لست أدري ماذا كان رد الشارع السوداني على الخبر الكارثة الذي أوردته صحيفة (الصيحة) في أحد اعدادها الأخيرة عن اكتشاف مزرعة دواجن بالخرطوم تبيع داء السرطان للناس منذ زمان طويل. ولا أدري ولا أحد يدري كم أهلك هذا الداء الذي يشتريه الناس بحرِّ أموالهم من أنفس العباد في البلاد. وقد رأينا في طوايا الخبر المحقَّق بقلم الصحفية النابهة الأستاذة عواطف إدريس لمحة من كيفية فتك ذلك الداء بدجاج المزرعة، إذ تبين أنه يهلك نحو ثلث عدد الفراخ، ثم يباع الثلثان المتبقيان للمواطنين الكرام فيتمكن منهم الداء العضال! إن حادثا فظيعا مثل هذا لو وقع في دولة تحترم مواطنيها لأعلنت حالة الطوارئ العامة حتى تحسم هذه المسألة أولا ثم تواصل بعد ذلك أعمالها البيروقراطية الروتينية. ولكن يبدو أن ثمن إنسان السودان رخيص جدا في دولة السودان، فأمر مهول كهذا يحدث ولا تهتز له الدولة ولا تتحرك عاجلا لحسمه الحسم الوافي. والشئ الأعجب من هذا أن صاحب المزرعة إياها شخص من أشخاص الدولة الكبار، ومؤتمن على شأن كُبَّار، هو شأن الانتخابات! وقد كان هذا وحده يكفي حافزا للدولة كي تفتح تحقيقا عاجلا في هذا الأمر حتى تنقِّي سمعتها؛ إما بتبرئة هذا الشخص المشبوه أو ببتره إثر إدانته. وقد كان هذا الشخص عينه مثار لغط إبان الانتخابات قبل الماضية، لأنه كان يدير مركزا لتدريب موظفي الانتخابات التي كان هو من ضمن طاقمها القيادي، وهذا ما يسمى بتضارب المصالح، وهو ضرب من ضروب الفساد الإداري والمالي ليس إلا. وأما دجاج المزرعة المسموم بمادة الرصاص المسرطنة، والتي تعتبر أيضا سببا رئيسيا لإصابة الأطفال بالتخلف الذهني، فيصعب تصور أن الدكتور ما كان يعلم شيئا عنه، وهو عالم مرموق، وبروفسور جامعي، ومؤلف كتب، ومعلق إعلامي سياسي، وخبير في أشياء أخرى! وأما من باشر إنتاج الفراخ من المزرعة وبيعها للجمهور، وهو المدعو محمد عبد الرحمن عبد الله، فيبدو أنه كان حريصا فقط على أرباحه، وليس حريصا على صحة من يبيعهم الفراخ، لأنه ذهب كما جاء في التحقيق الخبري الذي نشرته (الصيحة) إلى صاحب المزرعة وأخبره برغبته في إنهاء عمله بالمزرعة وبفسخ عقد الإيجار. ولو كان هذا الشخص مهتما بصحة الجمهور لذهب فورا للتبيلغ لدى السلطات المختصة عن حقيقة هذه الكارثة المهولة، وأعلن عن تحمله لمسؤوليته تجاه من باعهم الفراخ طوال الزمن الذي كان يبيع فيه الفراخ، ولا ريب أنه مسؤول في النهاية مسؤولية مباشرة أمام أي قضاء عادل يمكن أن ينصب للتحقيق في هذا الشأن الخطير. ولم يبدأ هذا الشخص في اتخاذ اجراءات قانونية ضد صاحب مزرعة السرطان إلا بعد ان رفض صاحب المزرعة التعاون معه، وحسب إفادة المستأجر فإنه ذهب إلى الأصم وأخبره بتلوث مياه بئري المزرعة بالرصاص بنسبة كبيرة هي أضعاف المسموح به قانونيا، فلم ينكر الأصم ذلك، ثم عاد وأنكرذلك، وزعم أن مياهه سليمة، وأقر بأنه كان يدير المزرعة بنفسه من قبل وأنه كان يبيع دجاجها للجمهور، ثم عاد وهدد المستأجر بتقديم شكوى ضده في القضاء. وقال المستأجر إن الأصم كان على وشك أن يطرده من منزله الذي ذهب ليفاوضه فيه، والسؤال الذي يمكن أن يوجه إلى المستأجر هو: لماذا ذهب إلى المؤجر في منزله، بينما كان عليه أن يبادر إلى التبليغ فورا ضده في الشرطة والقضاء؟! وأما الشخص الوحيد الذي يبدو أنه تصرف تصرفا مهنيا نزيها فهو السيد محمد جعفر نبق، مدير المكلف للإدارة العامة للإنتاج الحيواني بولاية الخرطوم، حيث أمر بإيقاف نشاط مزرعة الأمير بمشروع سوبا غرب الزراعي للمالك مختار الأصم، وجاء في الخطاب الذي بعث به إلى نيابة حماية المستهلك:" بناء على نتائج العينات التي تم أخذها من المزرعة المذكورة والتي أظهرت وجود نسبة رصاص في المياه والطيور، عليه قررنا إيقاف كل نشاطات الثروة الحيوانية بالمزرعة المذكورة خاصة وأنها كانت تمارس النشاط دون الرجوع إلينا والحصول على تصديق ممارسة المهنة". فهذا قرار سليم صائب لأنه أوقف استمرار تفشي الأضرار، ولكن بقي على القضاء أن يجبر الضرر الذي أوقعته المزرعة بأعداد من أنفس العباد لا يعلم حصرها إلا رب العباد. فهل يا ترى لدينا قضاء نزيه عادل جاد ناجز يمكن أن يعتمد عليه للبت في شأن المتنفذين المتمكنين الكبار؟! نقول هذا بعد أن كدنا نيأس من أن تتحرك إدارات الدولة الكسيحة العاجزة، من برلمان، وجهاز تنفيذي، ومؤتمر وطني، لمحاسبة أصحاب خطايا الفساد الكبار من زمرة المتنفذين الكبار. وأما من لم نيأس من أمرهم من زمرة العلماء المرشدين الدعاة وعلى رأسهم فضيلة الشيخ الإمام كمال رزق فنرجو أن يدرجوا هذا المشكل الخطير في خطبهم للجمعة التالية حتى يهزوا به المنابر، ويهزوا به إدارات الدولة، وخاصة ما يسمى بوزارة العدل، وهي في الحقيقة وزارة عدم العدل، عسى أن يحركوا فيهم ساكنا فيتحركوا لضرب المخطئين الذين ينمون كروشهم ليس من الكسب غير المشروع وحسب، وإنما من الكسب الذي يشرع فعلا في إيقاع القتل العمد وإلحاق الأذى الجسيم بأجسام العباد!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة