مذكرات بقرة مجنونة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 09:19 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-22-2004, 09:35 AM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
مذكرات بقرة مجنونة

    مذكرات بقرة مجنونة - تأليف: إسماعيل همتي ترجمة: فاضل بهزاديان
    من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق
    *
    *
    *


    أنا بقرة


    بقرة عادية. مثل بقية الأبقار الأخرى. ولكنني سمعت كلاماً يقال حولي. قد كنت أتمنى أن لا أسمعه! من الممكن أن يكون صحيحاً؟ قد أكون بقرة غير عادية، وأنا أعرف ذلك؟ ومن الممكن أنني غير جميع البقر؟ وربما أنني لست بقرة؟!‏

    لا. ولكن أنا بقرة، وعلى هذا الأساس إنني بقرة، وقد أكون موجودة هنا، لأتحدث إليكم. صحيح أنا بقرة، والدي أيضاً ثور قوي، ونشيط. مما لا شك فيه أن والدي كان ثوراً. صحيح أنه ليس من سلالة والدتي لكنه في المحصلة النهائية هو ثور. ولأنني ثمرة هذا التواصل بين البقرة، والثور؛ إذاً أنا بقرة. منذ فترة سمعت كلاماً حولي. فيه شيء من الغرابة، وقد تعجبت كثيراً، مثلاً يقولون لا، لماذا هذا الشك. حتى أفسح المجال بالقول: أحقاً أنا بقرة أم لا.؟ وبعيداً عن كل هذه التأويلات وعن المسائل الجينية والوراثية، وإن كان والداي هما في الأساس من البقر أم لا؟‏

    الوضع الخارجي لجسمي يشير إلى أنني بقرة! قدمي، جسمي، رأسي، عيوني، وأهم من كل ذلك صوتي وهذه كلمة ماع، التي أقولها مااااااع.‏

    من الممكن أن تقولوا بأن جزءاً من جسم الكركدن يشبه جسمي، أو عدداً كبيراً من أرجل الحيوانات تشبه قدماي أو عيوني ماذا تقولون، الجميع يعرف أن العيون البقرية هي للبقر، فهل عيوني غير عيون البقر؟ انظروا جيداً، وهل نظراتي غير نظرات البقر؟‏

    نعم أنا متأكدة أن الأشخاص الذين لهم أعين يطلق عليها عيون البقر، يعرفون ذلك. أو الذين لهم معرفة بالعيون يؤكدون ذلك.‏

    من الممكن أن يكون بعض من طباعي وأخلاقي ينسجم قليلاً مع البقر ويشبه إلى حد ما البشر. وهذا ليس ذنبي، بل هذا ظلم بسبب انتمائي إلى هذه السلالة، هنا بيت القصيد، أبعدت عن والدتي، وسيق بي إلى بلد آخر بعد الرضاعة مباشرةً. هذا البلد الذي يختلف جغرافياً وثقافياً عن بلدي. كنت أقبل لو أنهم أخذوني إلى مزرعة أخرى. وعندها كنت أرى والدتي كلما ذهبت إلى المرعى، وهكذا أشبع عاطفتي، برؤية والدتي، أو على الأقل لو أنهم أخذوني إلى قرية مجاورة، على الأقل أسمع صوت أمي بطريق الصدفة من بعيد، وعندها أهدأ قليلاً… أما أن يأخذوني إلى بلد آخر يختلف عن بلدي في مائه وهوائه وطعامه وعلفه وعاداته وتقاليد بقره وطريقة رعيهم للبقر تختلف عن طريقتنا. لغتهم تختلف عن لغتنا، ولهذا السبب لا أستطيع أن أتفاهم معهم بالأخص مع البقرات اللواتي من عمري.‏

    أنتم تعلمون أن عامل اللغة هو الرابط الذي يربطنا، مرة أردت أن أتكلم معهم فلم أستطع فكانت الإشارة والإيماءة هي الوسيلة للتفاهم بيننا، حزنوا كثيراً علي وعلى الذي أنا فيه. لم أستطع أن أنقل لهم مشاعري ضحكوا لأنهم لم يستطيعوا فهم شيء مما قلت. في النهاية ضجروا وضاقوا ذرعاً وقالوا: اذهبي عنا. إلا أن أحدهم استطاع أن يفهمني، ولهذا قررت: أولاً أنه يجب أن أذهب لأتعلم لغتهم وبعدها أستطيع أن أتفاهم معهم.‏

    هذا العمل كان جيداً بحد ذاته، فمنهم من كان يقول لي بلؤم (كان الأجدر بك أن تتعلمي لغتنا بعد ذلك تأتي إلى هنا) اثنان من هؤلاء كانا غير لطيفين عندما قالا لي: (أنتِ التي كنت تريدين اللجوء إلى هنا، كان عليك أن تتعلمي لغتنا، حتى لا تضيعي عنا وتتشردي).‏

    انظروا! يهيئ لهم أنني لجأت إلى هنا! هم لا يعرفون بأن بلدي أفضل من هنا، والخضرة الدائمة هناك جميلة، وضعي الصحي كان أفضل من هنا، يجب أن لا تضعوا هذا الكلام في خانة الغرور هذه هي الواقعية بعينها. لأننا بني البقر نختلف عنكم يا بني البشر. يوجد بينكم أنتم من باستطاعته أن يضع أطفاله عند العائلات الميسورة لأنه لا يستطيع أن يهتم بأطفاله ويأخذون أطفال البلدان الجائعة إلى البلدان المتخمة، حتى لا يموتوا من الجوع. ولكن نحن البقر عندما نكون أصحاء الجسم والمزاج وسلالتنا جيدة وحليبنا جيد ولحمنا لذيذ يبعدوننا عن أمهاتنا ليبيعونا إلى بلدان أخرى وهذا من سوء حظنا أن البلد الذي تكون أبقاره غير جيدة يبيعوننا لهم لتحسين وضع أبقارهم.‏

    لن أزعجكم ولن آخذ من وقتكم الكثير، أول صدمة تلقيتها في طفولتي هي إبعادي عن بلدي وأخذي إلى بلد آخر لا أعرفه للأسف.!‏

    في ظهر أحد الأيام شخصان غريبان إلى مزرعة الأبقار التي كنا نتواجد فيها، تصورنا أولاً أنهم من قبل إدارة الصحة والبيطرة جاؤوا لمعاينتنا. أنا لم أرهما من قبل. بعد ذلك اتضح لنا ماهيتهما، أول شيء فعلوه إبعادي عن والدتي.‏

    في البدء تصورت أنهم يريدون وزني، اعترضت والدتي بالصياح مااااااع، أحدهم قال لها اسكتي بلؤم، سكتت والدتي بعد ذلك، من الممكن أنها خافت من أن يعذبوني أكثر من ذلك وحفاظاً على سلامتي أخذت جانب الصمت، من الممكن أنها قررت أن تطعن أحدهم بقرونها، لتنبيه ذلك الوغد.؟‏

    لم يأخذوني إلى الميزان ولم يرجعوني إلى أمي، سحبوني بشكل مقزز إلى الشاحنة الصغيرة التي كانت واقفة خلف الموقف.‏

    لم أكن أعرف ما يحدث، صعدت إلى الشاحنة بالقوة، وربطوا بالحبل قدمي بحديد الشاحنة حتى لا أتحرك أبداً، وبعد ذلك عرفت لماذا هذا الربط الشديد، حتى لا أقع عند المنعطفات.‏

    رأيت أحدهم يخرج النقود ويعدها ويسلمها إلى صاحب المزرعة وسلم عليه وانصرف. إنهم عديمو العاطفة لم يسمحوا لي بوداع والدتي، حتى لم يقولوا لنسمح لها بتقبيل والدتها عند الوداع الأخير.‏

    أخذوني إلى مكان آخر فيه أبقار بعمري، لاحظت أنها منزعجة مما حدث معها أيضاً، إحداها كانت تبكي بصمت، والحزن مخيم على المكان الذي نحن فيه. قبل الغروب وصلت شاحنة كبيرة، وضعنا فيها. كان العمال يتعاملون معنا بعنف، وقد أخذنا بقوة. وعلى الرغم من أنه كان يجب أن يأخذونا بلطف وبكلام جميل، بالعكس كان كلامهم لنا عنيفاً ووحشياً.‏

    لا أعرف ما عملكم؟ ولكن هل سمعتم بحامل العصا الذي يضرب البقر! حتى تلك اللحظة كنت لا أعرفه، أقول لكم أنه يجب أن نفرق بين الراعي المسكين الكادح وحامل العصا قاسي القلب، كانت الشاحنة مكشوفة وغير مغلقة، والبرد قاسٍ أزعجنا، لم يسمحوا لأنفسهم بأن يضعوا شادراً حتى ولو كان قديماً ليحمينا من البرد، لكم أن تتصوروا ماذا حصل لنا في الشاحنة، البرد أزعجنا، قسم منا أغمي عليه وقسم آخر بكى من شدة الفراق، وقسم آخر قتله الخوف من المصير المجهول.‏

    إحدى البقرات مرضت ونامت. وعند المنعطفات، عندما تتوقف الشاحنة فجأة كنا نقع على بعضنا. إحدى البقرات فقدت وعيها من شدة الألم وخفنا عليها من الموت.‏

    أشرقت الشمس، وعم الدفء المكان، وتحسن وضعنا، كنا نرى الناس من خلال الثقوب، ثقوب الشاحنة. رأينا ونحن في الطريق مزارع جميلة وفيها مراعٍ كثيرة، ولكن من شدة البرد والإرهاق لم نقل حتى مزاحاً كم هي جميلة هذه المزارع، لأنه لم يكن لدينا شهية للأكل. وعندما وصلنا إلى مدينة لم نعرف ما اسمها. كان الناس ينظرون إلينا باستهزاء، ويشيرون إلينا بسخرية وكأنهم لم يروا بقراً من قبل. من الممكن أن وضعنا الخارجي هو الذي أدهشهم وأضحكهم لأننا كنا نقف إلى جانب بعضنا البعض، ومظهرنا مضحك؟‏

    السائق وصاحبنا الذي اشترانا، وقفا إلى جانب مطعم في منتصف الطريق ليتناولا طعام الإفطار وهناك تجمهر الناس لرؤيتنا، وكأنهم لم يروا بقراً.‏

    منهم من كان يقول: أبقار ميتة، لماذا لا تتحرك؟ كأننا بقر ممسوخ، لماذا لا نتحرك؟‏

    الصغار كانوا يضربوننا بالحجارة كي نتحرك، أما كبار السن كانوا ينظرون إلينا ولا يؤذوننا. إحدى الحجارة أصابت عيني وراحت تدمع من شدة الألم، أدرت وجهي حتى أرتاح من تراشق الحجارة، بعد فترة وجيزة مل الأطفال منا فتركونا بحال سبيلنا وراحوا يلهون بعيداً.‏

    بعد أن أنهى صاحبنا والسائق طعامهما، وآثار الشبع بادية على وجهيهما، وفميهما اللذين ما زالا يمضغان الطعام وهما يتحدثان، وعلى الرغم من أننا كنا جياعاً لم يقولا لنعطهما علفاً ليأكلوا، بل تركونا هكذا وانطلقوا.‏

    قلت سوف يطعموننا بعد ساعة، مضت ساعة ولم يأت الطعام. كنت أتسلى بقراءة الكتابة على مؤخرات الشاحنات والحافلات، لم نتناول الطعام يوماً كاملاً، وعندما جاء المساء قالوا إنه يجب أن ننام بدون طعام أفضل لنا.‏

    وصلنا الساعة التاسعة مساءً أنزلونا بعنف من الشاحنة إلى مكان كبير لم أقو على الكلام من شدة التعب، كان الظلام يخيم هناك، كان في المكان عدد كبير من الأبقار ولكنها كانت جميعها نائمة. بحثنا عن زاوية لننام، كنا غرباء، وحزينين، كنا نفكر بمستقبلنا، بوالدنا ووالدتنا، ببلدنا الذي كنا فيه، والذي سلخنا عنه بالقوة ماذا ينتظرنا في المستقبل؟ لا أعرف.‏

    تذكرت الكتابات على مؤخرة الشاحنات (آه من الغربة) (وحيداً وحيداً) (الغريب التائه) (تحية لصديقي) (أنا في انتظارك أرجع) (أحبك يا أمي) (صديقي أين أنت) وهذا الذي كان يكتب اسم مدينته. (مدينتي عشق آباد) (مدينتي باريس) (مدينتي اسطنبول) (مدينتي هامبورغ) (مدينتي موسكو) (مدينتي دلهي) (مدينتي صوفيا) قلت في نفسي: يا لسعادة أبقارهم إن أبقارهم تعيش بسلام مع العلم أنني لا أعرف معنى السلام والحرية الشخصية. أحدهم كتب (مدينتي العالم).. قلت لنفسي: ما هي مدينتي؟ بعدها عرفت لماذا يكتب السائقون هذه العبارات وهذه الشعارات وما الحكمة من ذلك.‏

    صحيح. أليس من الممكن أنهم تحركوا اتجاهنا! لا، لا تقلق، الموضوع مرتبط بشيء آخر! نعم.



    نواصل








                  

01-22-2004, 04:13 PM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مذكرات بقرة مجنونة (Re: rani)


    في اليوم التالي



    وعند الساعة التاسعة صباحاً، وكنا حتى ساعتها لم ننم بعد، فتح باب الصالة فجأة، ودخل أحدهم وبيده سوط، نظر إلينا ثم قال لأشخاص ثلاثة خارج الصالة بأن يدخلوا. ثم بدؤوا ينظرون إلينا، كان الرجل الذي يحمل السوط يتكلم معهم بلغة لم نفهمها، فجأة رفع سوطه وضرب إحدى الأبقار بقوة. سألت نفسي لماذا يضرب تلك البقرة المسكينة، وماذا فعلت ليضربها بعنف. شرع يكرر العملية ويضرب الأبقار واحدة تلو الأخرى. بعض الأبقار كانت نائمة، أجبروها على الاستيقاظ فقد أُصيبت بصدمة من هذا الضرب، جاء الرجل الذي يحمل السوط ونادى هيا انهضوا جميعاً بسرعة وراح يضرب الأبقار، من حسن حظي أنني لم أضرب لأنني نهضت بسرعة إلى الصالة. الرجل الذي يحمل السوط أدار وجهه إلى الأشخاص وهو يكرر فعلته بضربنا.‏

    كانت بجانبي بقرة شابة سألت بقرة أخرى أكبر سناً: (ما الموضوع؟!)، أجابتها: هذا الرجل بائع، وهؤلاء السادة مشترون، يريدون شراءنا.‏

    في تلك اللحظة أحسست بخوف غريب يدخل في قلبي نظرت إلى الأشخاص الذين يودون شراءنا، لأرى من فيهم الأفضل إنسانياً حتى أدعو بأن يشتريني، ولكن الثلاثة كانوا على شاكلة واحدة، أحدهم كان يضع القبعة البيضاء،وشكله مثل أبطال أفلام رعاة البقر ويداه في جيبه، وهو ينظر إلينا بدقة وعمق ويدخن سيجارته.‏

    إحدى البقرات صاحت بصوت عالٍ قائلةٍ: (عسى أن لا أقع بين يدي ذلك الرجل ذي القبعة البيضاء)، عرفت بعد ذلك أن هذه البقرة كانت تنظر إلى الزبائن نظرة ثاقبة لترى من هو الأفضل حتى تكون من نصيبه، ولكن البقرة التي بجانبها قالت بنبرة يائسة (ماهو الفرق بينهم، بنو البشر كلهم متشابهون، المهم أن تكون مزرعته كبيرة وواسعة حتى لايقتلنا الجوع).‏

    ولكن إحدى البقرات قالت لإحداهن: (لايختلفون عن بعضهم البعض، كل إنسان على سجية خاصة به، أحدهم مزرعته كبيرة وزاهرة ولكنه بخيل، وأحدهم أيضاً يضع العلف أمامك وبعد ذلك يضع سطلاً من الماء ويمسح بيده على رأسك وبعضهم من يعطيك الطعام ثم يرفسك بقدمه ويشتمك).‏

    إحدى البقرات قالت أيضاً: بعض هؤلاء ينزعجون عند أكلنا العلف ويقولون: كم تأكل هذه البقرة، وهم يريدون أن ندر عليهم الحليب دون أن نأكل الطعام وكأننا بقرات آليات.‏

    بدأ النقاش يأخذ منحىً ساخناً، انهمك الرجل ذو السوط مع الزبائن، وبهذا سنحت الفرصة لتجتمع كل بقرتين أو ثلاثة مع بعضهن البعض للتحدث.‏

    إحداهن قالت: (عسى أن لا يأخذوني إلى مكان حار، لأنني أتحسس من الحرارة).‏

    إحداهن أيضاً، قالت: (عسى أن يأخذوني إلى مكان نظيف، لأنني لا أحبذ المرض).‏

    وإحداهن أيضاً قالت: (عسى أن يأخذوني إلى مزرعة على جانب الطريق لكي أسمع أبواق السيارات، وحتى لا أضجر).‏

    إحداهن قالت أيضاً: (ستكون سعيدة الحظ من تأتي في مزرعة لصاحبها أطفال، لأن الأطفال يحملون المحبة والصفاء).‏

    إحداهن قالت : (طبيعي لأن عاطفة الأطفال أقوى ومحبتهم أكبر من الآخرين).‏

    أيضاً قالت إحداهن: (المرأة، فقط المرأة، ادعوا أن تقعوا في مزرعة صاحبتها امرأة، لأنها مرتبة ودقيقة في أعمالها وتعرف قيمة الحليب، وهي لا تنق، أين بقية الحليب؟ لأنها تعرف، منهم من يعتقد أن صهريجاً من الحليب قد حل في بطوننا!).‏

    إحدى البقرات قالت: (البقرة سعيدة الحظ هي التي تقع في مزرعة حكومية! لأن الطعام مؤمن هناك وميزانية هذا الطعام قد صرفت ولا يفكرون بالربح والخسارة، حتى ينتقموا وتكسر فوق رؤوسنا جرارهم).‏

    إحداهن قالت: (أنت تعرفون جيداً لماذا لا يهتمون لأن المال هو من جيب الشعب).‏

    إحداهن أيضاً قالت: (أجمل دور في حياتي هو عندما كنتُ تحت رعاية امرأة في ذلك البيت. حينما كانت لا تضع ربحها وخسارتها في حسابي).‏

    إحداهن قالت: (أنا أوافق أن أكون مع الأطفال لأن هذه الفترة هي أفضل حقبة في حياتي، عندما كنتُ في المزرعة التي كان صاحبها وأطفاله الصغار يحبونني كثيراً حتى كانوا يأخذونني إلى النزهات، أحدهم رسمني).‏

    إحداهن قالت لـها: (ياسعيدة الحظ) حمي وطيس النقاش، كل واحدة تكلمت عن ماضيها وعن المزارع التي كن فيها، محاسن ومساوئ هذه المزارع، كل ماحدث حتى عن المزارع التي كانت أدواتها من العصر الحجري، إلى المزارع المساهمة، والمساهمة العامة، والمحدودة، والتعاونيات، وغير ذلك.‏

    إحداهن قالت : (من حسن المصادفة أن جميع الشركاء، هم سواسية ولا يستطيع واحد أن يحمل الآخر جميلاً ويقول له: (أنا.. أنا، ولهذا فإنه سوف لن يكون هناك مجال ليحس البقر بعقدة الحقارة والتحقير بـ(رئيس واحد)، وهذه طريقة لكي يشعروا بالحياة الديمقراطية حتى لو أنهم أعطوا حليباً أكثر. كنت أفكر بكلامهم وأنا غارقة بهذه الأحاسيس وفجأة أحسست بضربة على ظهري وسمعت صوتاً يقول: وهذه ، رأيت رجلاً بيده سوط وهو يقول: خذها.‏

    كانت عندي رغبة بالتحرك ولكن أحدهم أمسك بي وعمره يتجاوز الخمسين عاماً، وهو يصيح: خذها إلى ناحية الباب.‏

    نعم، إنهم قد باعوني إليه.‏

    أليس من الممكن أن يكونوا هم في الطريق؟!.. ها؟!‏
    لا..لا تقلقوا! ..نعم.‏



    نواصل.....




                  

01-22-2004, 09:10 PM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مذكرات بقرة مجنونة (Re: rani)


    المكان‏


    المكان‏
    الذي أخذت إليه هو مزرعة أبقار تشبه إلى حد بعيد ما تحدثت عنه زميلاتي من الأبقار. إنها ليست كبيرة ولا صغيرة. صاحبها وضعه لا بأس به ووضعنا نحن لا بأس به أيضاً، كان حظي أفضل من باقي البقرات اللواتي كن موجودات في المزرعة وذلك لأنني كنت شابة وعندي طاقة، فإن تأخر الطعام لأي سبب كان فهذا لا يشكل لي أي مشكلة ولا يسبب لي الإرهاق، الأهم من ذلك أنني لا أعطي حليباً لأنني لم أتزوج بعد، ولهذا فهم لا يطالبونني بالحليب لأنني لم ألد بعد، مع العلم أن أصحاب المزارع يرحبون بالأبقار التي لم تتزوج وليس لها أولاد، ويرغبون بالبقرة التي تعطي حليباً وهي صغيرة، ولنقل إن قسماً من أصحاب المزارع يريدون أن يحلبوا حتى الثور. وخلاصة الكلام هم لا يريدون شيئاً مني الآن. ولكن مع أوائل فصل الربيع أحسست بشيء قد امتلأ به صدري، ولكي لا أنسى أقول لكم بأنني قد تزوجت من أحد الثيران الموجودة هناك. كان ثوراً لا بأس به أنا لم أنتخبه بل صاحب المزرعة هو الذي انتخبه لي، فهو لم يزوجني من هذا الثور إلا لمصلحته لكي تزداد أعداد الأبقار عنده ويربح مادياً…‏

    حتى ذلك الثور الذي كان من المقرر أن يتزوجني، لم يسألني هل أنا راضية عن هذا الزواج أم لا، مع العلم أنه حسب ثقافة تلك المنطقة، فإن الزواج وحق اختيار الزوجة بيد الذكور.‏

    لذا إذا كان يريد سؤالي فهذا من قلة عقله، وللعلم كان الثور أكبر مني سناً، ونتيجة جشع وأنانية صاحب المزرعة لم يدفع لي شيئاً مقابل هذا الزواج. ولهذا كان الثور ممنوناً لما قدموه له.‏

    ولكن لم يكن هو ممنوناً من هذا الزواج لأنه أرغم هو أيضاً على الزواج مني، وفوق هذا أجبروه على الزواج مني أمام شخص غريب، فهو للحقيقة كان يماطل بالزواج لعل مسؤول الصالة يمل، ولكنه لم يفعل بل بقي واقفاً ينتظر النتيجة، ليبشر صاحب المزرعة بما جرى، وتم ماكان يجب أن يتم قبل غروب الشمس.‏

    لا أدري إذا كان مسؤول الصالة قد أخذ هديته أم لا، كما تفعلون أنتم يا بني البشر عندما يبشركم أحد بأن الزواج قد تم.‏

    لنترك ذلك الموضوع، فمع كل ما جرى كنت وزوجي قد بدأنا نتآلف مع بعضنا البعض، ولكن السعادة التي كنا نعيشها معاً لم تدم، لماذا؟ لأنهم أجبرونا أن نفترق أنا وزوجي، لماذا؟ هكذا يريد صاحب المزرعة. ونظام المزرعة أيضاً يريد ذلك!.. أنتم تلاحظون أنه لا الزواج تم بإرادتنا، ولا حتى الطلاق.‏

    طبعاً نحن نتأمل أن تتحسن الأوضاع في المستقبل، وأنا أعتقد أنه يحتاج إلى مساعٍ كبيرة، ولكن المهم أنني أتمنى.‏

    منذ فترة أحسست أن سائلاً ساخناً يتحرك داخل جوفي، وفي أسفل صدري، وبدأ ينمو، ويكبر، وبدأت أحس أنني قد أصبحت شخصين، وليس شخصاً واحداً، وأعطاني هذا الحس غروراً، ولذة، ولكنه كان يقلقني أيضاً لأنني لم أعرف ماهو.‏

    طرحت الموضوع مع البقرات الأخريات، واسوني وقلن لي: (لا تخافي هذه الأحاسيس قد جربناها سابقاً، ومن الطبيعي عندما يكون هناك قادم جديد في جوفنا ينتابنا مثل هذه الأحاسيس).‏

    أسلافنا قالوا عن هذا القلق، أنه قلق مقدس، لأنهم كانوا يعرفون جيداً معنى هذه الحالة، ولهذا السبب أطلق عليه: القلق المقدس بسبب القادم الذي سوف يأتي وهو عزيز علينا، ونفعل ما نستطيع لكي نوصله إلى النهاية بسلام.‏

    وكان الإحساس الذي كان ينتابني عندما كنت حاملاً قد زال تماماً بعد ولادتي طفلي إلى هذه الدنيا، وبدأ شعور جديد ينتابني، وبدأت أسأل نفسي ترى ما هي الحياة؟‏

    عندما كنت أنظر إلى طفلي كنت أحس بأنني أنظر إلى والدتي،والدتي التي صغرت، وأصبحت طفلة وسوف تكبر مرة ثانية. ولم يأتني هذا الإحساس بسبب شبهه بوالدتي، ولكن بدأ السؤال يدور في رأسي: إنني أتجدد بهذا الطفل أو أنني بدأت أرى طفولتي كيف كانت.‏

    لا.. لا إنه يشبه والدتي أكثر، لأنني عندما كنت أرضعه كان ينتابني إحساس بأنني أرضع والدتي. والدتي التي ولدت مرة ثانية، وأنا أرضعها جزاءً على ما أرضعتني في طفولتي، ولهذا أرضع ولدي حتى يعيش..يعيش.‏

    بعدما ولدت أحسست أيضاً أنني كبرت، هو رجع إلى طفولته، والحليب الذي يشربه مني ليس كإطعام أم لولدها، وإنما هو عمل ارتزاق لاستمرارية الحياة.. وهذا يحدث في الحياة بشكل متكرر..‏

    سامحوني لأنني أقول لكم هذا الكلام. ولكن آه سقى الله تلك الأيام، يوم أرضعت صغيري الرضاعة الأولى ولا يمكن لأي بقرة أن تنساها. من الممكن أن تكونوا أنتم يا بني البشر هكذا. أنتن يا معشر النساء اللواتي تشعرن بأن سائلاً يجري في صدوركن وأنكن ترغبن بالإرضاع ستشعرن بالغرور وبمتعة أخرى لوجود شخص آخر هو ولدك إلى جانبك. ويصبح ولدك جزءاً من حياتك، وإن استطعت لما اكتفيت بإعطائه جرعة حليب، بل لتمنيت أن تقدمي له شلالاً من الحليب حتى يشبع وينام. وعندما ينام ويرتاح بعد شرب الحليب، تشعرين بالاطمئنان والغرور، تصلين بالنتيجة إلى أن وجودك ضروري وذو أهمية، وعندما تكونين أمَّاً بمعنى الكلمة سوف يكبر حال تضحياتك، وإيثارك، وعندها لن يكون للحليب معنى عندما يكون الولد هو الذي يشرب الحليب، أو الأولاد الآخرون أو حتى أولاد بني البشر كلهم، يعني أنتم أيها الشعب المحترم.‏

    آه، أمي ذكراك عذاب يا أمي! كم أنت كنت عطوفة. كم هي جميلة كلمة أم!..‏

    كانوا يجحفون بحق الأم عندما كانوا يقولون (أم فلان جيدة، وأم فلان غير جيدة)، أو يقولون: (أمي من هذه الناحية حيدة، ومن الناحية الأخرى ليست) لا. الأم دائماً جيدة، لأن الأم هي الأم التي تربي في جوفها كياناً حياً وتراقبه. وترضعه من روحها وتكبره وبعد ذلك‏

    تمنحه إلى هذه الدنيا، لا.. الدنيا أعطته إليها، الحق معها، أريد أن أقول إن المرأة عندما تصبح أماً يصبح‏

    الحق معها.‏

    مرة أخرى ذكرها طيب، أذكر أول رضاعة حليب، عندما أتى صاحب المزرعة لأخذ الحليب، كنت أذكر أن حليبي قليل. صاحبي لم يأتِ لأخذ الحليب مني، في ذلك اليوم أتى لأخذ الحليب من البقرات الأخريات. حلب قسماً منهن، نظر إلي اقترب مني ساقني إلى مكان الحلب، أو ما نسميه منصة الحلب لأننا كالسيارات التي تقف على المنصة لتغيير زيتها.‏

    حلب مني قليلاً، بعدها اقتنع بأنه أخذ مني كثيراً، ابتعد ثم فجأة قرر أن يغير رأيه. قد يكون أحس أن لدي فائضاً من الحليب، وللحق أقول إنني كنت أشعر بأن لدي فائضاً من الحليب. خلاصة الكلام نظر إلي بدهشة، وضرب على قدمي وقال: (اذهبي إلى مكانك) ومن ثم انتقل إلى الأخرى وحلب منها، وهكذا حلب جميع البقرات في الصالة، استمر هذا الوضع لمدة ثلاثة أشهر، وكان صاحبنا راضياً علينا، والحق معه لأن الطعام الذي يقدمه لنا يحلب كميات كبيرة من الحليب. وفي الواقع لأنه إنسان جيد فنحن لا نبخل بحليبنا عليه.‏

    ولكن في أحد الأيام جاء أحد أصدقائه أو بالأحرى ابن عمته، وكان يكلم صاحبنا أثناء حلب البقرات. نظر إلي وقال أرجو ألا ترفض لي طلبي، صاحبنا المسكين قال خيراً. قال: نعم، قال: قل، قال: هل تبيع هذه البقرة الشابة لي؟ وفي ذلك اليوم ولكي لا يرجع صاحبنا في كلامه أتى بشاحنة ونقلني إلى مزرعة جديدة في مدينة أخرى وكانت تبعد مئة كيلومتر.‏

    صحيح أليس من الممكن أنهم قد أتوا قبلي نعم؟‏

    يعني أنه من الممكن ؟.. لا.. لا .. لا أتصور! نعم..‏


    نواصل.....

                  

01-23-2004, 05:31 PM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مذكرات بقرة مجنونة (Re: rani)


    هـناك


    هـناك

    كانت بقرتان لا بأس بهما، إنهما غير سعيدتين بقدومي كانت نظراتهما توحي بذلك، لا أدري لماذا هاتان البقرتان غير نشيطتين مثل باقي البقرات المحبطات والمحقرات، ولهذا السبب خفت من اللحظة الأولى لوصولي عندما رأيتهما تنظران إلي هكذا، قلت لنفسي لعل الحسد هو الذي يجعلهما تنظران إلي هكذا وسيسبب لي هذا نوعاً من المتاعب! ولكنني رأيت منهما عكس ما كنت أتوقع تماماً بعد مرور الأيام. رأيت كيف أن هاتين البقرتين لا تعيران اهتماماً لي وكأنني لم أعد موجودة، يبدو أنها الحياة ولابد من أن تستمر، في البداية لا أخفي عليكم حاولت أن لا أختلط بهما وأن لا أتكلم معهما لكي لا تنزعجا مني ولكن هذا الوضع انعكس علي لأنني كنت أشعر بالوحدة والأسى. لنترك هذا الموضوع، كان صاحبي الجديد راضياً عني، وأنا أيضاً لم أنزعج من قدومي إلى هنا في المزرعة الجديدة كنت أعطيه حليباً كل يوم ولاحظت أنني أعطيه أكثر مما يجب، وكان الرضا بادياً على وجه صاحب العمل. المحيط الجديد لم يكن على المستوى المطلوب الذي كنت أرغب فيه وهذا انعكس على نشاطي، على الرغم من أن صاحب المزرعة هو قريب صاحبي القديم، ودائماً كنت أخاطب نفسي: عسى أن يأتي صاحبي القديم حتى أراه أو يقرر أن يعود بي إلى المزرعة القديمة، ولكن حساباتي كانت خاطئة وغير دقيقة لا أريد أن أطيل عليكم مر شهر على بقائي هنا صاحبي الجديد ظاهرياً راضٍ عني، ولكنه كان ينق دائماً. البقرتان اللتان كانتا هناك تقولان: (لا تنزعجي من أخلاقه السيئة هذه) قلت لنفسي ليس مهماً كثرة نقه مثلاً كان يقول بعد الحلب: (أين بقية الحليب، أليس من الممكن أنك أخفيته في ثدييك) أو كان يقول كم تأكلون من العلف الذي أقدمه لكم أين تذهبون به.‏

    نحن بصراحة تعودنا على هذا الكلام. ولكن بدأت معي مشكلة جديدة ألا وهي أن إحدى المحطات ذكرت عن أن أحد الباحثين والمتخصصين أعلن: (أن البقر يحب الموسيقى وهذا يزيد من الحليب) صحيح هذا الخبر؟ طبيعي نحن نحب الموسيقى. كل الكائنات على الأرض تحب الموسيقى. بعد هذا الخبر، ذهب صاحبنا إلى منزله وأتى بجهاز اسطوانات قديم، من العصر الحجري، وعدد من الأسطوانات. أتصور هذا الجهاز كان رائجاً قبل ظهور مسجلات الصوت الحديثة ولكن لم نعرف ما هو نوع الأسطوانات، نظفها وشغل الجهاز لفحصه، كان هناك صوت خربشة الأسطوانات أكثر من الموسيقى. بدأ بتشغيل أسطوانة من أسطوانات الأغاني الهابطة وكانت مستهلكة فكان كل مقطع يتكرر عدة مرات. نحن اندهشنا لأننا سمعنا موسيقى عن قرب، وعندما كانت الإبرة تتوقف كان صاحبنا يحركها بيده.‏

    في أحد الأيام انزعج صاحبنا من هذه الأسطوانات القديمة، فأتى بأسطوانات أخرى ولكن سماكة التراب عليها كبيرة. كانت الأسطوانة مختلفة لا بأس بها شعرها جيد وبها أغانٍ جيدة ولكي لا تنفروا مني وتقولوا إنني لا أفهم في الموسيقى الكلاسيكية أو غيرها من الموسيقى ولهذا قلت: مستهلكة ولم أقل فلوكلور أو قديمة، حتى أراعي الشعور فقط.‏

    ولكن على أية حال لم أستطع الانسجام مع هذه الموسيقى ولم تتحرك مشاعري تجاهها. لا أطيل عليكم علم صاحبنا بأن الأسطوانة غير تالفة وضعها في الكيس ومن ثم جاء بالجهاز ووضعه بالقرب من منصة الحليب ووضع الأسطوانة حتى يشغلها عند الحلب لترتاح أعصابنا ولكي نعطي الحليب. وبدأت متاعبنا من هنا وتضاعفت أكثر من اللزوم، وبدأ الإزعاج، في الصباح موسيقى وفي العصر والمساء موسيقى. اسمها موسيقى ولكنها حرب أعصاب، أصوات مزعجة وأيضاً الأغاني ليست على مستوى جيد ولا نحبها ولا تناسب المكان والزمان الذي نحن فيه حتى أن الأغاني لا تناسب الفصل الذي نحن فيه، مثلاً في الصباح كنا بحاجة إلى موسيقى تنشط وتملؤنا حيوية، صاحبنا يفعل عكس ذلك يضع موسيقى مملة ومتعبة وتدعو للنعاس وتحزن، والمطرب لا تعرف هل هو حزين أم لا؟ لـه أمل بالحياة أم هو يائس؟ حتى كلمات الأغاني لا نفهم ما هي، هل هي لهذا العالم أم لعالم آخر؟؟ ونحن ثلاث بقرات تعيسات الحظ نجبر على سماع هذه الموسيقى والأغاني، وإذا غفونا يبدأ الضرب بالسياط ويقول: (هل نمتم؟! انهضوا.) عند الظهر، الشمس في قبة السماء وبعد أن نأكل القليل من العلف وكنا بحاجة إلى الاستراحة والقيلولة، كان يضع أسطوانة باردة وحزينة تنفع لأيام الشتاء الباردة. أو يضع السيمفونية الخامسة لبتهوفن من المقطع الأول لها نقلق ويطير النعاس من عيوننا حتى أنه في الليل يفعل هذا. هذا السيد لم يكلف نفسه أن يتعرف ويطلع على أنواع الموسيقى ويقرأ بعض الكتب عن الموسيقى والتي تتحدث عن الموسيقى وأنواعها وأثرها على الكائن الحي وكذلك الأذواق وما تناسب منها ومالا يتناسب ورغم ذلك يضع هذه الموسيقى. وعلى هذا الأساس فإنه كلما وضع المزيد من الأسطوانات زادت المتناقضات والمشاكل. أحد الأيام كان الطقس سيئاً للغاية والحرارة مرتفعة وضع أسطوانة ثورة اكتوبر (لشوستا كيفتش) حتى يتذكر الإنسان الثورات الاشتراكية ليفكر ويضطرب، ونحن كنا على غير عادتنا، تعبين ولا طاقة لنا على الحركة، ولكن بدأ الحماس يدب فينا، وتحركنا نطالب بمعيشة عادلة ونضع حداً للمعاناة حتى بدأ يضربنا بالسوط ويقول: (ماذا، لماذا تنظرون إلي هكذا هل حدث شيء في عقولكم! اذهبوا للنوم ولا تنظروا إلي بعينكم اليسرى. هو لا يعرف أن اختيار السيمفونية أدت إلى بث الحرارة بنا وتحركت عواطفنا.! لا أريد أن أطيل عليكم، وأريد أن أقول لكم بصراحة الضرب بالعصا على قاعدة الجهاز الحديدية أفضل من الاستماع لهذه الأسطوانات، بعض الأسطوانات هي هكذا بسبب المطربين الذين يغنون بها أو بسبب الشعر الذي لا يفهم، فترى أغنية موسيقاها حزينة ولكن أشعارها فيها نوع من السرور والفرح، والعكس صحيح. بعض الأسطوانات لا تعرف هل هي حزينة أم مفرحة.‏

    في إحدى الليالي وضع لنا أسطوانة لمطرب كان قد فاز بجائزة في أحد المهرجانات وأقول لكم بصراحة لم أفهم ما الذي كان يريده المطرب والشاعر والملحن. لا شعر ولا موسيقى ولا صوت جميل. بعض الأسطوانات كانت موسيقاها جميلة ولكن شعرها من العصر الحجري ترى ألا يوجد شاعر يكتب أشعاراً جميلة؟!‏

    قلنا إنه من الممكن أن يكون بعض بني البشر لا يعيرون أهمية للمعاصرة ومن المؤسف أن يكون هذا. من الممكن أن يكون هو ضحية الثقافة المغلقة أو أن يكون أيضاً ضحية الانغلاق التاريخي لهم! جيد نحن أيضاً نعاني من ذلك، مع العلم أن الكثير من الأبقار التي حولنا لهم مزايا حسنة كثيرة، ولكن عند الحديث عن الأبقار الكبيرة وعملها، يتداعى لنا اسم البقرة الكبيرة التي عاشت قرنين من الزمان. طبيعي إنني هنا لا أريد أن أقلل من قيمة الأجداد واحترامهم لأنني أعتقد أن كل الحسنات التي نحن فيها أتت من عندهم وجذور حسناتنا هي من أجدادنا ولكن. لا. أنا ماذا قلت.‏

    آه نعم لو أننا لم ننزعج من الأسطوانات نحن البقرات الثلاث، واثنتان منا كانتا تعاينان من الاكتئاب والاضطراب النفسي لكنا أعطينا صاحبنا حليباً كثيراً من عندنا يعادل نهراً كاملاً ويصبح في ليلة وضحاها مليونيراً. باعنا نحن الثلاثة إلى إنسان مختل عقلياً وكان جار لهذا المختل يعاني من مشاكل ونحن نعرفه لأنه كان يتردد بين فترة وأخرى على صاحبنا. وعندما كان يأتي يطلع على صاحبنا بنظريات وآراء حول زيادة الحليب، وكان يحضر لنا الطعام المقوي من أجل دورة الحليب وهذا الطعام كان سيئاً للغاية. وأتمنى أن لا يذوقه أي شخص، ولكنه في الفترة الأخيرة لم يضع لنا طعاماً خاصاً ونحن نشكره على ذلك.‏


    نواصل.....

                  

01-24-2004, 09:29 PM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مذكرات بقرة مجنونة (Re: rani)


    كان



    كان
    هو يتوقع الكثير مني، وفي الأسبوع الأول علمت أنه يئس من البقرتين اللتين كانتا قبلي، ووصل إلى نتيجة بأن المعجزة لن تحدث بشفائهما، وبدأ يحضر لي الدواء ولكن لم يفلح ومن هذه الناحية اقتنع بأن يصب جل اهتماماته نحوي وعلمت ذلك جيداً بالعقاب القاسي الذي كان يؤنب به هاتين البقرتين أمامي وعلمت أيضاً بالتمجيد نحوي دائماً.‏

    أدركت أن حظي السَّيِّيء هو أن صاحبي يريد أن يعوض ما لم يستطع حلبه من البقرتين مني.‏

    والأنكى من ذلك أنه يعتبر نفسه من المتخصصين بزيادة الحليب، وبدأت مرحلة العذاب المضاعف بالنسبة لي.‏

    أول عمل قمت به، قررت أن أعطي صاحبي حليباً كثيراً لأخفف الضغط على هاتين البقرتين وأخفف معاناتهما، ولكي أعوضه عن قلة الحليب.‏

    وبعد أسبوع وقبل بدء رحلة العذاب بدأت البقرتان بشرب هذا الدواء مجبرتين عليه حتى لا تسمعا التأنيب منه، ولكن هذا قدرنا بتحمل العذاب والمصائب وصدق من قال: (نحن نولد من العذاب).‏

    في الأسبوع الثاني لإقامتنا عنده لا أعرف كيف سمع أنه بزيادة المحبة والحنان يزداد درُّ الحليب وعند الحلب يجب أن يحن ويتلطف معنا، هذا صحيح، ليس بالنسبة لي ولكن لجميع الكائنات سوف يكون رد فعلهما إيجابياً تجاه الحنان، وهل كانت ردة الفعل هذه علمية، أم هي مجرد عواطف وإحساسات، لا أعرف. ولكن على أية حال لنكن إيجابيين معه ونعامله بالمثل، عند الحنان واللطف معنا سوف ندر حليباً أكثر له. ولكن مع الأسف لم تكن هذه العواطف الجياشة نحوه بل كان يستثمرها سلبياً وباستخفاف تجاهنا. ولم نعلم لماذا، إذ كنا نعلم من اليوم الأول بأن حنانه فارغ وليس مبنياً على شيء. كنا نعرف ذلك من عينيه، لفهمنا كيف وقعنا في الفخ، ولكن هذا حدث ونحن البقر لا ننتبه إليه إلا بعد فوات الأوان. بعدما نضب حليبنا عرفنا أن حنانه ومحبته فارغة وليست نابعة من القلب. هذا ما حدث لو أننا رضينا بهذا العمل ولو كنا قانعين بمحبته الفارغة والكاذبة لكان أفضل لنا وكنا نعطيه حليباً على قدر نيته، ولكن تغير كل شيء، إنه تغير وهو يعتبر نفسه عالماً نفسياً فبدأ بتجربة جديدة علينا. بدأ بإجراء بعض التجارب علينا كان يسمعها من الصحف والتلفاز وكل يوم يأتي بشيء جديد ويجربه. وكنا نتوخى الحيطة والحذر حتى لا يضربنا بسوطه نقبل بكل شيء يجريه حتى ولو كان على حساب مشاعرنا الذاتية والجنسية بدأ بالتحريك العاطفي حتى الجنسي وقس على ذلك وكل هذا على طمع زيادة الحليب(1).‏

    في اليوم الثاني كعادته أتى وكان يحرك دلوه من أجل أن يفهمني أنّه يريد حلبي وكنت أقرأ من عينيه أنه يريد الحليب ولا شيء آخر، وقررت أن لا أسمح لـه بحلبي، وعندما أتى بقربي صرخت ونظرت إليه بازدراء وذهب.‏

    بعد مرور عدة أيام أتى مرة أخرى والدلو بيده وكان يغني من أجل أن أقبل وحتى وصل به الأمر أن يقدم كل شيء وينظر بتذلل ورجاء من أجل أن أسمح له بحلبي. وقررت أن لا أسمح له بقطرة حليب!‏

    يئس، بدأ بشتمي ولكنني لم أهتم بما يفعل، أتى بالعلف ووضعه أمامي وأخذ السوط يهددني، وأتى بقربي يقول: (ها؟ أصبحت لا تخجلين! إنني لا أقول لك شيئاً، أو أخاف منك؟ وبما أنني لم أهتم بما يقول! بدأ يزداد عصبيةً وانزعاجاً).‏

    قال: (إذا كنت تفكرين أنني أقدم العلف بدون أن تدرّي لي الحليب، فهذا بعيد عنك) أتى بقربي وبدأ يخّوفني ويروضني.‏

    ولكنني أصبحت بقرة أخرى وهو لا يعلم، ليس لأنني لا أخاف ولكني لا أطيقه، ولهذا صرخت بماااع كبيرة وقوية وبدأت أضرب قروني في إنائه وهي علامة اعتراض على ما يفعل، استطاع أن ينظر في عيني ويرجع إلى الوراء ووصلت الرسالة وعرف كل شيء أن الجسور قد تهدمت جميعها ولا عودة إلى الوراء.‏

    نظرت إلى العلف الذي وضعه أمامي مع العلم أنني كنت بحاجة إليه وجائعة ومع ذلك لم أتناوله حتى أنني بدأت أكره الطعام، بعدما كان يتصور أنه يعطيني هذا الطعام مجاناً وصدقةً عنه.‏

    في اليوم التالي وعندما أحضر الطعام رأى طعام الأمس موجوداً على حاله، تعجب من ذلك ولكنه وضع العلف ونظر إلي بامتعاض وكأنه كان يفكر في شيء ما، وعندما كان يفكر عرفت خطته التي خططها ولكنني لا أعرف ما هي؟ أتصور هذه الخطة لها طابع تجاري.‏

    كان تصوري في محله عندما جاء المشتري ليبيعني له، ولم يتناقشا طويلاً حول السعر ولم أنظر إليه عندما أتى صاحبي الجديد ليأخذني، وكانت نفسي راضيةً عن هذه الرحلة نظرت إليه رفيقتايّ اللتان كانتا معي في المزرعة وقرأت أفكارهما حيث كانتا تقولان: (اذهبي حظك حلو) لم أنس تعبيرهما حول ذهابي!‏

    1 ارتأينا هنا حذف فقرات من القصة حفاظاً على الذوق العام.


    نواصل.....


                  

01-26-2004, 04:34 AM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مذكرات بقرة مجنونة (Re: rani)


    صاحبي الجديد،


    صاحبي الجديد،

    لم يكن سيئاً كان إنسانياً، عيبه أنه كان فقيراً فطعامي قل، ليس فقط طعامي بل إنهم لا يأكلون، ومكاني كان عبارة عن قطعة أرض صغيرة في زاوية البيت، بسيطة ومتواضعة.‏

    هو وزوجته وأربعة أطفال منهم بنت واحدة. وجميعهم كانوا لطيفين معي، تصور كان عندهم بقرة وعندما هرمت بيعت إلى القصاب سررت لأنني عرفت أنهم يحتفظون بي حتى آخر العمر.‏

    وعندما رأيت وضعهم المادي عاهدت نفسي أن لا آكل كثيراً وأن أدر عليهم حليباً كثيراً لأنني كما علمت أن معيشتهم تدار من ميزانية بيع الحليب.‏

    بالنسبة للأطفال كل يوم يأتي أحدهم بالطعام لي حتى ابنتهم التي في الثامنة من عمرها. وكنت أسعى أن لا أخيفهم.‏

    المساكين كانوا لا يطعمونني شعيراً وبرسيماً بل كانوا يطعمونني تبناً منقوعاً في الماء وعند شرائهم البطيخ يطعمونني قشره أو ما تبقى منه، وكنت آكل بسبب نظافتهم ولعلمي أنهم أناس لطيفون، هذا الطعام أفضل من ذلك الذي ينمو بفعل السماد الكيميائي أو ينمو من أرض ملوثة، وكنت راضية عن وجودي هنا مع العلم أنني كنت وحيدة في هذه المزرعة، ولا يوجد غيري هنا.‏

    لم يستمر هذا الوضع أكثر من ستة أشهر وقد تأسفت كثيراً على ذلك.‏

    أصدرت الحكومة قانوناً يمنع بقاء الحيوانات في المناطق السكنية، وهذا القانون صدر منذ فترة طويلة ولكن لم ينفذ، ولأن الساكنين يملكون حيوانات بقي الموضوع في الكتمان حتى شددت الحكومة على تطبيق القانون. بحيث تنتقل جميع الحيوانات إلى خارج المناطق السكنية وخلال ثلاثة أشهر يجب أن ينفذ هذا القانون وإلا تعرض من يخالف إلى الملاحقة القانونية.‏

    وبدأ الموظفون يعرفون أمكنة الحيوانات لأنهم كانوا يترددون بين فترة وأخرى لمعاينتها.‏

    ولكن صاحبي خاف من الموظف ولم يعلن عن وجودي وكان يقول: عند مجيء الموظف (ليس عندنا بقرة) وحتى لا أحرجه لا أتنفس أو أصدر صوتاً وعلى هذا فإن البيطرة قد حذفت اسمي من قائمة الحيوانات الموجودة في المنطقة ولم أعالج أو أفحص لأنني حذفت من القائمة.‏

    وعندما انتشر خبر المرض الكبير عند الأبقار لم يأت أحد لمعاينتي وصاحبي لم يتجرأ أن يقول عندي بقرة بسبب فقره. ولهذا لم يأت أحد لمعاينتي وقد سمعت أن بعض البقرات قد عولجت ولقحت من قبل دائرة البيطرة.‏

    في منتصف الصيف أحسست بأنني لا أستطيع الوقوف وقد انهارت قواي ومرضت. وعندما شاهدني صاحبي بهذه الحالة نادى جيرانه لمعاينتي بطريقتهم ولكن لم يستطيعوا أن يفهموا مرضي. لن أطيل عليكم الكلام. أتوا بالطبيب البيطري بالسر إلى المنزل عالجني بالإبر والدواء وقد تحسنت حالتي قليلاً.‏

    قال البيطري لصاحبي: (ما هذه الألاعيب لا فائدة منها يجب أن تضع بقرتك تحت المراقبة البيطرية) أضاف البيطري: (لصالحك يجب أن تفكر منطقياً! بالأخص حالياً هناك أمراض شائعة!)‏

    صاحبي المسكين قال: "يقولون: يجب أن تخرج بقرتك إلى خارج المناطق السكنية! وهناك هم سيعتنون بها! كذلك، لا أملك المال لأشتري أرضاً خارج المنطقة السكنية وأبني لها بيتاً هناك، وإضافة إلى ذلك لبقرة واحدة!".‏

    ثم فكر ملياً وقال: "بعد فترة من خروجها يجب علينا أن نخرج أيضاً".‏

    قال البيطري: "من الأفضل لك أن تبيعها إلى مزرعة وتريح نفسك" قال صاحبي المسكين: "سيدي الطبيب! هذه البقرة هي مصدر رزقنا في الواقع!".‏

    أجاب البيطري: "لا حل غير ذلك علماً بأن هذه الأدوية غالية الثمن ولا تستطيع أن تعالجها إذا مرضت مرة ثانية، بالأخص هناك مرض شائع حالياً وقد ماتت بعض البقرات منه!".‏

    بعد ذلك نظر إلي وأضاف قائلاً: "من المؤسف أن تمرض هذه البقرة الجميلة واللطيفة وتموت".‏

    قال بعد ذلك: أتصور مرضها حالياً بسبب عدم رعايتها، من الأفضل لك أن تبيعها وتريح نفسك!".‏

    ومن ثم قال هامساً في أذن صاحبي وأخافه: "إذا لا قدر الله وماتت، لا تستطيع أن تذبحها، أو تبيع لحمها، لأنها مريضة! قرر ماذا تفعل!"‏

    اقترح عليه أن يبيعني إلى مزرعة ثانية، ويأخذ بدلاً مني أغناماً، حتى لو لم يسمحوا له بتربيتها في منزله، لأنه إذا مرض أحدها فلن يموت البقية، إذا كان المرض معدياً.!‏

    بعد الجدال قرر صاحبي العجوز أن يبيعني مرغماً وخلافاً لما يريد وفتح بالمبلغ دكاناً، وبدأ العمل وكان يأمل أن يتحسن وضع عائلته.‏

    وعلى هذا فقد باعني صاحبي إلى مزرعة حكومية بناءً على نصيحة البيطري.‏

    صحيح.. هل بينكم؟ .. لا.. لا. أتصور!‏




    نواصل.....

                  

01-26-2004, 08:44 PM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مذكرات بقرة مجنونة (Re: rani)


    اختلف الوضع هنا


    اختلف الوضع هنا
    المزرعة كبيرة ومجهزة، بالإضافة إلى وجود ثلاثمئة بقرة، كل شيء كان منظماً: البرنامج اليومي حسب الجدول الزمني من الصباح حتى المساء والحلب والمعالجة، صحيح كل شيء منظم ويسير بدقة ولكن ذلك يولد الكسل والملل بالإضافة إلى تأمين السلامة الغذائية والصحية للأبقار.‏

    مكثت سنتين هناك من تشرين الثاني 1981 وحتى تشرين الثاني 1983، الاهتمام بالصحة كان رائعاً جداً والبيطري يزورنا يومياً، علفنا نظيف وهو مزيج من المواد النباتية وبرسيم ونوع من البودرة يطلق عليها "البروتين الخاص" يمزجونه مع الأعلاف النباتية، طعامنا لا بأس به، متنوع ومقوي.‏

    في بعض الأوقات حصتنا من العلف لم تكن كافية ولا تشبع حتى لو أطلقنا الصراخ (مااااع). وإذا اعترضنا على ذلك لا يسمعون.‏

    إنهم غريبون هؤلاء البشر عملهم غير منطقي، مزرعة بهذه المساحة والإمكانيات فكيف يبقون بقراتهم جياعاً، هذه المزرعة التي تعتبر نفسها نموذجية وتطمح لأن تكون قدوة يقتدي بها بعض المزارعين بدقة العمل والنموذجية.‏

    ففي أحد الأيام جاؤوا بطعام كثير فكم كان لذيذاً هذا الشعير والبرسيم. شبعنا كثيراً وقد عوضونا عن النقص الذي حدث في الأيام الماضية. قلت من الممكن أنهم قد أعطونا حصة الصالة التي بجانبنا لأنها كثيرة. ثم ارتأيت غير ذلك قلت من الممكن أن يكون موظف تقسيم الحصص لن يأتي غداً وأعطانا حصة ليومين، حتى‏

    لا نبقى جياعاً غداً! قبيل الظهر رأيت غير ذلك وكان حدسي في غير محله، عرفت السبب أخيراً، السبب أنه قد أتى مفتش للمزرعة ولهذا قدموا هذه الحصص من أجله.! بعد ذلك خفضوا حصتنا من الطعام فشككنا قلت: إذا كانت هذه حصتنا لماذا أعطونا بالأمس كثيراً وإذا كانت مثل حصة الأمس لماذا خفضوا حصة بقية الأيام!؟‏

    صحيح، وصلت إلى نتيجة بعد الدراسة حول مسؤول المستودع والحصص، واكتشفت أن هذا الإنسان يسرق حصتنا ويبيعها إلى مزارع خاصة!‏

    عندما عرفنا ما حدث، كنا نعترض بصوت عال على شكل (ماع) عند وضع الطعام أمامنا، وكانت نظراتنا لها معان أخرى بالنسبة لهم. ولكن لم يأخذوا اعتراضنا على محمل الجد، بمعنى آخر إنهم يتصورون أننا لا نعلم أي شيء، ولأنهم هكذا يعتقدون بدأنا بالاعتراض أكثر وذلك بضرب إناء الطعام بأقدامنا، ولكنهم لم يفهموا ماذا نقصد وكانوا يتصورون أن الطعام يجب أن يجمع وأن يوضع في الإناء مرة أخرى. ولكن في اليوم السابع والثامن بدأ مسؤول الإطعام بتعذيبنا وضربنا بسبب أننا نعترض عليه ونقاومه ولهذا قررنا أن نفضحه بالصياح وقررنا أن نضرب عن الطعام.‏

    وعندما أتى مسؤول الطعام بالشاحنة قررنا أن نصرخ جميعاً في وجهه، عند رؤيته الوضع بهذا الشكل نظر إلينا بتعجب وذهب.‏

    أتى مع مسؤول المستودع لرؤية ماذا يحدث. قسم من البقرات سكت عن الصراخ وقسم آخر صرخ بصورة متقطعة وقسم أكل، لا أعرف لماذا نستسلم وقلت لبعض البقرات اللواتي كن بجانبي: (لا تسكتوا اصرخوا ماع، لأنهم عرفوا إننا نعترض!). أعدنا الكرة مرة أخرى.‏

    تقدم مسؤول المستودع إلى الأمام ونظر في أعيننا، بهذا العمل أسكت بعض البقرات عن الصراخ هل هذا كان من الخوف أم من الخجل؟ وبدأن يعملن أشياء لكي يبررن سكوتهن، ولكنهن لم يأكلن العلف. أنا وبقرة أخرى تابعنا الصراخ..‏

    قال مسؤول المستودع: (ماذا دهاكم؟! لماذا تصرخون؟!).‏

    كان كلامه هذا صدامي أكثر من اللازم ولهذا اعترضنا على قلة العلف برفس إناء الطعام بقدمنا! لنقول له لماذا هذا الشح؛ وقد وصلت الرسالة، نظر إلينا بازدراء وقال: (هذا كثير عليكم! إيه!).‏

    قال هذا وذهب، عندما رأينا أن عملنا لا فائدة منه نظرنا إلى بعضنا البعض أنا والبقرتان الأخريان وقد ضربنا الإناء وهي علامة الاعتراض.‏

    مسؤول المستودع خرج عن طوره وصرخ، ومن ثم ذهب وهو غاضب إلى الجرار، ليأتي بعصا كانت إلى جانب مقعده، ورجع بسرعة باتجاهنا. جمعنا أنفسنا، اكتشفنا أن البقرات التي كانت تقف إلى جانبنا قد هربت وابتعدت لرؤيتها مسؤول المستودع وهو يحمل العصا. زاد من تهديده لنا وقال: (ليس فقط إنكم معترضون بل مخربون أيضاً؟!) وبدأ يضرب البقرات واحدة تلو الأخرى، ومن ثم جاء نحوي ليضربني، عندما رأيته وهو بهذه الحالة وكان مستعداً للضرب قلت إذا ضربني سوف أضربه، ولكنه عرف ذلك من تقاسيم وجهي ونظراتي إليه، فقرر الذهاب. وقف ينظر إلي ليصرفني عن تصميمي بضربه إذا أراد الاعتداء ولكنني بقيت جاهزة لصده لأنني أعرف نواياه وقرأت أفكاره. رأى أنه لا فائدة من وقوفه وقد فضح أمره أكثر عندما بدأ الصراخ يتعالى من الآخريات على أعماله، لم يعرف ماذا يفعل بعد هذا الموقف، فاضطر أن يرجع من حيث أتى.‏

    بعد دقيقتين جاء عاملان ووضعا إناء العلف ونظرا إلينا نظرة ثاقبة ولكنها سخيفة ومعناها: (من الأفضل لكنّ أن تأكلن ولا شأن لكن بأمور أخرى) وذهبا.‏

    في الصباح التالي رأيت مسؤول المستودع ومسؤول تقسيم الحصص قد وقفا في إحدى الزوايا وهما ينظران إلينا ويتحدثان بصوت منخفض، أتى العاملان وقالا لهما: (أين)؟‏

    أشارا إلى بقرتين واتجها إلينا. إحدى البقرات أتت إلى جانبي وقالت: (ذهبنا إلى الزنزانة الانفرادية!) وكان توقعها في محله، ربطوا حبلاً حول رقبتنا وأخذونا نحن الثلاثة إلى مكان أعد للبقرات المريضات ولأن أكثر البقرات المشاغبات يؤخذن إلى هناك، عرف (بالزنزانة).‏

    في الطريق سمعت أحد العمال الذي كان بالأمس ينصحني، يقول لصاحبه: (يجب على أحد ما أن ينصح هؤلاء، أعزائي كلوا طعامكم ولا تتدخلوا في عمل أحد.!) وأضاف: (أي بقرة تضحي من أجل البقرات الأخريات تضع نفسها في مأزق!) وقال صديقه: (صحيح إذا كانت بقية البقرات تقف في وجهنا وتقف إلى جانبهن أو‏

    يمنعننا من حلبهم نقول طيب ولكن أنا لم أر شيئاً!.. أنت رأيت؟‏

    قال صديقه: (لا)!‏

    سمعت ما قالا ونظرنا إلى بعضنا البعض مع رفيقتي: ما يقولونه صحيح. جميع البقرات لم يصدر منها أية ردة فعل لم يواسيننا أو يصرخن بماع صغيرة وهي أقل ما يفعلن!‏

    في الفترة التي ذهب فيها أحد العمال لفتح باب الزنزانة أتيحت لي الفرصة لأتكلم عما يجول في خاطري مع البقرة الأخرى. تكلمنا عن بعض الأمور في الفرصة التي سنحت لنا ولأن باب الزنزانة فتح لم نستطع أن نكمل.‏

    بقينا سبعة أيام في الزنزانة، لا تحتاج إلى توضيح أكثر.‏

    جميعكم سمعتم من هذا أو ذاك أو قرأتم في الكتب والصحف حول الزنزانة.‏

    ولكن أقول قد مرت بصعوبة بالغة تلك الفترة. الجوع والوحدة والإحباط يأخذ مكانة في الذهن والتفكير.‏

    الإحباط يأتي من أنك كنت تتوقع أن تكون في حالة أفضل منهم وأقوى وأحق، ولكن عملياً ترى بأمِ عينك أنهم استطاعوا أن يضعوك في هذا المكان وهم يمرحون أحراراً! لماذا؟ لا أعرف ذلك حالياً؟!‏

    صحيح قررنا أنا ورفيقاتي عندما نرجع إلى الصالة أن نشتم البقية ونعاتبهن على موقفهن المتخاذل هذا.‏

    إحدى البقرات التي كانت تتكلم بوحي من كلام العمال الذين ساقونا إلى الزنزانة تقول: (كم أنا قليلة العقل لأنني اعترضت من أجل هؤلاء البقرات. اطمئنوا كما قال هؤلاء العمال حتى لم يكلفن أنفسهن أن يعلنَّ تأييدهن السطحي!) وبقرة أخرى قالت: (هكذا أصيح الآن، اللعنة على كل بقرة!) ولكني فكرت ملياً في تلك الحادثة خلال الأيام الماضية، فكرت في كل شيء قلّبت المسألة من جميع جوانبها، واعتقدت بعد ذلك بأنني لم أعترض أو أناضل لأجل كائن ما وإنما فعلت ذلك من أجل حقوقي ومصالحي ولهذا لا أتوقع من أحد شيئاً وأمنن الآخرين بذلك وعليّ إثبات صحة ما قلت وما فعلت فإنني مرتاحة الضمير وراضية عن نفسي ولا أملك ذلك الإحساس السلبي الذي يأتي من جراء الإحباط.‏

    عندما أطلقوا سراحنا ورجعنا إلى الصالة، البقرتان اللتان كانتا في الزنزانة لم تتكلما مع بقية البقرات وتولدت حالة من الخلاف بينهن، بعكسي أنا فلم أحس بهذه الحالة وإنما انتابني إحساس أكثر من الأول بعلاقتي معهن وأنني حتى الآن أحبهن أكثر من الأول وكلما أنظر إليهن وأرى ابتساماتهن أرى الحياة أجمل من ذلك وأنا لا أعرف السبب. إنني سعيدة معهن بهذا الانسجام وقد كسرت الحاجز الذي تولّد بعد رجوعنا، وبدأت علاقتي تتطور مع الأبقار الأخرى، بدأت الزيارات بيننا وبدأت الأحاديث تتواصل عن الزنزانة وكل المسائل التي تهمنا والتي كن يسألن عنها كنت أعطي رأيي بصراحة وإذا تكلمن عن بعض المسائل لا إرادياً نتطرق لما جرى في الزنزانة كن يواسينني ويبتسمن وهن يقلن: (هكذا الحياة)! الحق معهن فالأكثرية هكذا يقولون واقتنعت بما يقولون: (الحق مع الأكثرية!) وأدركت أن البقر اللواتي كن يعشن قبلي يعرفن الحياة أي واقع الحياة لأنهن كن يعملن أكثر مما يتكلمن، هن يعرفن كل شيء ولكن كانوا يعيشون وحياتهن مستمرة ولم تتوقف ولذلك من الممكن أن لا تصدقوا أن الإحساس الذي ينتابني حالياً أن أضحي من جديد في سبيل تلك الأبقار وحياتهن.‏

    الجميع عرف أن مسؤول المستودع ومسؤول تقسيم الحصص لصّان، ويبيعان حصتنا من العلف إلى المزارع الخاصة. الأبقار عرفت بالسرقة في جميع الصالات وما يدور من تبانٍ بين الاثنين تحدث الناس عن يوم السبت وأهم الأعمال التي ستقام في هذا اليوم. صدقوني لا أعرف أي يوم هو السبت؟ ولكن عندما أصبح يوم السبت عرفت (إضراب) ودخل جميع المسؤولين والعمال إلى هناك وقفت في الزاوية وكنت أنظر إلى ما يحدث مثل البقية رأيت مسؤول توزيع الحصص ومسؤول المستودع يتحدثان فيما بينهما بمعنى يقول له عن إحدى البقرات، سأل مسؤول المستودع بصوت منخفض: (هذه التي عرفت كل شيء؟!)‏

    وسمعنا مسؤول توزيع الحصص يقول له: (نعم وجميع الأمور من صنعها!)‏

    وسمعته يقول أيضاً: (نعم أقرأ ذلك من عينيها!)‏

    وسمعت ذلك يقول: (يجب أن تتأدب!)‏

    في اليوم التالي عرفت أن الكلام لم يكن عن بقرة أخرى بل كان عني لأنهم جاؤوا وأخذوني إلى الزنزانة الانفرادية، وبدأ التعذيب. ولأنني عرفت أن الإضراب قد نجح وأفشيت الأسرار وزادوا حصتنا من العلف، لم ينتابني الزجر والتعذيب وقد تغيرت طرق التعذيب، وأحسست بأن طريقتهم في التعذيب قد تغيرت فهم يعذبونني نفسياً.‏



    مثلاً في أحد الأيام جاؤوا ليخيفوني، قالوا لي: (قفي هنا في الشمس لتتنفسي! وقد وقفت بالرغم عني. ورأيت إحدى البقرات وهي تصرخ وتقاوم عندما جاؤوا بها من الصالة، وضعوها على الأرض وقطعوا رأسها أمام عيني! عندما ذبحوها قال لي مسؤول تقسيم الحصص: (سيأتي دورك!).‏

    يفعلون ذلك ليخيفوني وأعتبر من ذلك ولا أتدخل في عملهم، والحقيقة أنني لم أتدخل في عملهم، ولكنني خفت، لأن منظر الذبح وبالأخص لإحدى بنات جنسي لم يكن منظراً جميلاً.‏

    نعم هم فعلوا ذلك من أجل تعذيبي نفسياً، وقد عرفت فيما بعد أن تلك البقرة مريضة وحتى لا يكون لحمها غير مأكول قرروا ذبحها ليبيعوا لحمها ويربحوا من ذلك، ومن الممكن أن تكون مريضة ويجب قتلها ولا يستفاد من لحمها ليقولوا للمسؤولين ذلك بتقرير منهم؟ كانوا يريدون بيع لحمها بعيداً عن أعين الجميع ويضعون المبلغ في جيوبهم، ماذا ستكون نتيجة هذا العمل، ومن هو الشاري ومن هو الذي سيتناول اللحم، ليس هذا مهماً عندهم، المهم هو المبلغ الذي سيكسبونه من بيع لحمها. لا أعرف. ومن الممكن أن يكون هذا الكلام بسيطاً وبسبب حادثة ما سياسية أو اجتماعية في المزرعة سيأتون في المرحلة الأولى نحوي ويأخذونني إلى الزنزانة الانفرادية.‏

    صحيح إذا سألوا لا تقولوا إنني هنا. هل سمعتم؟‏



    نواصل.....

                  

01-27-2004, 08:59 PM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مذكرات بقرة مجنونة (Re: rani)


    مكثت سنتين هناك،


    مكثت سنتين هناك،
    كما قلت لكم، من تشرين الثاني 1981 وحتى تشرين الثاني 1983، وكما قلت أيضاً كان طعامنا مزيجاً من العلف وعصارة النباتات والشعير والبرسيم وقليلاً من البودرة التي يطلق عليها اسم: (البروتين الخاص) هذا البروتين ليس مثل اللحم والبيض والسمك وما شابه بل هذه البودرة نوع من مزيج لا نعرف ما هو، ولكننا نعرف أنهم يضعونه في جهاز حراري ومن ثم يطبخ وبعد تجهيزه يمزج مع طعامنا ويقدم لنا.‏

    لا أعرف ماذا كانوا يطبخون، وفي نهاية عام 1982 وحتى أوائل 1983 أحسست أن طعم هذه البودرة قد تغير، وصار لها طعم غير مرغوب، أحسست أن البودرة لم تطبخ! وقد تغير طعمها على مدى الأيام والأسابيع التي تلت، وبقيت هكذا.‏

    لا أطيل عليكم الكلام في أواخر كانون الأول أو كانون الثاني بدأ ينتابني نوع من التوتر العصبي، وازداد فيما بعد، بدأ الضجيج يؤذيني وكرهت الموسيقى ولا أحبذ أن أجلس مع أحد واعتزلت الآخرين ولا طاقة لي بعمل شيء ولا أعرف ماذا أفعل؟ بعد مرور فترة لمت نفسي على ما أفعل ولماذا اخترت العزلة عن الآخرين، قلت في نفسي: (هذه طريقة غير جيدة لاستمرارية الحياة ويجب أن أصلح علاقتي مع بقية البقرات) ولكنني رأيت أن البقرات الأخريات لهن طباع مثل طباعي، وعندما ذهبت إليهن لأعتذر عن ما صدر مني قلن لي: (لا حاجة للاعتذار نحن أيضاً في حالة شبيهة بحالتك نغضب بسرعة ولا طاقة لنا على فعل أي شيء!)‏

    وفي هذه الحالة أحسست لأول مرة في حياتي أنه سوف يحصل شيء ما ليس جيداً!‏

    بعد فترة استمرت الحالة العصبية، أتوا لكي يعالجونا وهذه كانت تحصل، وقفوا يتحدثون فيما بينهم وينظرون لبعضهم بتعجب.‏

    عند معاينتهم للبقرتين أخذوهما للعزل وبدأت المعاينة لهما من تحليل للدم وحتى كل شيء.‏

    في هذه الحالة بدأ الشك ينتابنا من عمل الأطباء والبيطريين الموجودين في المزرعة. لقد تعجبت، من أنهم لا يتكلمون بهذا الموضوع، ولكنني بالصدفة في أحد الأيام سمعت أحدهم يقول: (لا ليس الآن، لم يثبت حالياً أن هذا المرض معد أو غير معد ولكن سيتضح ذلك في التحاليل القادمة).‏

    بعد مرور شهر من تلك المعاينة المشكوك بها، رأيت عدداً من الأبقار قد مرضت أيضاً وعزلوها عن بقية الأبقار.‏

    الوضع سيئ للغاية، الأطباء لا يقولون لنا شيئاً حتى ولا يتكلمون بينهم. تحركت غريزة الفضول لدينا وقلنا: ما هو الموضوع لماذا يخفون عنا كل شيء؟!‏

    حتى أتى ذلك اليوم الذي جاء فيه الطبيب الجديد، وعندما وصل إلى الصالة كنت أتقرب منه لأسمع ماذا يقول وحاولت أن أسمع شيئاً ولم أفلح ولكن عند عصر ذلك اليوم سمعته يقول لطبيب آخر: (اضطراب، عدم شهية للطعام وردّة فعل عصبية تجاه العوامل الخارجية ورجفة وقلة الحليب وشلل وهكذا).‏

    كان يتكلم عن أعراض المرض. قلت لنفسي: (هل نحن أيضاً) وذهبت إلى الزاوية وقيمت وضعي الصحي لأرى هل أنا أيضاً مصابة بهذا المرض، فأول أعراض المرض وهو الاضطراب كما قال الطبيب موجودة لدي!‏

    نعم هذا هو الواقع اضطراب، وماذا أفعل؟! كدت أفقد وعيي وأسقط على الأرض ولكنني تمالكت أعصابي وقلت: (إذا شاهدوني بهذه الحالة سيأخذونني إلى الزنزانة ولا أعرف ماذا سيصيبني من جراء ذلك؟!).‏

    الطريق الوحيد هو مواساة نفسي! وبدأت ذلك، قلت لنفسي: (هذا الاضطراب هو بدون شك بسبب الأزمة التي حلت ببعض البقر الموجود في الصالة!) كررت ذلك عدة مرات ولقنت نفسي ذلك مراراً، حتى سكن هذا الاضطراب وذهب القلق، كأنني قد صدقت ذلك! ومن الواجب علي أن أصدق، ولكن الأزمة ما زالت مستمرة في المزرعة.‏

    سمعت يوماً البيطري يقول لمسؤول المزرعة: (طبعاً حتى يتحرك الإنسان تسير الأمور في غير الوضع المطلوب وينتهي كل شيء والبقر المريض ينفق ما بين ثلاثة أشهر وسنة واحدة).‏

    قد خفت كثيراً. بالأخص أنني لم أسمع من هؤلاء الأطباء والمسؤولين عن علاج لهذا المرض وكان‏

    محور كلامهم : (البقر) و(الموت)!وبعد ذلك تبدلت‏

    هذه الكلمة إلى (موت).‏

    وكلما ذهبت إلى مكان، كان الكلام يدور حول الموت، الموت الذي أصاب البقر، أو الموت الذي سيصيب البقر.‏

    سمعت ذلك من الطبيب المتمرس الذي جاء لدراسة وضع البقر المريض، الذي سمعته يقول بصراحة تامة: (لا علاج لهذا المرض، وكلما ظهرت علاماته على البقر علينا أن ننتظر موته).‏

    كان ذلك عجيباً. الموت! الموت! لا أحد يعلم أو يقول ما هو اسم هذا المرض أو من أين أتى وما هي أسبابه، لننتبه منه؟!‏

    وبعد شهر أعلنوا: (هذا المرض هو مرض عصبي ونفسي وقد شوهد لأول مرة في بريطانيا)، نظرنا إلى بعضنا البعض وقلنا ماذا يقصدون.؟! بقر ومرض عصبي؟! من يصدق أن البقر يصاب بمرض نفسي؟! ليس لهذا الكلام أي صحة ولم يحدث سابقاً؟!‏

    ولكن بعد أسبوع قالوا: (هذا المرض هو مرض جديد وغامض ويصيب الجهاز العصبي للبقر وينتج عن ذلك اختلال في التوازن وبعد فترة يؤدي إلى الموت!)‏

    وبعد مرور أربع وعشرين ساعة على إعلان الخبر، رأيت في كل مكان أناساً يتحدثون في الصحف والإذاعات والمحطات التلفزيونية عن مرض جديد بين البقر اسمه (جنون البقر)!‏

    أصبت بصدمة. لم أكن أفكر بذلك أبداً. البقر جميعه لم يفكر في ذلك. قلت لنفسي: (ماذا؟! هؤلاء البقر المساكين وتعيسو الحظ والموجودون حالياً في الزنزانة مجانين ولا يعلمون؟!) جلست وفكرت ملياً لأصل إلى نتيجة، وتذكرت ما فعلوه معي وما حدث. نعم كأن هذا الكلام صحيح. لقد تذكرت وجه إحداهن أحسست غصة في صدري وبكيت. (تبكي).‏

    دخت، نحن جميعاً دخنا. كيف يقع أصدقاؤنا في هذه الأزمة ولماذا واحدةً تلو الأخرى! إنه مرض معدٍ أيضاً، ولكننا نهتم بنظافتنا ولم تكن أي بقرة مريضة بيننا ولم يكن بيننا منحرفون من الذين يتواجدون عادة في بعض الأماكن. ما هو هذا المرض الذي هاجمنا؟‏

    ظهراً سمعت أحد الباحثين يتحدث قائلاً: (أكدت الدراسات والتحاليل أن منشأ المرض ليس فيروساً أو جرثومة بل نوع من البروتين!)‏

    تعجبنا كثيراً. نحن نعلم أن بعض الأطعمة والبيض والسمك وما شابه ذلك تنتمي لطائفة البروتينات، ونحن لا نأكل هذه الأطعمة، نحن نباتيون ولسنا من أكلة اللحوم!‏

    ولكن قضي الأمر يجب أن نكتشف طريقة انتقال هذا المرض، لنحمي بقية البقر المساكين من هذا البلاء أو نقلل الإصابة، بالأخص أن الأبحاث أكدت على أنّ هذا المرض مستور ولا تظهر علائمه بوضوح.‏

    صحيح! إذا سألوا قولوا لهم لم نرها! طيب! نعم.‏



    نواصل.....

                  

01-29-2004, 04:29 PM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مذكرات بقرة مجنونة (Re: rani)


    بدأت الأزمة،



    بدأت الأزمة،
    يخاف أحدنا من الآخر كل واحد منا يفكر: (أن ذلك مصاب ويجب الابتعاد عنه) كانت أياماً صعبة يفر فيها كل واحد من الآخر. وانعدمت العاطفة والمحبة، بدأت الصداقة تفقد لونها الجميل وخلال أسبوع نسيت تماماً.‏

    ومن أجل الحد من العدوى. الحياة أصبحت وحدانية وخرجت من الحالة الاجتماعية. البقر لا يتكلم مع بعضه البعض خوفاً من انتقال المرض وقد تفرق البقر عن بعضه بسبب المرض حتى في العائلة الواحدة!‏

    أعرف عائلة من الأبقار علاقتهم الأسرية متينة للغاية وكانت الأبقار الأخرى تحسدهم على وضعهم ولكنهم في هذه الأيام تشتتوا عن بعضهم خوفاً من العدوى! وكانوا يشكّون في بعضهم البعض ويقولون: (من الممكن أنه لم تظهر علامات المرض بعد)‏

    والمأساة الأكبر وضع العجول التي كانت تعيش معنا، قبل المرض كانت البقرات تستمتع بالحديث مع العجول بسبب حلاوة كلامهم ولكن حالياً لا طاقة للكلام معهم. وإذا قرر أحد العجول الاقتراب من إحدى البقرات، كانت تنظر إليه نظرة قاسية وتقول له: (ارجع إلى أمك، لا تتقدم!) وإذا سقط أحد العجول أرضاً بسبب الدوخة التي تصيبه، الجميع أصيب بالدوخة ولا يعرف ماذا يفعل، إذ سقط أحد العجول أرضاً لا يستطيع أحد من البقر مساعدته! آه مرة أخرى الأم. في تلك الأيام القاسية والجميع يخاف الموت، مرة أخرى الأمهات اللواتي كن في رعاية أطفالهن ولم يتخلين عنهم!‏

    طبعاً رأيت عدداً من العجول المقدرة للوضع،‏

    والتي هي قد فهمت الوضع خوفاً من العدوى ابتعدت‏

    عن أمهاتها ولكنني لم أر أماً تبتعد عن ولدها. آه أيها الدهر!‏



    لحسن الحظ علمنا بخبر العدوى من ذلك المرض في الوقت الذي كان الوضع لا يطاق والعلاقات قد وصلت إلى نقطة الصفر ووصلت إلى حالة مزرية ومخجلة، وأعلن العلماء: (عامل العدوى لهذا المرض تناول مخ بقرة ملوثة بهذا المرض!) بهذا الخبر المفرح، خف الاضطراب والخوف لدى كثير من البقر وتحسنت أحوالهم، وإذا كان الوضع سيستمر هكذا لاضمحلت أخلاق وعاطفة جميع الذين في المزرعة! سررت كثيراً بسبب انتهاء هذه الأزمة المخجلة. مع العلم أنني تعجبت من (طريقة انتقال العدوى) التي أعلنوها!‏

    عجيب ذلك! في الحقيقة كل شيء كان عجيباً في تلك الأيام! قلت لنفسي هل نحن بني البقر مثل بني البشر نأكل الرؤوس والمخ وغير ذلك؟! هل نحن متوحشون لا قدر الله، هل نحن عندما نرى سيارة ما تضرب بقرة وتخرج أحشاءها ومخها، نركض لأكل مخها؟! لا . لا أعرف ذلك هذا الكلام لا يعرفه الكثير من البقر!‏

    ولكن في أحد الأيام أعلنت الصحف عن منشأ هذا المرض من أين وما هو؟ نعم كتبوا: منشأ هذا المرض هو أحشاء بعض البقر الذي كان يذبح في المسالخ مثل المخ والأعصاب والدهون وأمثال ذلك يوضع في درجات حرارة وفي أجهزة خاصة ويجعل بودرة طعام يمزج مع العلف ويقدم للبقر. ولكن مع الأسف في بعض الأحيان لا تعطى الحرارة الكافية لهذه الأحشاء، فتبقى على ما هي. (يجب أن تطبخ هذه الأحشاء ثلاث مرات وكل مرة عشرون دقيقة في درجة حرارة 133 درجة مئوية لتعقم وتطبخ جيداً، وفي بريطانيا هذه الحالة طبخت في درجة 80 مئوية وبعد عام 1982 انخفضت درجة الطبخ من 10-20 درجة مئوية وهذه الحرارة لا تقتل الميكروبات) هكذا انظروا بهذه البساطة!‏

    لقد تذكرت تلك الأيام التي كنت أحس بطعم سيئ لتلك البودرة الملعونة التي كانت تمزج مع العلف الذي كنا نأكله. وأسموه (بروتين خاص). عندما كنت أقول لهم إن طعم هذا الغذاء قد تغير، لم يهتم أحد بكلامي! لماذا؛ لأنني بقرة. لماذا؛ لأنهم كانوا يقولون: (هذا طعام خاص!) لماذا؛ لأنهم يقولون: (الخبير هو الذي وضعه لنا) لماذا؛ يقولون: (قد تم تحليله وفحصه في المخابر!) لماذا؛ يقولون: (البيطري الخاص في المزرعة هو الذي يراقب صحتنا!) لماذا، آه.‏

    ومنذ ذلك الوقت كرهت كل شيء خاص وأحياناً أكره كل شيء (خاص)! برأيي كل شيء خاص يعني ملوثاً وغير نقي ومزوراً وكذباً سياسياً وعديم الذمة والضمير ومؤامرة وتملقاً وتمييزاً وعدم التزام وغير طبيعي وغير أخلاقي وغير بقري وحتى أنه غير إنساني!‏

    يعني جنون البقر. يعني. ماء!. ماء ماء عطشانة. عطشانة!‏

    (أتصور قد ساءت حالتها. أعطوها ماء. تهدأ).‏

    شكراً أنا سعيدة لأنكم تفهمون علي لهذا أطيل عليكم إطالة الكلام ووجع الرأس نعم. بعد مدة عرفت أن البروتين الخاص الذي كانوا يمزجونه مع العلف هو بقايا أحشاء من المخ والأعصاب لبقر مثلنا وكانت تطبخ في درجة حرارة عالية لتصبح بودرة وتمزج مع العلف ولم نكن نعرف ما كان يتم. حقيقةً كان هذا نوعاً من الحماقة! لأنني قد سمعت أن البروتين الخاص الموجود في المخ والجهاز العصبي والألياف والنخاع الشوكي في وسط فقرات الظهر بعد موت البقرة أو الغنم فإنه يطرأ تغير على المادة المفيدة في تلك الأعضاء وإنما هو عبارة عن شيء كان في أحد الأيام مركز الجهاز العصبي، الجهاز الذي كان يحرك ملايين الأعصاب ومركز إصدار الأوامر و(الجهاز) شيء لا يؤكل وبعبارة أخرى هذا الشيء الذي هو شيء بالأحرى هو نظام وجهاز وإذا اختل توازنه يوماً ما تتغير ماهيته ومن الممكن أن تتغير هويته، ولكن حتى تتغير ماهيته!.‏

    أريد أن أقول أن رأي العلماء صحيح. هم يقولون: (بأن المادة البروتينية الموجودة في المخ والجهاز العصبي تتغير بعد الموت).‏

    أنا لا أعرف في هذه الأمور وقد عرفت بعضاً منها خلال الأقاويل التي كانت تقال في أيام الأزمة والذين كانوا يترددون بين فترة وأخرى إلى هناك من الممكن أن يكون رأيهم حول هذا الكلام الذي كنت أتصور قولهم: (هذه الأشياء لا تؤكل ويجب عدم أكلها)! هذا الكلام ليس عبثياً. سمعتم أو رأيتم بأن كثيراً من الشعوب لا تحبذ أكل هذه المواد ومثلاً الشعب الإيراني منذ القدم لا يأكل هذه الأنسجة العصبية! منذ القدم حذروا من أكل هذه الأنسجة التي تتوضع بين فقرات الظهر ولونها أبيض! أترون؟ هؤلاء السادة يعملون خلافاً لأقوالهم ويطعموننا نحن البقر البائس هذا الطعام ويطلقون عليه (البروتين الخاص).‏

    هذا الشيء يحرّمه كثير من الشعوب هذه الأشياء يطلق عليها اسم (العصب الحرام) وأكله ليس مفيداً، ويجب أن لا يؤكل!‏

    أنا أتعجب كيف أن الإنسان لا يأكل هذه الأشياء ويحرمها على نفسه ثم يطعمنا إياها. ها؟! يريدون أن لا يضيعوا حتى ولو قطعة صغيرة من البقرة، من الناحية الاقتصادية معهم حق يجب أن تستغل كل قطعة؟! ها!‏

    بعض هذه الدول مثل ألمانيا لا يطعمون أبقارهم بقايا الحيوانات ولهذا فإن هذا المرض أو هذا (البلاء) لم ينشأ في ألمانيا.‏

    والأبقار التي أصيبت في ألمانيا انتقلت العدوى إليها من أبقار بريطانيا.‏

    يقولون في بريطانيا إنه أواخر شهر أيار 1995 أصيب أكثر من مئة وخمسين ألف رأس بقر في ثلاثمئة وثلاثين مزرعة. صحيح أن المسؤولين قد عملوا من أجل عدم انتقال هذا المرض إلى المزارع الأخرى ولكن مع كل هذه التدابير فقد انتقلت العدوى بوساطة أربع بقرات نقلن من بريطانيا إلى ألمانيا ومع الأسف أصيبت أبقار ألمانيا بالمرض. وقد عمل المسؤولون على معالجة الوضع ولو لم تتم هذه المعالجة لنفقت جميع أبقار ألمانيا!‏

    صحيح.! إذا سألوا عني قولوا نحن لا نعرفه أبداً!‏

    طيب؟‏




    نواصل.....


                  

02-05-2004, 08:12 AM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مذكرات بقرة مجنونة (Re: rani)



    وأنا أتكلم معكم


    وأنا أتكلم معكم
    الآن لحسن الحظ تم العمل على معالجة الأمر حتى لا تتدهور الأوضاع أكثر مما هي عليه بالأخص أنتم يا بني البشر بينكم من يحب أكل لحم البقر مثلاً.‏

    من أجل الحد من إعادة الوضع السابق والوقوف أمام هذه الكارثة، أعطيت الأوامر بعدم تقديم طعام الأبقار ممزوجاً بأحشاء الحيوانات كالأعصاب والمخ والنخاع الشوكي وما شابه ذلك، بالأخص في الأماكن التي يتواجد فيها مرض جنون البقر!‏

    كثير من الدول أوقفت استيراد لحوم البقر من البلدان الموبوءة ومن حسن الحظ أعلن العلماء الذين يعملون في هذا المجال أن هذا المرض لا ينتقل عن طريق الحليب وإلا كنا في ورطة!‏

    وبعض الدول أرسلت خبراءها إلى بريطانيا وفرنسا وإيرلنده من أجل الوقوف على عملية تصدير البقر حتى لا يكون في هذه الصفقة أبقار مصابة!‏

    تصوروا أن بين هؤلاء الخبراء إنسان يحب الرشوة وليس لديه ذمة ولا ضمير ماذا ستكون النتيجة وكيف ستكون هديته المريبة إلى شعبه؟!‏

    وفي الوقت الذي تكون فيه المسألة المادية غير مهمة وحقيقةً يجب أن تكون غير مهمة –كما أيضاً لحسن الحظ، طبعاً هذا استثنائياً ليس مهماً لبريطانيا.‏

    بسبب معدل تصديرها السنوي الذي يبلغ ثمانية مليارات دولار من تصدير لحوم البقر إلى البلدان الأخرى وقد توقف هذا العمل. تحتاج بريطانيا إلى أعوام حتى تستعيد موقعها في مجال تصدير لحوم البقر.‏

    صحيح كما تعلمون أن بريطانيا هي إحدى الدول المصدرة للوازم المكياج مثل الكريم لمعالجة حب الشباب أو لمعالجة تجاعيد الوجه وما شابه ذلك. ولكن هذه المواد تصنع عادةً من مخ البقر.‏

    أوصي السيدات أن لا يستعملن هذه المواد حتى إشعار آخر: أن لا يستعملن ولا يشترين.‏

    تمنيت أن تحل كل هذه الأمور بهذه الوصايا! ولكن مع الأسف!‏

    كما سمعت قررت دول الاتحاد الأوروبي قتل ثلاثة ملايين رأس من البقر مصاب بهذا المرض وأعمار البقر من سنتين ونصف فما فوق، أنا هنا لا أذكر كلمة (إعدام) كما ذكروها هم، ولن أكررها مرة ثانية.‏

    نعم وقرروا دفع مبلغ ستة مليارات دولار تعويضاً لأصحاب هذه الأبقار، هذا التعويض من أجل أن لا يخفي المزارعون أبقارهم لخوفهم من عدم التعويض، أو يذبحوها خلسة ويبيعوها إلى المستهلك.‏

    أما بالنسبة إلى الأبقار الصغيرة فهم لم يقرروا بعد ماذا يفعلون بها وهم ما زالوا يفكرون حالياً كيف ستتم المعالجة لهذه المسألة، بعض من هذه البقرات هربت وبعض منها ما زال يختبئ.‏

    وهناك قرارات حاسمة للكشف عن هذه الأبقار!‏

    فتشوا في جميع المزارع، وجميع القرى والمنازل من أجل البحث عن البقر المصاب أعلنت حالة الاستنفار في جميع المناطق.‏

    المخبرون أيضاً يبحثون وهم مستعدون للإخبار عن البقر المريض حتى أنه هناك أرقام هواتف مستعجلة للإعلام عن وجود أبقار مجنونة.‏

    فرق تفتيش من البيطريين بدأت تعمل في المزارع الأوروبية وتفحص البقر المصاب أو المشكوك بأنه مصاب وقد جمع البقر المصاب في مكان عام من أجل قتله وتمت تعبئة جميع الطاقات من أجل القضاء علينا ومن ثم نرتاح!‏

    نعم. ولكن، صحيح إن هذه أفضل طريقة، وعمل، ولكن صحيح أنا لا أستطيع تحمل ذلك وصحيح هربت! نعم!‏

    لا تقلقوا! أنا غير مصابة! لا تخافوا. صحيح. هل هم موجودون في إحدى الزوايا من هنا وينتظرونني.. لأجل..؟! ها. لا، قلت لأجل. أنا مضطربة من شيء آخر! أرجو أن تهدأ!. أنا لماذا تنظر إلي هكذا؟‏

    لا تقلق!. أنا. أرجو أن تسمع. أنا أتيت لأقول شيئاً آخر! لأنهم أريد أن أقول، أريد أن أقول: أنتم لستم مقصرين أريد أن أقول: لست مقصرة. وأثبت ذلك لكم! صحيح أنا هربت بقناعتي وأقاوم حتى لا أقتل!‏

    وقد سعيت أن لا أعتقل! أولاً: لأنني أعرف أنني غير مصابة بجنون البقر! من أين أتيت؟ ألم أكن معكم وتربيت معكم؟ أنا لم آت من المريخ! ها؟ ولم أكن يوماً من الأيام سيدة نفسي حتى أقول: إنني فعلت ذلك بنفسي! قد كنت أتحرك حسب ما ترسمونه لي من برنامج لأعيش وأستمر في الحياة! أقول: حياة، أو أفضل أن أقول: عبودية! لأن العبيد عندما يكونون أصحاء يكونون بحاجتهم وعندما يمرضون يصبحون بلا فائدة يرمون للوحوش الكاسرة ليتفرج عليهم أصحابهم وهم يُفْتَرَسْونَ من الوحوش الكاسرة.‏

    وهؤلاء الوحوش أيضاً تصل إلى أمانيها وتشبع على حسابنا! انظروا؟ في أية حال نحن. سوف نكون ضحية في آخر المطاف؟!‏

    صحيح. لا أن يهجموا هنا و.. ؟ ولكن لا سوف لن أسمح لأنني قد عانيت الأمرين في حياتي واحُتْقِرْتُ كثيراً وقد عانيت من التحقير الأخلاقي والإنساني والوطني والجنسي- كما أخبرتكم سابقاً -وقد عانيت كثيراً في حياتي وتعاملوا معي كفأر المخبر من قبل أصحابي الأغبياء؟! ها؟ لماذا نكون نحن ضحية غباء وأخطاء مسؤولين عن تربية الأبقار واللحوم والحليب؟ من الممكن أن هذا الجنون قد أتى إلينا منهم؟ ها؟ لماذا لا تتكلمون؟ هل هذا هو الدفاع عنا؟‏

    هل أنا أعتبر العصب الاقتصادي كما تقولون- أنا السبب بعمل الملايين من البشر في العالم -هل أنا لا أساوي مبلغ فروغ محل صغير وذلك بتنظيفي والاعتناء بي؟ أنا لا أساوي قيمة سيارة قديمة من طراز 1960 التي تنقل المسافرين من أجل الحصول على لقمة العيش لصاحبها؟! أنا الآن لا أتكلم عن البعض الذين يملكون سيارات فاخرة ويدفعون الغالي والرخيص من أجل تغيير لونها ويقعون في الديون.‏

    هناك بعض الأديان والمذاهب مثلاً في الهند ولو أنهم في بعض الأحيان يتطرفون بذلك على الأقل يهتمون بنا ويحترموننا؟‏

    لأننا نسد حاجاتهم الغذائية واقتصادهم يكتمل بنا! لأن حليبنا الذي هو غذاء كامل ولا حاجة للكلام عنه هو أهم طعام في الهند! ولا أتكلم عن اللحوم وأهميتها وكذلك الجلود وسائر أعضائنا. وحتى أحشاؤنا الداخلية من أمعاء وغيره يستعمل أيضاً؟‏

    لا أقول شيئاً! جيد! مع كل هذا الكلام الذي لم أقل واحداً على عشرة منه ألا يستحق الاهتمام والاعتناء والمعاينة الطبية. ألم تكن جريمة كبرى مقتل أبناء جنسنا وهذا البلاء الذي حل بنا؟ أليست جريمة؟‏

    نعم إنها جريمة عالمية أيضاً!‏

    هل هذا القتل الجماعي، له تعويض مادي ومعنوي وأخلاقي وهل نحن أقل من الذين يقال عنهم حرقوا في المحرقة؟‏

    هل تعلمون أن هناك الملايين من شعوب العالم بالأخص الأطفال البريئين جياع ويموتون تدريجياً من الجوع؟! لو كانت هناك بقرة واحدة في الحي الذي يسكنون فيه لما جاعوا أبداً؟ ألم يؤثر قتل البقر بهذا الشكل على التوازن الغذائي العالمي؟‏

    طبعاً أنا لا أخالف أية قرارات بحق البقر المجنون، لأن عدم معالجة الأمر حتى ولو كان هذا الأمر مؤلماً سوف يؤثر على البقر في أنحاء العالم وسوف ينقرض البقر من الوجود ولن نرى اللحم والحليب مرة أخرى!‏

    (تبحث عن شيء ما)‏

    ثلاثة ملايين في بريطانيا وتقريباً مليون ونصف في مكان آخر. سوف يقتل ثلاثون ألف رأس بقر حتى يتم قتل الأربعة ملايين ونصف وهذا العدد شخص مرضه هنا وهناك، لا أعرف كم تدوم مدة القتل، حالياً لم يكن عندي الوقت الكافي لحساب المدة!‏

    صحيح كم الساعة؟‏

    (تبحث عن ساعة)‏

    نعم قُرِّرَ أن يكون القتل يومياً في هذه الساعة وفي هذه الدقيقة وهكذا نعم خمس وعشرون ثانية عشرون ثانية خمسة عشر ثانية عشر ثواني خمس ثواني - . نعم بدأ القتل.‏

    ارتفع صوت الصراخ وطَلَبُ النجدة وصوت المااااع والآلام التي أسمعها. إني أرى مشهد سقوطهم على الأرض دم نهر دم.. نهر دم حقيقي وبعد ذلك حرق… حرق رماد و.‏

    (أتصور أنها تبكي)‏

    وأنا الآن أتكلم معكم، يفحصون البقر في أوروبا من أجل الاطمئنان على عدم إصابته وإذا كان بينها مريض يساق إلى القتل!‏

    حتى أطباؤهم البيطريون لا يشخصون دلائل جنون البقر! ولكني أنا أعرفها بشكل دقيق. هل تعرفون لماذا أريد أن أخبركم بها لتحذروا منها! ربما بسبب ذلك الفقير وأطفاله الذين تعاملوا معي بلطف ومحبة وأحببتهم؟‏

    ومن الممكن بسبب ذلك البيطري الذي وقف من المساء حتى الصباح لمعالجتي كي لا أموت؟ ومن الممكن بسبب. لا أعرف!‏

    على أية حال هذه هي علامات جنون البقر! أولاً: فقدان التوازن والتمايل في المشي والوقوف. ثانياً: حركات غير متعادلة وغير متوازنة والسبب هو الخوف والاضطراب الذي ينجم عن المرض.‏

    ثالثاً: فقدان الشهية للطعام والتحسس المفرط والتوتر الذي ينتج عن اختلال في الجهاز العصبي الذي ينفجر عند أية حركة صوت ومن ثم يهدأ عند صوت آخر!‏

    ولكن الشيء العجيب هو أن البقرة المصابة بجنون البقر تجلس وتبدأ بالتفكير كالإنسان الذي ينظر إلى نقطة معينة ولا يتحرك!‏

    صحيح لماذا أتيت إلى هنا؟‏

    لا. نعم، كنت أريد أن أسأل شيئاً ما؟. آه! صحيح، هل تعرفون والدتي؟‏

    هل عندكم خبر منها؟‏

    هل شاهدتموها قريباً؟‏

    هي تشبهني أنا أشبهها!‏

    جيد مع هذه العلامات، هل رأيتم بقرة بهذه المواصفات في الحي الذي تسكنون فيه أو في مدينتكم؟‏

    لا أعرف لماذا أراها في الخامس من تلك الصفوف التي تساق إلى القتل الجماعي من البقر صحيح كم كانت تشبه والدتي!‏

    أريد أن أقول لكم من الممكن أن تصدقوا. أريد أن أقول أنا. أنا لا أريد شيئاً! أنا، أريد والدتي فقط! أريد أن أرجع إلى أيام طفولتي وأضع رأسي على صدرها وأحس بالهدوء!‏

    وبعد ذلك ليحدث ما يحدث، وكل شيء إن حدث ستتدهور الأمور وستقع على رأسي! ليس مهماً. حقيقةً ليس مهماً!‏

    آه. يا لسعادة الأشخاص الذين عشقوا في حياتهم لأنهم مرتاحون في ذلك الوقت وعندهم نوع من السكينة، ولكنني مع الأسف لم أعشق في حياتي.‏

    لم تسنح لي الفرصة لأحب حتى أنه لم تكن الفرصة مواتية لذلك. بسبب هجرتي المتكررة من مكان إلى مكان آخر ولم أستقر في مكان معين حتى أرتبط حسياً أو عاطفياً.‏

    زواجي كان بالقوة وغير مطلوب. وبالأحرى كان بسبب مصالح صاحب المزرعة حتى أنجب عجلاً ويحلبني، وإن كان في الأوقات العصيبة مثل هذه الأوقات –كنت أتذكره- لاشتاق لـه وأهدأ. ذلك المسكين ظروفه كظروفي. وأيضاً كان هو يعاني أكثر مني بسبب ذلك الزواج. لأنه كان يحب واحدة غيري!‏

    أترون؟ الحياة في المزرعة فقدت مصداقيتها والكثير لا يعرفون هذا، وكثير منهم يضعون تعاستهم في خانة المسائل الفرعية!‏

    صحيح؟ ألا يمكن أن تكون هي. لا لا يُهيَّأ لي أنها هي.‏

    (كأنها عطشانة وتنفعل)‏

    ماء ماء‏

    (أحد يقدم لها الماء)‏

    شكراً حقيقةً لطفك سابق! لو كنت أستطيع أن أدر عليك قليلاً من حليبي، ولكن. صحيح إذا علموا أنني هنا قولوا: لم نتكلم معه أبداً! قولوا: لا نعلم عن ماذا كانت تتكلم؟! طيب!‏

    صحيح. تلك العلامات التي تكلمت عنها تلك الدلائل الملعونة. لا تعرفون ما هي؟ ماذا هي؟ ها؟ آه أيها البشر!‏

    (بسكينة وهدوء تجلس وتفكر مثل البشر ولا تتحرك)‏



                  

02-10-2004, 06:35 AM

rani
<arani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مذكرات بقرة مجنونة (Re: rani)

    انتهت مش؟
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de