، سكن له حين قوته فلا يقتله ولا العجب ، وسكن له حين ضعفه فلا تغلبه الحاجة ولا تسحقه الأزمة ، إنما هو التواضع مع حمد الله على فضله ، وهو العزم والتصميم على المضي لتحقيق الحاجة وتجاوز الأزمة مع سؤال الله التسديد والعون :{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما ءاتكم والله لا يحب كل مختال فخور}(سورة الحديد22 ـ 23).
    7 ـ هل الروح النقدية أي النظرة الفاحصة المتأملة التي يحض عليها الدين يمكن أن تتحلى وتظهر أكثر مما ظهرت عليه في آيات القرآن الداعية إلى التفكر والنظر ، في مثل قوله تعالى {قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} (سورة يونس1.1 ) وقوله سبحانه {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} (سورة سبأ46).
    فهل الدين انتهاز حتى يطالب بالنظر والفحص والنقد للقديم الموروث ليأخذ مكانه ، فإذا تم له ذلك واحتل الدين مكان الموروثات ، وجب أن يتغير المنهج فستبعد النظر والنقد ، ويتحول المنهج النقدي إلى منهج التسليم بدون فهم ، ويكف العقل عن النظر والفحص والتأمل ، اللهم إلا في محاسن الدين ، حتى لو كان قد دخل على الدين مدخولات خاطئة ومفهومات مسرفة باطلة؟!
    هل يمكن أن يطالب الدين العقل الإنساني باليقظة والعمل بكل ما أتاه الله من طاقة ، ثم يطالبه بعد ذلك بالسكوت والكمون والنوم العميق؟!
    لو فعل الدين ذلك لكان شأنه شأن تلك الجماعات العقائدية التي تطالب الحكومات القائمة بالحريات ، حتى تتمكن من الدعوة لمبادئها وتجمع الجموع حولها دون ضغوط أو تطيق وتقول إنها من حقوق الإنسان ، فإذا وصلت إلى السلطة بطريقة ما ( وغالبا ما تكون بانقلاب عسكري) تنكرت لحقوق الإنسان المزعومة ، وصادرت الحريات ، وكأنها تريد الحريات لها ولجماعتها لا للناس ، وكأنها من حقوق الجماعة العقائدية لا من حقوق الإنسان.
    8 ـ إن إحياء التراث ـ على أهميته ـ مثله مثل إحياء الأرض الموات أو الأرض المهجورة ، فكما لا تحيا الأرض بمجرد رفع الأحجار والنفايات منها أو بناء سور جميل حولها ، فهذه كلها مجرد تمهيد وتهيئة للإحياء ، فإن العقول لا تحيا بمجرد إزالة ما سيطر عليها من الأوهام والخرافات.
    إن الإحياء الحقيقي للأرض يقوم على : بذل العرق والجهد الدائب في الحرث والتسوية والبذر وفي التسميد ... وشق المصارف ... الخ.
    وكذلك التراث ، ليس الإحياء فيه فقط بتحقيق النصوص من عدة مخطوطات ، وإعادة الطبع بحروف جميلة ، وعلى ورق أبيض مصقول وأحيانا مع بعض الشرح والتعليق ـ فهذا كله تمهيد للإحياء.
    أما الإحياء فيكون بالدراسة الواعية الناقدة ، مع الانتفاع بذلك المجهود الرائع الذي بذله سلفنا في معرفة الدين واستخراج كنوزه ، وننفي أثناء ذلك كل غث ، ونجدد مسيرتنا.
    9 ـ إن خروج العقل المسلم من أزمته المعاصرة يجعل من الضرورة قراءة ومعرفة ما عند الآخرين ـ كل الآخرين ـ وإذا كانت معرفة من حولك والعالم و محيطك (والعالم هو محيط الإنسان المعاصر حيث أصبح كقرية صغيرة) ـ مسألة ضرورية للتكيف الاجتماعي ، فهي أكثر ضرورة للإصلاح والتغيير الاجتماعي والدعوة للخير بالمعروف والنهي عن المنكر.
    طبعا هذا إلى جانب معرفة تعاليم الدين وأحكام الدين وآداب الدين ، فلكي تنكر المنكر لابد أن تعرف أحوال مرتكب المنكر ، بجانب معرفتك بحدود المنكر وأحكامه في الشرع.
    إن الرفض المطلق للحضارة الحديثة يعني عدم التعمق في دراسة تلك الحضارة وعدم فهمها ، وإذا نحن لم نفهم الحضارة الغربية جيدا ـ وهي السائدة في عالمنا المعاصر ـ فلن نعي عصرنا جيدا ـ هذه واحدة.
    وما دمنا لم نع عصرنا فلن نفهم الدين الفهم المطلق المنبثق عن عقل هذا العصر ، ولن نجتهد الاجتهاد المطابق لظروف العصر ـ هذه الثانية ـ بل سننعزل ونتقوقع لنعيش سعداء حالمين أو تعساء بعقلية أجدادنا الأقربين ـ هذه الثالثة ، وهي ثالثة الأسافى.
    إننا حين نأخذ عن الغرب ونتجاوز مشاعر الرفض ، لن نقف عند العلوم الطبيعية وما نتج عنها من صناعة وتكنولوجيا ، بل نأخذ ـ وفي يدنا ميزان الحق ـ كل جهد عظيم في مجال العلوم الإنسانية ، ولنحذر التطور الساذج الذي لا يرى الحضارة الإلهية .
    (انظر كتابات وتحليلات أمثال أبي حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري ، وابن تيمية في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن ، ومحمد رشيد رضا وحسن ألبنا وسيد قطب في أواسط القرن الرابع عشر الهجري).
    وإذا جاز لآبائنا الرفض يوم كان الغزو ضاريا وشاملا (عسكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا) ؛ لأنه لم يكن هناك سبيل للدراسة والتمحيص والخيار ، فإما رفض يساعد على الصمود ، وإما قبول يساعد على الاستسلام ـ فإن الرفض لا يجوز لنا اليوم ونحن نستطيع الدراسة والتمحيص والاختيار ؛ أي نستطيع أن نأخذ وندع.
    وإذا جاز لآبائنا أن يقفوا الدفاع عن الإسلام يوم كان الغزو فتيا وضاريا وهم محصورون في حصونهم الثقافية ـ فإن الدفاع لا يجوز لنا اليوم ونحن نستطيع أن نقدم الإسلام في وسط حصون الغزاة السابقين.
    وإذا جاز لآبائنا أن يقفوا موقف الدفاع ذاك ، يوم كان الغزو وهم محصورون في حصونهم الثقافية المهددة ، فإن الدفاع لا يجوز لنا اليوم ونحن نستطيع أن نقف موقف الدارس الناقد المستفيد من التراث من ناحية ، كما نستطيع أن نقدم الإسلام كقيم رفيعة في وسط حصون الغزاة السابقين من ناحية ثانية.
    حتى تعبير الفكر المستورد لا أرى فيه ما يكفي لإدانة كل فكر يأتي من الخارج ، والصحيح أن نصف الفكر بمضمونه الصالح أو الفاسد ، فكم من فكر مستورد وصالح ، وكم من فكر محلي وفاسد.
    هل ما عندنا وما ننتجه صالح ، وكل ما عند الغير شرقا وغربا فاسد ؟
    ألم يكن الفكر الإسلامي فكرا مستوردا بالنسبة لشعوب سوريا ومصر والمغرب في القرن الأول الهجري؟
    وأليس الفكر الإسلامي اليوم فكرا مستوردا بالنسبة لشعوب آسيا وأفريقيا بل وشعوب أوروبا وأمريكا؟
    إن الحضارة الحديثة ، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين ، أضحت حضارة العالم لا حضارة أمه بعينها ، وإن أمم العالم بأسرها تسهم في إمداد هذه الحضارة وتطويرها ، ولا ينفي هذه العالمية كون بعض الأمم لها فضل سبق أو فضل عطاء على غيرها ، فإذا سجلنا التيارات القوية العاملة فوق السطح فلن تعدم ملاحظة القوى الجديدة التي تسهم في الحضارة ، مثل اليابان والصين ، وإذا تأملنا الحركات البطيئة في القاع أو على الأطراف فلن نعدم أيضا ملاحقة القوى الناشئة من أقطار العالم الثالث ، وما تعززه من إشعاعات خافتة ذات أثر في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الفكري ، وهذا يعني أن الرجل الأبيض لم يصبح وحده صاحب هذه الحضارة ، وأنه قد مضى زمن انتساب هذه الحضارة إلى الرجل الأبيض وحده.
    وأخيرا إذا كان غيرنا من الشعوب لا يستطيع أن يعزز من القيم الروحية في صورتها الوضيئة ، ولا يملك القدرة الكافية على تصحيح اتجاه الحضارة الحديثة ن فهل نكون نحن المسلمين من اليقظة والوعي بحيث نؤدي هذا الدور؟
    1. ـ المعاناة المزدوجة ضرورة ، أي العي في معاناة تعلم معارفنا التراثية ومعاناة التعرف على معطيات الثقافة الحديثة.
    أولا : لماذا هي ضرورة ؟
    المعاناة بجناح واحد لا تمكن الطائرة من الطيران ؛ لابد من جناحين يعملان معا..
    من عاش الحضارة الغربية وحدها فلن يكون غير مجرد أمريكي أو إنجليزي أو فرنسي (مسخ) ؛ لأنه منقطع إلى الجذور الأمريكية أو الإنجليزية أو الفرنسية ، الجذور المتأصلة عند الأمريكي والإنجليزي والفرنسي والتي وضعها مع حليب أمه ، وتشربها مع لعب الطفولة ، ومع ممارسة الحياة الأمريكية بجميع مجالاتها وإشعاعاتها.
    ومن عاش التراث الإسلامي وحده فلن يكون غير مجرد شبح لمسلم القرن الماضي ، لأنه منقطع ‘ن أرض الواقع المعاصر.
    ثانيا اتجاهات المعاناة (أو توجهاتها) :
    أ ـ الاتجاه إلى الأصول مع الفروع ، سواء أصول التراث من قرآن وسنة و لغة تحملها) مع علوم التراث ، أم أصول الحضارة الغربية وجذورها عوامل التكوين ) مع آثارها وثمارها وظواهرها.
    ب ـ الاتجاه إلى مناهج العلوم مع العلوم ، سواء أصول الفقه مع الفقه ومناهج التفسير مع التفسير ، ومناهج البحث العلمي العامة ، ومناهج البحث الخاصة لكل علم ، مع دراسة العلوم الحديثة.
    ج ـ الاتجاه إلى الحياة مع الدراسة ومخالطة صور الحياة الإسلامية ؛ أي ممارسة العادات والآداب والمعاملات الإسلامية قدر الإمكان ، ومخالطة ما ينفعها من صور الحياة الغربية في بيئتها أو صورها المقتبسة في مجتمعنا من رياضه وفنون وإنشاء منظمات اجتماعية.
    والمهم الحذر من الاستغراق في توجيه واحد ، أو الإهمال الكامل لأحد التخصصات.
    لابد من الانفتاح الفكري لعقل يعاني من علل وأزمات جعلته مقطوعا ، عن الإيجابية بين قيمنا وبين العلوم الفكر الغربي الحديث ... ويزيد القدرة على تحمل الشك والقلق ، ويعطي الحافز على مزيد من النظر والبحث دون الهرب لهثاء وراء منظومة عقائدية (فكر جاهز معلب) تريح العقول من عناء البحث.
    ويضاعف هذا الانفتاح كذلك القدرة على التفكير والاجتهاد ، وأخيرا يدفع الآراء والاتجاهات المختلفة إلى الحوار الجاد فيما بينها.
    ونرجو من وراء كل هذا النشاط العقلي ميلادا جديدا لعقول قادرة على الإبداع ـ بعد أن رمت بمراحل القدرة على اليقظة بالتفاعل الإيجابي وبسعة صدر للرأي المخالف ، بل وتقدير هذا الرأي من حولهم ـ وشخصيات سوية تعتز بتراثها وتقدر تراث وعلوم الإنسانية ، وتعي حاضرها والعالم من حولها ، ومن ثم نأمل منها الإبداع.
    يقول بريفولت في كتابه (Making of humanity) : " إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد على معلمين من العرب في الأندلس ، وليس لروجر بيكون ولا لسميه الذي جاء بعده (بقصد فرنسيس بيكون) الحق في أن ينسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي ، فلم يكن روجر بيكون إلا رسولا من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوربا المسيحية وهو لم يمل قط من التصريح بأن تعلم معاصريه اللغة العربية وعلوم الأدب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة (انظر محمد إقبال : تجديد التفكير الديني : طبعة لجنة التاليف والترجمة).
    ولكن دارت الدائرة ، تغيرت الأوضاع ، وينبغي أن نسعى إلى تعلم الخير الذي لدى غيرنا ، وصدق الله العظيم إذ يقول {وتلك الأيام نداولها بين الناس} سورة آل عمران14.
    جاء دورنا نحن المسلمين ، فينبغي ألا نمل قط من التصريح بأن تعلم معاصرينا للغات الغرب وعلوم أمر لازم لنهضتنا في علوم الحياة.
    وإذا كنا نحرص دائما على بحث فضل المسلمين على الحضارة الغربية ، وإذا بدرت من أحد الغربيين كلمة تقدير لفضل المسلمين فرحنا ، ثم رحنا ندندن حولها ونقول : الفضل ما شهدت له الأعداء .. إذا كان هذا قد صدر من أعدائنا ـ وهم من هم قلة تقي وقلة ورع ـ فما لنا نحن الأتقياء الورعين لا تذكر الفضل لأهله ولو كانوا أعدائنا؟!!
    لذا سأحاول بدافع من تقوى المسلم وورعه أن أذكر بعض فضل أعدائنا علينا أو بمعنى أصح ، فضل حضارة أعدائنا ؛ إذ إنهم لم يقصدوا إلى خيرنا قصدا ، بل حاول كثير الإضرار بنا ..
    فمن نواحي الفضل :
    1 ـ ممارسة أنماط مختلفة لنظم الحكم وتفصيلاتها.
    2 ـ وكذلك أنماط مختلفة الاقتصادية.
    3 ـ منهج البحث العلمي في صورته التفصيلية.
    4 ـ الإنتاج العلمي في مختلف الميادين.
    أما مجال الدين والقيم والأخلاق ، فقد حفظها الله لنا خالصة نقية في كتابه وسنة رسوله ، كما خدمها الأسلاف خدمات كبرى ، قدمت الكثير ، وتدعونا في الوقت نفسه إلى المزيد من الجهد لاستئناف الخدمات التي تعطلت مع الأسف قرونا طويلة.
    وهنا نقول : ماذا يمنع المسلم من السعي للفوز بخير الدنيا وخير الآخرة ، وقد عرفت الطريق إلى كل منها ، وإذا كان الإيمان هو المهمة الكبرى للعباد، فالعقل هو السبيل إلى أداء تلك المهمة ، كما أنه السبيل إلى كل نهوض وتقدم ، ولكن ما هي عوامل الموقف السلبي من الفكر الإنساني الذي ينتجه غيرنا ؟ هناك من يفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية فيري أن نأخذ الأولى وندع الثانية ، والواجب أن نأخذ النافع من هذه وتلك سواء بسواء والفيصل هو مدى علميتها ، وإن كان هناك نقص علمية الثانية فهذا لا يعني إهمالها ، بل نأخذها ونفيد منها ، أو القدر العلمي فيها ، ونسعى للإسهام في تنميته.
    وإذا كان هناك من يتعرض بالتجريح لبعض النظريات (سواء في العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية مثل نظرية دارون ونظرية فرويد) فإن النقد والتمحيص من المختصين المتمكنين لا ممن قرأ بضع كلمات أو سطور أو كتب منقولة عن ناقل ـ هذا التمحيص هو الذي يرجى من خلاله تمييز النافع لنا من غيره.
    إن هناك من يرمي من الفكر الإنساني كله بالكفر وبالجاهلية ، والحق أن الفكر الإنساني فيه بقية هدى أنتجتها الفطرة الكامنة في الإنسان وفيه جهد العقل الإنساني الذكي المتراكب على مدى عمر الإنسانية وفيه مع هذا وذاك قدر من الخطأ والانحراف يزيد وينقص.
    وقد ترتب على هذه السلبية من الفكر الإنساني موقف غير صحيح يخفي وراءه روح الانعزالية ، ويخفي وراءه روحا مغالية في التعالي ، والشعور بالتعالي يؤدي إلى إخفاء ما عند الغير من أشياء نافعة ، والتهوين من أمره ، مما يقطع الطريق إلى معرفة إلى معرفة الحق والخير ، ويخفي
    هذا الموقف السلبي من الفكر الإنساني روحا يملؤها الشعور بالنقص (الشعور بالنقص كما قد يؤدي أحيانا إلى الانبهار بكل ما عند الأقوى فهو يؤدي أحيانا أخرى إلى الخوف والحذر إزاء كل ما عند الأقوى).
    إن الصراع ليس هو جوهر العلاقة بين الحضارات ن بل الجوهر هو التفاعل والتبادل ، والأخذ والعطاء على أن التفاعل قد يظلله أحيانا بعض مظاهر الصراع ، يسبقه أو يصحبه أو يبعه حرب أو حروب لمحاولة بعض الحضارات أن تفرض سلطانها على الآخرين.
    11 ـ خلق الإنسان ليعمر هذه الأرض ، وقد بذل العقل الإنساني جهودا هائلة في سبيل هذا التعمير ، واهتدى بهدي الله حينا ، وانحرف بالفعل ، واختلف مجالات الانحراف ودرجات الانحراف ، فهل يا ترى نهدر هذا الجهد البشري كله على مدى القرون؟
    والاطلاع على المستقيم من الجهد البشري والإفادة منه مطلوب لا جدال فيه ، حتى لو اعتراه انحراف جزئي ، مادام قد اختلطت الجهود المستقيمة بالجهود المنحرفة ولا سبيل لتمييز هذا من ذاك ، فلا يدفعنا هذا إلى التضحية بنفع كبير مخافة من لحاق ضرر قليل.
    ثم إن القسم المنحرف يجب أن نسعى دائما لاجتناب مواطنه التي قد نقع فيها نحن وغيرنا من بني البشر...
    هذا وقد ساعدنا الأسلوب العلمي الحديث على تجنب كثير من مواطن الزلل في التفكير الإنساني ، لا كل المواطن ، وبقدر تجنب الزلل يكثر الخير في هذا الإنتاج العلمي الحديث.
    ثم إن هذا الإنتاج العلمي هو الذي يتكيف مع حياة العصر الحديث الذي نعيشه ، فهل سيدفعنا كل ذلك إلى دراسة هذا الإنتاج العلمي دراسة عميقة؟
    12 ـ يجب أن نصحح النظرة إلى أصالتنا ، وبعد هذا التصحيح ينبغي إقرار أمرين : أولهما : المحافظة على القيم.
    ثانيهما : الاقتباس من الحضارات الأخرى في جميع المجالات والإفادة من التجارب التي لديها ، وذلك يقتضي دراسة هذه التجارب دراسة جادة وعميق.
    وإذا لم نحافظ على القيم ضاعت شخصيتنا ، وإذا لم يتم الاقتباس حدث الانعزال ، ولابد أن نلاحظ أن الانعزال يصبح أكثر سوءا وضررا ، بل يكاد يكون مستحيلا في عالم أضحى أكثر اتصالا وترابطا وتشابكا في مصالحة وقضاياه الاقتصادية والسياسية والفكرية.
    إن المقوم الأساسي لأصالتنا هو الدين ، وماذا يعني الدين؟ الدين يعني فلسفة معينة للحياة ، وهو ما يسمى بالمصطلح القديم العقيدة ، ويتبع العقيدة مجموعة من شعائر العبادات تنمي هذه العقيدة ، ثم مجموعة من القيم الخلقية هي الأخرى تنمي العقيدة ، كما تقوم العقيدة أيضا بتدعيم الأخلاق .
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de