استغربت لقرار الحزب الشيوعي أن لا يحتفل بعيد الاستقلال هذا العام. فمقدمات حجته في الواضح لا تؤدي إلى هذه النتيجة، أي الإضراب عن عيد الاستقلال. فقال الحزب إن استبداد الإنقاذ وظلمها هو الذي دفعه ليلغي احتفاله. ولو صحت مثل هذه النتيجة من تلك المقدمة لصح أن يرفع الحزب الشيوعي يده عن النضال بالمرة. فالاحتفال بالاستقلال "نضال" عميق دفاعاً عن رأسمال رمزي في حب الوطن، والشغف بالحرية، واسترداد للإرادة الوطنية. فمن كره النضال عند بوابة الرموز جاز له كره النضال جميعاً. ومن المؤسف أن يتغابى الحزب عن هذه المغازي الرمزية التي كان له فيها، شهد الله، نصيب الأسد. وقد قلت مرة إن السودانيين ميزوا الحزب لوطنيته الجذرية بأكثر من شيوعيته. فإذا كانت الإنقاذ مؤاخذة عند معارضيها الرسميين لهدمها منارات السكة حديد والجزيرة والخدمة المدنية والجيش والجميلة المستحيلة فإن هدم قرار الشيوعيين لأفحش. فهو تفرط في رأسمال رمزي في طلب الحرية لا يستغني عنه كل نضال لاحق ضد المستبدين. ومن هدمه مكن للظلم الظلمات. لو عنى الحزب بقراره الإضراب عن ذكرى الاستقلال بتعطيل الحفل الكورالي الخطابي المعاد لما اكترثنا له. ولكن الوقوف عند مغزى الاستقلال متى هل عيده فرض فكري نضالي. وليس الحفل المعروف هو أفضل أشكال أداء هذا الفرض. فالنضال الفرض الآن هو أن نسترد مغزى الاستقلال ممن أنكروه، واستبخسوه، وسخروا منه. فقد بلغ اليأس من الاستقلال بالناس، والصفوة بالذات، الزبى. وصار التنصل منه سعر السوق. وهاك يا تشهي في زمان الإنجليز. فتجد من يروج لأنهم أحسنوا إلينا كما لم يفعل أحد. وأنهم خرجوا من غير ميعاد. أو أنهم أنهوا استعمارهم بأنفسهم السخية. وأنه بدري علينا، ولقينا شنو، وياحليلهم أباً عيوناً خضر، السلف الصالح، لا يفوتوا ولا يموتوا. وعيييك. ليس في مثل هؤلاء المتنصلين شعرة رجولة أو أنوثة للحرية. ومن يريد تجييشهم لحرب الإنقاذ خاب فأله. وسينفخ في قربة مقدودة. فمن أين لمن كسد عنده معنى الحرية، الذي اكتسبه بالحركة الوطنية، أن يشغف بالحرية ويستميت في طلبها من نظام كالإنقاذ، أو يضحي من أجلها؟ مثل هذا العاطل عن الذوق للحرية أخير تقنع منو. يربط المتنصلون عن الاستقلال بين تنصلهم ودولة الإنقاذ التي كرهتهم فيه. ويبدو من هذا الربط وكأن الظاهرة سودانية بحتة. ولكن طمام البطن من الاستقلال والتمني الفارغ لعودة المستعمر ليست "نباهة" سودانية. إنها عاهة في سائر من وطأهم الاستعمار بما في ذلك بلد المليون شهيد، الجزائر: يا جزائر ها هنا ينطلق القوس الموشى من كل دار وكل ممشى نتلاقى كالرياح الآسيوية كاناشيد الجيوش المغربية وسأعرض هنا ما كتبه في الإنجليزية عبد المجيد هنوم، الأستاذ بجامعة كنساس بأمريكا، في كتاب عنوانه "الحداثة الفظة: فرنسا في الجزائر" (2010) عن حالة النوستالجيا التي تعتري الجزائريين، وخاصتهم بالذات، لأيام الاستعمار الفرنسي. واستعان الكاتب في الجزء الذي استرعى إنتباهي بكتابات المفكر والروائي المغربي عبد الله العروي صاحب كتاب "العرب والفكر التاريخي". وسيرى القاريء أن ظلم دولة ما بعد الاستعمار في السودان وغير السودان قد يولد النوستالجيا للاستعمار ولكن لهذه النوستالجيا بواعث في التركيبة التاريخية والاجتماعية للدولة التي ابتلاها الله بالاستعمار تنشأ بظلم الأقربين وبدونه.
يشير الكتاب إلى مفارقة في دراسات الحداثة والاستعمار. فتجد مثلاً عبد اللة العروي يدين الاستعمار ولكنه يُثمن قيمه ويرغب في الاحتفاظ بالحداثة التي جاءت بأثره. فقال العروي إن الاستعمار خطيئة كبرى لأنه عطل التطور التاريخي وأجبر من استعمرهم على العودة القهقرى. وعليه فكل استعمار هو حكم بالموت على من خضعوا له. ولكنه من الجانب الآخر تجده يتمسك بالحداثة الاستعمارية لأنها ضمانته التي لا غيرها لكي ينجو من التخلف الثقافي والعودة إلى قرون تاريخه الوسطى (تُقرأ السلفية الكيزانية هنا). فالعروي في ما يكتب يطابق بين الحداثة وأوربا ولكنه، وبما يدعو للعجب، لا يربط بين الحداثة والاستعمار. بل تجده يفصل بينهما. وفكرته في ذلك أن الاستعمار ربما لم يكن بالثمن الفادح الذي دفعناه للحصول على الحداثة. وتجد الحنين-النوستالجيا للاستعمار غالبة في الخطابات العامة. فيرى كثير من الجزائريين للفرنسيين ميزة بل هناك من ينسبهم إلى الأشراف من عترة النبي صلي الله عليه وسلم جاداً أو مستملحاً. فالمستعمرون من أمثالنا يجدون أنفسهم في حاضر حديث لم يكن لهم فضل في إيجاده ولا يملكون صرفاً ولا عدلاً فيه. فهم لم يجدوا نفسه في بيئة حديثة وحسب بل تشربوا مصطلحها الذي جاءت في صناديقه بحيث لم يعد بوسعهم سوى قبولها بحذافيرها حامدين شاكرين. فجاءتهم الحداثة بأدوات تزيينها والترويج لها كنهاية التاريخ. فألجمتهم عن نقدها باستقلال ونباهة. وقيل إن أدوات السيد لا تهدم بيت السيد. فالمستعمرون مثلنا خلو من أدوات مستقلة لتفكيك الحداثة التي وقعت لهم من حيث لم يحتسبوا. وهذه الحالة المأزق هي التي تنتج "سردية اليأس" التي مفادها: "سلام علينا في العالمين فلا سبيل للتاريخ نفسه أن ينقذنا". وهذه السردية اليائسة من الاستقلال هي التي تستدعي أن يتوقف عند دراستها الشيوعيون وغير الشيوعيين عندنا وتحرير الأفئدة منها. فمن لم يقف على كتف الحرية المكسوبة بالاستقلال وظن أنه يناضل للحرية من الإنقاذ طال ليله. . طال. وطال ظلمه . . ظلمات.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة