|
الكتابة بلغة ثانية: مفقود في الترجمة(أرونداتي روي وليلي أبو العلا)
|
الكتابة بلغة ثانية: مفقود في الترجمة أرونداتي روي وليلي أبو العلا
" في الرجل خطورة الليلة. فإن يأسه قد اكتمل. فالقصة هي شبكة الأمان التي يغوص نحوها من أعلى كمهرج بارع في سيرك مفلس. هي كل ما يملك كي لا يتحطم ويصتدم بهذا العالم كحجر يهبط من علو . القصة لونه وضوؤه. إنها الوعاء الذي يصب روحه فيه. لتعطيه شكلا. هيكلا. لجاما. إنها تحتويه. تحتوي حبه. تحتوي جنونه. تحتوي أمله. تحتوي سعادته الأبدية. المفارق في الأمر، أن أزمته هي عكس أزمة الممثل- فهو يصارع لا ليدخل دور ما بل ليهرب منه. وهذا ما لن يتأتى له. ففي هزيمته الكاملة يكمن نصره الأعلى. هو الان كارنا، الذي تخلى عنه العالم. كارنا الوحيد. أمير نشأ في الفقر. ولد كي يموت مظلوما، أعزلا، وحيدا على يد أخيه. جليل هو في يأسه المكتمل. يصلي على ضفاف الغانغا."
يقال أن سامويل بيكيت كتب بالفرنسية كي يتحرر من تأثيرات حتمية على أسلوب كتابته بلغته الإنجليزية. تحديدا من جيمس جويس. وينسب له القول بأنه يكتب بالفرنسية كي تتحرر كتاباته من الأسلوب. نحن غير معنيين بفلسفة بيكيت هنا. لكني أردت أن اتحدث عن الكتابة بغير اللغة الأم كفعل تحرر! ليس فقط تحرر من الأسلوب كما فعل بيكيت ، بل من أي تأثير ما "إذا كان ذلك ممكنا" عندما نريد أن نكتب فوق الثقافة، الدين، المجتمع، النظم، الجماعة، المنطق العام، فوق المتفق عليه. باختصار عندما تريد أن تكتب كفرد. بالطبع هناك أغراض أخرى للكتابة بلغة ثانية، كالتواصل مع اخر لا يفهم لغتك الأم. في غالب الأمر أنا لا أحب أن أضع شروطا للكتابة، لكن الكتابة من هذا النوع "أعني تلك التي تحمل رسالة ما" لا بد أن تحتوي على شرط كتابة اخر، هو أن لا يكون هذا التواصل على حساب طمس لذاتك. فللجسر طرفان، أنت تقف على أحدهما. هذه مداخلة جانبية. ولأعود مرة أخرى لموضوعنا وهو الكتابة بغير اللغة الأم التي قلنا أنها فعل تحرر. الذي يعزز فعل التحرر هذا، هو أنك تتعامل مع اللغة الثانية خارج سياقها. أعني خارج التاريخ الذي ولدت منه ونشأت فيه. خارج حضانتها، فتصبح اللغة عرضة لك أنت وحدك الكاتب، أنت المؤثر الأعلى عليها، تتشكل بك أكثر مما تتشكل بها. وعندما أقول ذلك، تصبح اللغة ، ومن ثم كتابتك، مراة لذاتك الفرد (لا ممثل لمجتمعك أو تقاليدك..الخ). هذا الفعل لا يتأتيى فقط مع اللغة الثانية، بل حتى اللغة المختلفة عنك. كما فعل عزرا باوند في الكانتو المعنون بـ "أوزورا" الذي كتبه بلغة انجيلية أصبحت عاطلة عن الإستخدام، فهو خرج هنا عن تقليد الكتابة المعاصر لزمنه. او كما فعل شيكسبير عندما خرج عن تقليد الكتابة لمعاصريه التي أعتقد انهم وصفوها بـ "سوقية ما" في وقت كانت تحكم الكتابة تقاليد الكتابة اللاتينية والرومانية. لأاعطي مثالا سريعا: يوليوس قيصر يصبح شخصا اخر عندما يكتب عنه شيكسبير إذا ما قارنته ببلوتارك، وبنفس القدر عندما يكتب عنه برنارد شو في لغة لندنية معاصرة في مسرحيته قيصر وكليوباترا. المقتبس أعلاه ليس لبيكيت ولا شيكسبير ولا شو. إنه للكاتبة الهندية أرونداتي روي عن روايتها الوحيدة (اله الأشياء الصغيرة) عام 1997. مكتوبة باللغة الإنجليزية، و الترجمة بتصرف مني. الرواية سرد عن بطلة القصة راهيل عن طفولتها التي تتقاسمها مع توأمها استابين. راهيل واستابين توأمان متطابقان من اقليم كيرالا أقصى جنوب الهند الغربي ، اقليم متمايز عن الهند بتاريخه السياسي (اليساري)، وتركيبته الإثنوغرافية ، وتركيبته المجتمعية (مجتمع أمومي لكنه اخذ في الإضمحلال) . الرواية تتناول مواضيع كثيرة: عن كيرالا من ناحية تقاليده، تاريخها السياسي، العلاقة بين الرجل والمرأة في خضم كل ذلك، والعلاقة مع المستعمر الإنجليزي، وعن المجتمع الطبقي ومجتمع الثقافات الوافدة والأصيلة (مع تحفظي على العبارة) والتفاعل فيما بينها، وأخيرا: العولمة في مجتمع كيرالا المنغلق الخاصة. اللغة الحرة التي تستخدمها أرونداتي ليست فقط اللغة الإنجليزية التي تشكلها كما تشاء ، وهي تتبع في ذلك سير الكاتب سلمان رشدي الذي أحدث انقلابا في تاريخ الكتابة الإنجليزية، بخلق ذلك الهجين الإندو انجليزي. الذي ترى ملامحه باختصار يناسب هذا المقال في : جمع كلمات انجليزية هندية، حتى لغة الأصوات النابعة من الثقافة الهندية (لو ضربنا بذلك مثالا سودانيا، فبدلا من أن تستخدم المفردة الصوتية الإنجليزية "سبلاش" للسقوط في الماء، ستستخدم المفردة الصوتية السودانية: "جمبلق") ، تركيبة الجمل ، المفردات الإنجليزية بتراكيب مختلفة (كأن تصبح ستيكي: ستيكيتي) . هذا يإختصار. أرونداتي تأخذ هذا الإستخدام الحر للجنين الإنجليزي خارج حضانته، فتعمل فيه أكثر من حقنه بطريقة الكلام الهندية. فالقصة مروية من قبل طفلين (نعم في وقت واحد) في السابعة، واللغة تتشكل وفق ذلك، فهي تخرج اللغة من الحضانة الامنة للحديث من مفرد إلى جمع، وهو جمع غير متقيد بنوع (ذكر/أنثى). لتتحرر من تقاليد الكتابة تستخدم هذه اللغة لتتقمص شخصية التوأم، في السابعة، ابنة/ابن الإقليم المتنوع ذو الصراعات المتعددة: ثقافات وافدة، ثقافة المستعمر، القديم مقابل الجديد، المجتمع مقابل الفرد. وخطا من يظن أن عالم الصغار هو عالم يضع العالم في حدود الأبيض والأسود (هذا من خصائص عالم الكبار) فعالم الصغار تكمن بساطته ونقاؤه في قدرته على عرض كل الألوان وتشابكها بصدق، يعرض التعقيد دون أن يحاول أن يخله بأي تبسيط. فعالم الصغار لا يحاول أن يصنع أحكاما وفق معايير مسبقة، بل يتعامل مع كل حادثة على حدة. ويمنح كل ثابت اسما جديدا كل يوما، لأنه يدرك ان لا ثابت. حتى لا أغرق في المجاز، مفردة الأم الرؤوم الثابتة عندنان تتغير عند الطفل كل يوم: الأم الحنون، بعد دقائق الأم القاسية، بعد دقائق أخرى الغريبة، ثم القريبة..الخ. في الإقتباس أعلاه تكتب عن راقص الكثالكي وهو رقص مسرحي يسرد أساطير دينية ويؤديها الراقص هنا داخل المعبد تكفيرا عن أداؤه السابق لها في موسم السياح بصورة مفتقرة للبعد الروحي، فقد ابتذلها في شكل فولكلوري. يرقصها هنا بروحه، بصدق ونقاء تام. وهذا ما أرادته أرونداتي روي في الكتابة عن الهند، الابتعاد عن الفولكلور، هند التوابل والميثولوجيا، إلى هند الحقيقة والروح التي هي ليست أقل غرابة و نقاء من الهند المتصورة. وعبر هذا الإستخدام الذكي للغة، استطاعت أرونداتي أن تسرد عن كيرالا/ الهند. دون أن تسقط في تعميمات، تنميطات أو رومانسية مختلقة. يقول الناقد الصحفي جون أبدايك من النيويوركر عن الرواية " الرواية ذات الطموح عليها أن تختلق لغتها الخاصة، وقد فعلت هذه الرواية ذلك"
يقول الكاتب الجنوب أفريقي/استرالي المرموق (حائز على نوبل 2003) ج. م. كويتزي ( رواية عن الحب والإيمان، تتبدى أكثر جمالا بفعل "التحكم" او "اللجام" الذي كتبت به) لم يكن يصف رواية أرونداتي روي، بل رواية الكاتبة ليلى أبو العلا "المترجم". ولا أدري مدحا كان هذا أم مدحا لما كتبته ليلى أبو العلا، فأنا لم أفهم ما الـ restraint الذي يتحدث عنه، لعله ذلك التعليق السيء الذي كتبته "المسلم نيوز" بأنها أول رواية انجليزية (حلال) !!! أنا لا أرى أن الكاتبة ألجمت ذاتها عن أي تعبير، أعني لم احس بذلك، لم أرى انها تفادت مثلا (اشارات جنسية، بذاءات، هرطقة) أو كل ما يمكن أن يصبح لجاما على كاتبة مسلمة (!!) لكني أفترض ان كوزيتي يفكر بنمط المرأة الشرقية المسلمة (المحاطة بالمحرمات التي تنقض على حواسها ووجدانها في كل حين) . عموما ليس هذا ما يعنينا في رواية ليلى أبو العلا. والكتابة عنها ربما تحتاج إلى مساحة أكبر من هذه، لكني هنا بصدد الحديث عنها في سياق ما أوردت فيه أرونداتي روي. الكتابة بلغة غير الأم. وقد قرأت الحوار الذي أجراه الراحل الخاتم عدلان مع الروائية والذي أضاء لي كثيرا ما لم اكن أعلمه عن هذه الكاتبة. ليلى أبو العلا تدرك عمق ما تكتب عنه. الشرق والغرب (و إن كانت تكتب عن جزئية عنه) و يتجلى هذا خلال الأراء اللامعة التي تبديا في ثنايا الرواية التي تفصح عن رأيها في الإسلام، التواصل بين الحضارة الغربية والإسلامية، علاقة المستعمر والمستعمر. اراء تتميز بالعمق وتنحو عن السطحية والتعميم. لكن الأفكار والاراء شيء والسرد شيء اخر. ربما لو تم الإفصاح عنها في شكل مقالات لأسفرت عن أدب قائم بذاته. تماما كما فعل (جيمس بولدوين) الذي كان يجمع مقالاته في كتاب واحد وكانها ديوان شعري. والحق يقال أنها لم تكن تقل عن ذلك. فهي "جنر" أدبي رفيع. لغة الرواية. اللغة في الرواية متأنية وشاعرية بالمعنى التقليدي لذلك في أنها احتوت على تشبيهات و استعارات اختيرت بعناية وكشفت عن رهافة حس ورقة متناهية في الكتابة. تشبيهات واستعارات وهذا ما عنيته بالفهم التقليدي للغة الشاعرية. والتوظيف مناسب لأن القسم الأكبر أو معظم الرواية موظف في اجترار "سمر" للذكريات عن الطفولة والوطن. نوستالجيا وحنين واجترار ذكريات . ورغم أن الصور المرسومة عن الوطن تبدو دقيقة، إلا أن اللغة "فوسترية" كما يضعها سلمان رشدي Classical Forsterian English، فالجملة "يأكل بذر البطيخ المملح" هي أبعد ما يكون عن كلمة "تسالي" . وال"بينز beans" هو شيء اخر غير الفول. تماما كما أن الباكستاني يأكل دجاج تندوري، والصيني يأكل السوشي، لا السمك النيئ. أختلف مع الكاتب حافظ خير حول الرؤية الأحادية في الكتابة، أختلف من ناحية أن للكاتب حق في وجهة نظره. احدى أزمات الأدب التي تنبأ بها الكاتب الأمريكي راي برادبري في روايته فهرنهايت451، هي الرقابة القادمة على الكتابات، عندما تصبح رواية ذهب مع الريح: أحادية الرؤية لأنها لم تتضمن وجهة نظر الأمريكان السود حول الحرب الأهلية. مثل هذا النوع من الرقابة يصعب علينا فرضه أو حتى أن نطالب به الكاتب. والرواية في الأصل هي رؤية ذاتية للعالم من حولنا. شرط أن لا تؤثر هذه الرؤية على أحداث وشخصيات الرواية. أعني أن لا تؤثر بتماسكها ومصداقيتها. برنارد شو مسرحي رائع ولكني أتفهم تماما النقد الموجه إليه في أنه يستخدم شخصياته كبوق لأفكاره، فرغم متعة الحوار التي يقدمها شو ، إلا أن حس البروباقاندا لا يغيب عنا في شخصياته، لكنه تفادى ذلك ببراعة في مسرحيته "مان وسوبرمان" . فما يقوم به الراوي هو عرض فكرته هذه على شخصياته التي قدمها لنا من خلال الرواية، ثم يتركهم يتفاعلون معها، قبلوها أم رفضوها هذا يعود للشخصيات التي اختارها المؤلف لروايته. لهذا يوصف الروائي دوما بدقة الملاحظة والمتابعة للناس في حركاتهم في طريقة كلامهم . في رواية المترجم هناك بعض المواقف تبدو spoon fed أو كانها مقحمة في فم الشخصيات. سمر مثلا. وقد أعجبتني هذه الشخصية ، بالنسبة لي فإن سمر في حالة خدر دائم، إلا أنني أرى الكاتبة تحاول أن تصورها في لحظة صدام مع راي الاسكتلندي ، رغم انهم روحانيا متوافقان تماما، فكلاهما ليسا روحانيان. سمر لا تتميز بتدين عميق بل هو تدين اعتيادي، يستخدم الصلاة والصيام والعبادات، كطريقة لتفادي سؤال الإله والدين بدلا عن الأجابة عليه، وهو نفس موقف راي الذي يتعامل مع الدين كظاهرة اجتماعية مؤثرة على سياسات الشرق الأوسط، لذا كنت أتوقع عندما سألته سمر إن كان يؤمن بالإله أن يقول "لا" أو يقول "أنه لم يفكر في الأمر مليا" او "أنه سؤال لم يشغل باله" لكنه أجاب إجابة قاطعة: نعم! وهذا يقلب الموازين بعض الشيء، الذي يؤمن بإله ما ، لا يمكن أن يتعرض للدين كظاهرة اجتماعية فحسب، فلا بد أن سؤال طبيعة التواصل البشري الإلهي عبر الوحي، أو طبيعة القران أن تكون قد مرت على ذهنه وشغلت حيزا فيه. قلت ان سمر في حالة خدر دائم فالدين الذي منعها أن تتناول أقراصا منومة أو تقدم على الإنتحار أو ان تصاب بإنهيار عصبي، هو ذلك الدين الذي رفضت أن يصفه الغرب "بأفيون الشعوب" مخدر يستخدم ليمنع أي حالة من التدهور دون أن يطورها. ثم أتى راي وكان بمثابة الصدمة التي أنعشث حياتها من جديد لتنبض بالحياة بألمها وأملها وأحلامها. سمر شخصية مثيرة للإهتمام ، فزوجها الذي أجبته لم يتجلى لها أبدا في ذكرياتها في صورة البالغ، دوما زوجها الطفل، وذكريات الطفولة المشتركة، والسؤال لماذا؟ أعني أن هذا الجانب لوحده يمثل حبكة رائعة. لا أرى ان الرواية عن الإيمان، أرى أنها رواية شخصين من ديانتين مختلفتين في الظاهر ، لكنهما يشتركان في شكل التدين "اللاروحي" وتم حل هذا الإختلاف الظاهري بنطق أحدهما بالشهادة. وهو ما كانت تريده سمر منذ البداية ، وهي عقلانية جدا في هذا الجانب ، تتخطى العوائق القانونية/ الإجتماعية أمام زيجة كهذه. ليس في الأمر تقارب حضارات أو تباعدها، فسمر امرأة تلتقي لأول مرة بفرد "يستمع" إليها، لذاتها،وراي رجل رأي امرأة تفهمت ماضيه المجروح وتعاطفت معه. الدين ليس سوى عائق شكلي. ليلى أبو العلا ربما تناولت جانب الهوية والاخر بشكل أعمق في قصة "النعامة" و "المتحف" وقصة الفتاة الصغيرة التي تناولت شطيرة الخنزير وتقيأت، والقصة التي تدور أحداثها داخل مركز صحي للإجهاض . الحوارات التي أجريت مع ليلى تكشف عن شخصية ثابته تحمل عمقا حول قضية الدين و حوار الحضارات. لكنه يكشف عن نفسه بعجالة في الرواية ذلك الفن العصي على كتابه أنفسهم، والذي يخذلهم فيه أبطالهم أو يدهشونهم ، فأنت تنحت في لحم عصي حي كأنك نجار ، أو هكذا قال ماركيز عن فن الرواية. في مسرحية شو (مان أند سوبرمان) أدرك أن أفكاره الإشتراكية الثورية ذات البعد "الفلسفي" لا العملي، تتطلب شخصية كان لها "ترف" القراءة الفلسفية الفكرية، وهي شخصية جاك تانر من الطبقة العليا، وقد أدرك شو تلك المفارقة، فقام بوزن نواقص هذه الشخصية بشخصية أخرى وهي "هنري" سائق جاك تانر خريج الكليات التقنية ، اشتراكي عملي لا وقت لديه ليضيعه في الفلسفات المادية، وعبرهما خرج حوار قبل أن يكون مثيرا لإهتمام القراء، لا بد أنه أمتع الكاتب ذاته. لا أدري إن كنت وفقت في ان استعرض في هذه الثلاثية قراءاتي لكاتبات في احتمالات مختلفة عن النقد السائد .
|
|
|
|
|
|