بسم الله الرحمن الرحيم "انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا"
يقول د. النور: (المرحلة الراهنة، في تقديري، هي مرحلة التعمق في معرفة تيارات الفكر المعاصر، ومتابعة ما يجري في ساحة الأفكار..).. قال هذا، في عام 2001م، من خطاب له، للأخ طه إسماعيل أبوقرجة _ونحن كلما رجعنا إلى هذا الخطاب سنشير إليه بعبارة خطاب طه_ وقد تفضل بإرسال نسخة من الخطاب لي.. فأين د. النور من قوله هذا!؟ لعل حديثه عن البراغماتية، يكشف لنا حقيقة وضعه.. فقد كتب سلسلة مقالات، عن البراغماتية، بصحيفة الأضواء السودانية، وبعضها بموقع سودانيز اونلاين على الشبكة.. وقد جرت تلك المقالات، تحت عنوان: العصر الأموي وفجر البراغماتية الإسلامية.. ثم اتخذت عنواناً ثانياً، هو: مستقبل الفكرة الجمهورية.. وأنا هنا بصدد تناول بعض ما قاله عن البراغماتية، لبيان إلمامه بثقافة العصر.. ولكن يعنيني بصورة خاصة أقواله عن الفكرة الجمهورية.. وقد سبق لي أن علقت على كتابة د. النور في جريدة الأضواء، ولكن جدَّ في مواقف د. النور ما يستدعي الكتابة عنه من جديد.. وأهم ما جدَّ، من أقواله، تصريحه بأن الدعوة للعقيدة أو لأي فكرة دينية هي من التاريخ!! هذا الموقف، ليس جديداً بالنسبة لد. النور، فهو قد بدأ عنده منذ وقت طويل، ولكنه لأول مرة يقوله بهذا الوضوح، ونحن سنعود لمناقشته في موضعه.. وكتابتي السابقة، وهذه الكتابة، وما يليها، تؤكد أن موقف د. النور هذا قديم!! ملحوظة أولاً: جميع النصوص مأخوذة من كتابته في جريدة الأضواء.. وأي نصوص أخرى سنشير إلى مرجعها في موضعه. ثانياً: النصوص الخاصة بالبراغماتية مأخوذة من المراجع التالية: 1/ وليم جيمس: البراغماتية.. ترجمة د. محمد علي العريان، الناشر دار النهضة العربية. 2/ يعقوب فام: البراغماتية.. الهيئة المصرية العامة للكتاب 3/ د. سعيد اسماعيل علي: فلسفات تربوية معاصرة.. سلسلة عالم المعرفة الكويتية العدد 198. سنشير إلى هذه المراجع حسب أرقامها. عندما كتب د. النور عن البراغماتية، ربط الإسلام، والأستاذ محمود بها.. ومما قاله عن الإسلام، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه: (لم تجد الدعوة بداً من أن تتحول مضطرة إلى أسلوب الإكراه وكانت تلك خطة براغماتية لجأت إليها الدعوة في السنوات العشرة الأخيرة من عمر النبي الكريم..)!! وقد تحدث عن ما اسماه (البراغماتية الإسلامية)، وقال: (يمكن القول بشكل عام أن البراغماتية الاسلامية في التجربة السياسية السودانية ذات وجهين: وجه نقدي، وعملي، استهدف تفكيك سلطة النص المقدس، وهذا يفسح المجال، إن احسن استخدامه لبناء حالة حضارية اسلامية عقلانية.. ونسب هذا الاتجاه للاستاذ محمود، وذلك بقوله: (وقد مثل الاستاذ محمود في عموم الأمر الاتجاه الأول..).. ونسب الدكتور الترابي للوجه الثاني من البراغماتية، وهو ما اسماه البراغماتية الانتهازية.. وفي موضع آخر، من كتابته قال: (في حين مثل الاستاذ محمود محمد طه، عبر حقب حركته وفي عموم الأمر ايضاً البراغماتية الاسلامية في نسختها العقلانية الفاحصة لسلطة النص، والعاملة على تفكيك سلطة النص، وعلى إضاءة تحديات الواقع المتجدد لضرورة فهم الحكمة وراء النص..).. وقد كان د. النور يتحدث عن البراغماتية كفلسفة، وأورد أسماء بعض فلاسفتها، كما أورد تعريفاً معجمياً لها، ونحن هنا، لسنا بصدد الرد المفصل على د. النور، فقد سبق أن أوردنا هذا الرد في جريدة الأضواء، وفي موقع سودانيس أونلاين الرابط: الأستاذ خالد الحاج: الفكرة الجمهورية والبراغماتية .. ولكننا بصدد بيان جهل د. النور بتيارات الفكر المعاصر، وتجنيه على الإسلام والفكرة الجمهورية. في الواقع كتابة د. النور عن البراغماتية، كانت فضيحة مدوية!! فهو يجهل البراغماتية جهلاً تاماً!! أكثر من ذلك، هو ينسب لها عكس ما تقول به، وفي جرأة غريبة!! كل حديث د. النور عن البراغماتية، مبني على أنها فلسفة عقلانية.. والواقع أنها فلسفة ضد العقلانية!! فهو ينسب لها عكس ما تقوم عليه تماماً!! يقول د. النور من كتابته تلك: (البراغماتية مرادفة للعقلانية ولا تنحصر كلياً في مجرد كونها تياراً خارجياً مناهضاً لسلطة الدين..).. ويقول: (فالبراغماتية كفلسفة تمثل تجسيداً وتطبيقاً عملياً للاتجاهات العقلانية في الفكر الغربي..).. فكل كتابة د. النور في تمجيد البراغماتية قامت على اعتبار أنها فلسفة عقلية.. وكل هذا، هو بالضبط عكس الواقع بصورة صارخة.. فالبراغماتية ضد العقلانية، ولها صراعات مشهودة مع العقلانيين!! الغريب جداً، أن د. النور يورد بنفسه تعريفاً للبراغماتية، ويناقضه!! فهو يقول: (وتعريف البراغماتية الذي اوردته في الحلقة الرابعة كما ورد في معجم كيمبردج الفلسفي يظهر جوانب من ترادف البراغماتية والعقلانية..).. والآن لنعرض على القراء التعريف المذكور، لنرى معاً، عظم المفارقة فيما زعم!! التعريف المشار إليه يقول: (لا يمكن تقرير الحقيقة عن طريق استخدام المقياس الابستمولجي وحده، لأن كفاءة هذا المقياس لا يمكن التحقق منها بمعزل عن الاهداف والقيم الظرفية المحيطة، فالقيم التي تعلو في ظرف تاريخي، وثقافي معين، قد جرى تكييفها بحصافة، بالقدر الذي تستطيع به فقط حل تلك المشاكل بقدر مرضي، وبناء على ذلك فقد جرى الاعتقاد بان تلك القيم تستحق ان يحتفظ بها، فوفقاً للنظريات البراغماتية عن الحقيقة فان الحقائق ليست سوى معتقدات جرى التثبت منها عبر شوط التجربة ولذلك فهي قابلة للخطأ، وقابلة من ثم للمراجعة لاحقاً..).. هذا هو التعريف الذي ارجعنا اليه د. النور، ليس فيه ولا اشارة للعقلانية!! بل هو واضح كل الوضوح، في بدايته وفي ختامه في حديثه عن التجريبية فبداية التعريف يقول: (لا يمكن تقرير الحقيقة عن طريق استخدام المقياس الابستمولجي وحده..).. والمقياس الابستمولجي يعني المعرفي، يعني العقل، فالتعريف يزعم انه لا يمكن تعريف الحقيقة اعتماداً عليه وحده.. اما ختام التعريف فهو واضح كل الوضوح، في الحديث عن التجريبية، فهو يقول: (فان الحقائق ليست سوى معتقدات جرى التثبت منها عبر شوط التجربة..).. وقد بنى د. النور كل تمجيده للبراغماتية وكل اقواله ومفاهيمه حولها وكل محاولاته في استخدامها في المجالات المختلفة، على اساس انها فلسفة عقلانية فاذا انهار مفهوم العقلانية بالنسبة للبراغماتية ينهار بالضرورة كل ما بناه عليها وعلى أساس هذه العقلانية المزعومة. الخلاف بين البراغماتيين والعقلانيين: أساس المعرفة في كل فكر بشري، هو العقل والحواس.. والفلسفة في هذا المجال تنقسم الى قسمين: فلسفة عقلية وفلسفة تجريبية.. يقول يعقوب فام من كتابه "البراغماتية": (الطرف الاول في الميتافيزيقيا هو كيف نعرف وهو ما ندعوه نظرية المعرفة اما الطرف الثاني فهو الوجود ذاته او الحقائق الكونية..) 3-70.. ويقول: (اختلف الفلاسفة من قديم الزمان الى هذا العصر الحديث في كيفية وصول المعرفة الينا، وتعددت آراؤهم وتباينت مدارسهم الى ان اصبحوا فرقاً متخاصمة، كل منها تصحح رأيها وتخطئ الرأي الآخر. 1- فالمدرسة الاولى هي مدرسة الصوفية في المعرفة وهي التي تزعم ان المعرفة تأتي الينا عن طريق خفي. 2- والمدرسة الاختبارية التي تزعم ان المعرفة تأتي الينا عن طريق الاختبار أو الحس والمشاهدة، أي بالنظر والذوق والشم والسمع واللمس. 3- وجماعة العقليين يزعمون ان المعرفة تأتي الينا عن طريق العقل ففي العقل مبادئ عامة وقوانين شاملة خلقت فيه ونحن نطبق هذه القوانين والمبادئ على ما يحيط بنا. 4- والبراغماتية تثور على العقلية من جهة وعلى الاختبارية من جهة اخرى.. تنكر ان بالعقل مبادئ عامة وقوانين ازلية اولاً ثم تنكر على الاختبارية زعمها ان الانسان عندما يتصل بالاشياء يكون ذلك للمعرفة، فالاختبار عندها ليس للمعرفة وانما للحياة.. وما تدعوه الفلسفة الاختبارية معرفة، تدعوه البراغماتية تكيفاً وتشكلاً وتغيراً في العلاقات بين الكائن الحي وبين ما يحيط به من اشياء وحالات).. 3-82.. لقد اوردت هذا النص لأبين ان الفلسفة تتعامل مع مصطلحات ذات دلالات محددة ينبغي التعامل معها بدقة تراعي دقة المفاهيم، فهنالك اختلاف كبير جداً بين العقلية او العقلانية والتجريبية.. والفلسفة البراغماتية فلسفة تجريبية، ولكنها تختلف مع التجريبيين في ان التجربة عندها للحياة وليست للمعرفة كما ورد في النص اعلاه.. والأمر المحسوم تماماً ان البراغماتية ليست عقلية، او عقلانية، وهذا ما سنبينه بوضوح من اقوال اصحابها.. واهم خلاف بينها وبين الفلسفة العقلية، ان الفلسفة العقلية تقوم على المبادئ الكلية والبراغماتية ترفض هذه المبادئ فالأصل في المعرفة في رأي النظرية العقلية انما هو القضايا العامة، والنظم الشاملة التي نستطيع ان نقيس بها المحسوسات فنحن نعرف بالعقل ان هنالك شيئاً او معنى اسمه استدارة أو عظمة أو انسانية او جمال أو حمرة او نعومة او رجل او كلب.. نعرف هذه الاشياء كقضايا عامة فالعقل يعرف "الرجل" وكل رجل فرد في زمان معين ومكان معين يندرج تحت هذا الاصطلاح الشامل وعلى ذلك قس 3-112.. فالنظرية العقلية في المعرفة تزعم ان الاصل في المعرفة الانسانية، أو المنبع الذي تفيض منه المعلومات والمعارف عندنا انما هو هذه القضايا الكلية والعامة.. اما التجريبية والبراغماتية بالذات فتركز على الوقائع، وعندها صورة العقليين معكوسة، فالمعاني الكلية كالاستدارة والنعومة والمثلث والسببية... الخ ليس لها وجود الا في عقل العقليين، فهم قد شاهدوا هذه الاشياء في اشياء المادة التي تملأ الكون، وهذه المادة هي الموجود الحقيقي.. (في الواقع اننا رأينا رجالاً – أشخاص – واشياء ناعمة ومستديرة اولاً، وقبل كل شئ انتزعنا هذه الصفات من الاشياء المحسوسة وعممناها، وجعلناها كلاً، فالاصل في كل شئ هو هذا الواقع، هذه الاجسام وصفاتها، هذه القطع من الاختبارات اليومية وعليها انبنى هذا الصرح المهيب الذي ندعوه الكليات، فانا وانت نعرف مئات الاشياء المستديرة، عرفناها اولاً وقبل كل شئ، ثم جردنا منها هذه الخاصية التي هي الاستدارة، وزعمنا انها شئ عام وكلي وشامل." 3-116.. اما المعارف أو المبادئ الاولية التي يبني عليها العقليون، والتي عندهم العقل يرثها عندما يولد، فالتجريبيون ينكرونها كل الانكار، ويرون انها هي الاخرى تصل الينا عن طريق الاختبار والمشاهدة، ومن الاتصال بعالم الاشياء والحس، ومن الحوادث التي تعج بها الحياة العادية 3-117.. قصدنا مما تقدم ان نبين ان هنالك اختلافات جوهرية في الفلسفة بين النظرة العقلية والنظرة التجريبية.. والتعامل مع المفاهيم يجب ان يكون دقيقاً، وواضحاً، وهذا امر تفتقر اليه كل كتابات د. النور التي اطلعت عليها، فهو يتعامل مع المفاهيم، بصورة عشوائية، قد تصل إلى حد، عكس الامور عكساً تاما، وهذا واضح بصورة جلية في نسبته الفلسفة البراغماتية للعقلانية وهو امر عكس الواقع ويرفضه البراغماتيون رفضاً تاماً، بل معظم صراعهم الفكري كان مع العقليين، ونحن سنبين ذلك بوضوح من اقوال ائمتهم. يقول د. النور: "البراغماتية مرادفة للعقلانية ولا تنحصر كلياً في مجرد كونها تياراً خارجياً مناهضاً لسلطة الدين".. ويقول: "تعني البراغماتية في مناحيها الايجابية، ضمن ما تعني العقلانية" ويقول: "فانها براغماتية مطابقة في تقديري للعقلانية" ويقول: "فالبراغماتية كفلسفة تمثل تجسيداً وتطبيقاً عملياً للاتجاهات العقلانية في الفكر الغربي" .. فدكتور النور يزعم ان البراغماتية مرادفة للعقلانية وهي كفلسفة تمثل تجسيداً وتطبيقاً عملياً للاتجاهات العقلانية!! وهو كالعادة لا يورد اي دليل .. المحاولة الوحيدة لايراد دليل على قوله هذا، جاءت اكثر ادهاشاً، في التعريف الذي نقلناه أعلاه، فهو ضد مزاعم د. النور تماماً. نحن هنا نورد بعض أقوال زعماء البراغماتية عن العقلانية.. يقول وليم جيمس: (تماماً مثل ما تولي البراغماتية وجهها شطر المستقبل، نجد أن المذهب العقلي يولي وجهه ثانياً، هنا إلى الخلف، شطر الخلود الماضي، وامعاناً في الاخلاص لعادته المتأصلة، فإن المذهب العقلي ينكفيء إلى المباديء ويعتقد أنه بمجرد أن يسمي "مجرداً" ما، فإن لدينا حلاً فاصلاً قاطعاً..).. 1 ص267.. ويقول جون دوي: (المعرفة ليست أولية ولا سابقة على التجربة، بل إنها نابعة من التجربة نفسها، من الخبرة، وهي ثمرة لها..).. 3 ص93.. ويقول وليم جيمس: (إن الأفكار التي هي نفسها ليست سوى أجزاء من خبرتنا، تصبح حقيقياً، أو صحيحة، تماماً بقدر ما تساعدنا على أن ندخل في علاقة مشبعة، مرضية، مع أجزاء أخرى من خبرتنا..).. 1ص79.. فصحة الأفكار عندهم، ليست في منطقها وصحتها العقلية، وإنما في نفعيتها واشباعها.. يقول وليم جيمس عن البراغماتية انها: (تتفق مع مذهب النفعية في توكيدها النواحي العملية.. وتتفق مع الفلسفة الوضعية في ازدراءها للحلول الكلامية والأسئلة عديمة الجدوى، والتجريدات الميتافيزيقية.. وهذا كما ترون اتجاهات مضادة للمذهب العقلي.. وضد المذهب العقلي كدعوة وطريقة، نجد البراغماتية، مسلحة تسليحاً كاملاً..).. 1ص 57.. وبعد أن يذكر وليم جيمس ثلاث قضايا عن الوقائع والحقائق يقرر: (هنا بالذات يبدأ المذهب البراغماتي والمذهب العقلي في الافتراق والطلاق..).. 1ص250.. وقد وصل الخلاف بين البراغماتيين، والعقلانيين، حد المهاترات الكلامية، فها هو وليم جيمس، مثلاً، يقول: (على أنني أرغب في غضون ذلك، في أن أختم هذه المحاضرة، بأن سمو المذهب العقلي، لا ينجيه من الخبل العقلي..).. 1ص217.. إن موقف د. النور من البراغماتية، يدل على جهل فاضح، بالفلسفات المعاصرة.. وموضوع البراغماتية موضوع اختاره هو بنفسه، فكان من الطبيعي أن يكون له بعض الالمام به، أما أن ينسب للبراغماتية ما هو نقيضها تماماً فأمر محير، وجرأة حقيقية واستهتار شديد بالقراء.. أما نسبة الإسلام والفكرة الجمهورية للبراغماتية فهو أمر أكثر استهتاراً من حديثه عن البراغماتية.. فد. النور في كتاباته لا يعبر عن قضايا موضوعية، وإنما عن رغبات ذاتية، تدور كلها حول نفسه، وسنرى حديثه عن الإسلام والبراغماتية. خالد الحاج عبدالمحمود رفاعة الاثنين 13/2/2017م
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة