|
المثقف السوداني.. الإنهزامية .. التنميط والدوغماتية
|
عماد البليك
إلى حد ما ساهمت الصورة النمطية المتوارثة للمثقف السوداني في مآلات السودان الحاضر، فالذي ينظر إلى "رواد الفكر السوداني" أمثال التيجاني يوسف بشير وعرفات محمد عبد الله ومعاوية نور، سيجد أنهم كانوا انهزاميين ويعيشون على الاسقاطات النفسية وبالتالي انتهت حياتهم بتسويد الأوراق التي لم تخدم على مدى قرن في أي بناء مركزي في الثقافة السودانية ينعكس بإيجابية على السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بمعايير حقيقية ترى التجليات الملموسة لا الأشواق.
المثقف السوداني، ما زال وفي الألفية الثالثة، لدى "أجيال جديدة" يجتر تلك الصور النمطية ويتسلح بها على أنها أنموذج.. وهو ما يتطلب إعادة التفكير فيه، بعد أن اختلفت صورة المثقف كثيرا في عالم اليوم..
لا نحتاج إلى مثقف مقلد، أو متعامل مع الثقافة وفق فهم التيجاني ومعاوية نور، إذ أن الواقع "المؤلم" الذي نعيشه يتطلب إنتاج مثقف له أثر حقيقي على الحياة السودانية، برفدها بطريقة براغماتية بحتة. بعيدا عن صور النضال التقليدي والاسقاط الكلاسيكي للذات على العالم.
قد تغيرت ثيمات العالم كثيرا ما بين تلك اللحظة التاريخية التي أنتجت معاوية نور والتيجاني وتلك التي تنتج الكثيرين من أبناء الجيل الجديد، لكن مراجعة بسيطة تكشف أن الصورة النمطية ما تزال قائمة.. حيث أن المثقف هو: البطل المنتظر، هو المثقف الكمي الذي يعرف كل شيء، هو المتمكن من قاموس اللغة ولا يخطئ في الإملاء، هو الذي يرى الآخرين "المتلقين" خارج إطار دائرة ما ينتج.. ويمارس فعل المفارقة السلبية.. هو العارف الكلي.
في نماذج عديدة تلاحظ كثرة الجهد الذي يقوم به المثقف من نشر إنتاجه الإبداعي والفكري والموسوعي، وهو عمل مقدر، لكنه تذروه رياح عصر جديد يؤمن بالمثقف المتخصص الذي يضع فكره ويركزه في بؤرة معينة ويحفر عليها حتى يساهم عبرها في تشكيل واقع جديد.
فما نحتاج إليه تأسيس مثقف جاد، مخلص لما يقوم به، له مشروع موسوعي على مستوى محدد، ولا يشترط التخصص بمعناه المباشر.. أن يكون هذا الكاتب أو هذا المفكر متخصص في المجال عينه، لكن يشترط الإخلاص للمشروع وتكريسه كهدف حياة وهدف إنساني. ينعكس عبر المسطور والممارس.. ولا يوجد في تقديري مثال جاهز للنظر في جملة قرن كامل في تاريخنا الحديث سوى نموذج محمود محمد طه، وهنا ليس موضوعها.
لقد أعادت الشروط الجديدة للحياة تعريف السياسة والمجتمع والثقافة وغيرها من المصطلحات وهذا يعني أننا يجب أن نعيش هذه المرحلة لا أن نبقى على أسر الماضي، دوائر مجترة من التباكي مخلوطة بقراءات متناثرة من التراث الإسلامي والعالمي أو الحداثة الغربية. وإلا أصبحنا خارج شروط التاريخ الحديث والذي نحن إلى اللحظة خارجه فعليا.
لقد نجح نجيب محفوظ في مصر مثلا، كونه مثقفا في أن يرسم تاريخ مصر عبر قرن بأعماله الروائية وكان مخلصا لمشروعه الروائي، وكان بإمكانه أن يطرح نفسه فيلسوفا وقد درس الفلسفة، وأن يكون مفكرا دينيا لكنه اختار للفلسفة والفكر أن يندغما في أعماله الإبداعية كما في أولاد حارات التي هي ليست إلا قراءة في المقدس والدين.
وقد نختلف مع أناس أمثال سيد قطب، لكنني شخصيا احترم جهده في كتاب مثل "في ظلال القران" فهو جهد موسوعي سيبقى اثره.. إلى قرون بعيدة وسيكون علامة من علامات التفكير في النص القراني بعيدا عن الإجماع أو الاختلاف حول الأشياء.
لكن في السودان لا يوجد إلى الراهن، مثقف نوعي له مشروع فكري متكامل قادر على المضي به بما يساهم في بناء الحياة الأفضل..
تحليل المثقف:
ثمة خط شائع في مقولات "ما بعد الحداثة" أن "الشرائح الاجتماعية التي تمتلك قوة السلطة، أو قوة المال، أو قوة الأفكار تسمي النخبة. وهي بهذه القوى تؤثر في حياة الناس علي كل المستويات. والمثقفون هم الشريحة التي تستمد مكانتها من قوة الأفكار".
إذن نحن أمام مثلث له ثلاثة أضلاع: السلطة، المال، الأفكار. وهذا المثلث في النماذج الأكثر حداثة في عالم اليوم للمثقف تتكامل بشكل جذري، لأن الأفكار تكون قادرة على صناعة المال والسلطة، في حين أن صورة المثقف النمطي السوداني هو ذلك الفقير، المدقع، الذي لا يملك قوت يومه أحيانا. كما أن صورة السلطة كثيرا ما يتعامل معها على إنها إطار ضدي للثقافة أو المثقف وهي نظرة كلاسيكية آن الأوان لإعادة التفكير فيها. وقد لعبت النماذج التأسيسية في الثقافة السودانية دورا في هذه الصورة التي لا تزال قائمة.
في نموذج مفارق قبل "فجر التحديث السوداني"، وهو - تقريبا - النموذج الأكثر شفافية للمثقف بشروط زمنه، وهو الإمام محمد أحمد المهدي، نجد أن الرجل استطاع أن ينطلق بقوة الفكر (ضلع المثقف في المثلث) ليعيد بناء الحياة السودانية ويكسب الضلعين الآخرين، السلطة بنجاحه في إقامة دولة (بعيدا عن الإخفاقات التي صاحبتها فيما بعد – وهو موضوع خارج نطاق التحليل هنا)، والمال بنجاحه في تمديد سطوة مالية بثروة تراكمية ما تزال حية في إرث آل المهدي. وقد استطاع المهدي أن يوظف قوة الفكر الصوفي والثقافة الدينية التقليدية في زمنه ليخرّجها من القوقعة التقليدية لها إلى مفهوم النضال والبحث عن الإنسان السوداني الجديد، وبعيدا عما اصبغه المهدي على نفسه من صور "فوقطبيعية" فإن هذه الصور يجب ألا تقرأ بمعزل عن إطارها الزمني، كما نقرأ ابن عربي اليوم، ونجد التأويل لشطحاته، أو كما نقرأ الحلاج أو غيرهم. لكن ذلك لا يعني أن ننظر إلى أن هذا الخط الثلاثي لابد أن يسير بناء على هذه المسلسل، بأن يقود الفكر للسلطة والمال. وليس هذا المطلوب.
لست بخصوص تحليل البنية الذهنية للمهدي ولكن أتعامل فقط مع الإطار الكروكي العام لبناء شخصية المهدي وكيف نجحت في جعل طاقة الفكر تندغم في السلطة والمال. وهذا لا يعني أن هدف المثقف أن يكون كائنا متسلطا بالمادة أو هدف التفكير وغايته وراء الفعل الثقافي، ولكن ما أعنيه أن هذه الدوائر تشتغل بطريقة معقدة بحيث يصعب الفرز، من أن يبدأ الضلع المعين لينتهي الضلع الثاني أو الثالث.
وبمراجعة بسيطة للتاريخ الإنساني سنجد أن فكرة الإسلام أو المسيحية بدأت في حدود ضيقة كرغبة في إعادة تشكيل التاريخ بمركزية فكرية، ومن ثم مع توالي الزمن تحولت هذه المركزية الفكرية إلى طاقات أخرى سلطوية وثروات تراكمية.
وفي العصر الراهن يجب التمييز في مفهوم الانتلجنسيا، الذي يماثل النخبة، بين المثقف التكنوقراطي والمثقف الروحاني – مجازا – أي رجل الدين، وهذان النموذجان حاضران في السودان، ويبدوان أكثر تجليا في المجتمع الإيراني الحديث. وهنا نواجه بصورة تداخل غريب بين الدين والعلم، المعرفة والبراغماتية النفعية والروحانية. وهو تداخل مشروع إذا تم وفق حضور معرفي فاعل على مستوى المعاش والعام، ولكن إذا قام التداخل فقط ليصل إلى مجرد هدف محدد هو التسلط، هنا ينهار مشروع المثقف سواء كان تكنوقراطيا أو روحانيا.
هذا الخلط موجود لدى النمط الكلاسيكي السوداني، حيث أن الروحاني يهيمن في أحيان كثيرة لدرجة أنه يقوم بإلغاء التكنوقراطي أو العكس.. وبالتالي تصبح الانتلجنسيا إما باحثة عن السلطة باسم الدين والروح، كما في النموذج الكنسي في العصور الوسطى أو نموذج الإسلام الأموي أو ترابي السودان، أو باحثة عن السلطة باسم "المعرفة السلبية"، وهو مشهد واضح في المثقف التكنوقراطي السوداني.
أزمة "المثقف النامي":
يحلل داريوش شايغان - فيلسوف ومفكّر إيراني معاصر – أزمة المثقف المعاصر في البلدان العربية والإسلامية ودول العالم الثالث بشكل عام، بتركيزه على إيران، وإن كانت كثيرا من إحكامه تصلح للتطبيق على الواقع السوداني بحيث يمكن الاستفادة منها. وسأطرح هنا بعض من نمط تفكيره في إعادة التفكير في صورة المثقف ودوره الفاعل.
في النظر إلى المثقف سواء عند شايغان أو أركون وآخرين، لا يمكن الفرز بين مساحتي الأيدلوجية والسياسية، فالمثقف كما هو نسيج (معرفي علمي وروحاني وتكنوقراطي)، لكن المشكل الذي يواجه به مثقفنا باستعارة شايغان في هذا الجانب من تداخل المساحات أن "المثقفين يبدون عندنا كأنهم صليبيون ذاهبون إلى محاربة طواحين الهواء، أكثر مما يظهرون كمفكرين حكماء يتأملون بهدوء وراء طاولة عملهم".
ويمضي للقول: "أن يكون المرء مثقفا في عالمنا معناه أولا معارضة السلطة. وهذا أمر ممكن فهمه لأن الأنظمة القائمة هي اما قمعية او شمولية صراحة. ولكن مما يؤسف له أن هذه المعارضة تظل بدائية وحشوية. فهي لا تترافق مع تحليل نقدي ولا مع نظرة الي المستقبل، ولا مع موقف ابتعادي عن السلطة".
وهنا يمكن الانتباه لمفاصل مستقبلية في إمكانية تشكيل مثقف نوعي فاعل، تتعلق هذه المفاصل بأدوات لابد منها منها: النظرة الناقدة للأشياء – لكن هذه مشروطة بالنظر الدائم إلى المستقبل، بمعنى التفكير الاستراتيجي وليس مجرد مشي المكب . والملاحظ أنها الصورة الغالبة على المثقف النمطي السوداني.
بالرجوع إلى شروط التحليل النقدي أو النظرة الناقدة للأشياء سنجد أن أول هذه الشروط، كما يرى شايغان أن الخروج عن "السلطة" أو "السائد" أو "النمط" الخ... من مفردات، كل ذلك لا يعني "التمرد على الأب والأم والقديم"، بقدر ما يعني "أن تؤخذ هذه الثيمات التأسيسة في السياق الثقافي للسلطة"، وفق شروط حديثة برؤية نقدية.
يتضح ذلك كما في نموذج الإمام المهدي، إذ أن إعادة التفكير في مشروعه بطريقة جديدة بعيدا عن "القوالب النمطية" من شأن ذلك أن يجعل فكرة "المهدية" ذات دور جديد في الحياة السودانية من حيث المستوى التنظيري لا المستوى السياسي الفاعل في النتائج الآنية.. بمعنى أن القراءة النقدية والفاحصة سوف تخدم في فهم الثيمات العامة والأطر ومن ثم المركبات الخفية لفكر المهدي وصيرورته ثورته وثروته، بما يفتح أفقا لفهم الذات الكلية للمجتمع وكيفية تشكيل المستقبليات. وهو هنا إنما نموذج فحسب.
فليس المطلوب من المثقف رفضا للماضي يقوم على مجرد النفي أو التمرد أو الظهور بشكل دون كيشوت ومصارع الطواحين فهذه صور غير مجدية، لأنه لا وجود للأبطال الحقيقيين إلا في حيز المعرفة الفاعلة في حيز السياق الثقافي والاجتماعي بما يمكن من استيعاب الذات والقراءة الذهنية المثمرة، ومن ثم التطبيقات على مستوى الواقع المعاش.
"السلطة والمعارضة":
في النموذج السوداني الآني، وفي ظل السلطة الحاكمة حاليا، يبدو للبعض كما لو أن المثقف مستثنى وبعيد جدا. لكن الرؤية المدققة تكشف أن صورة المثقف يعاد إنتاجها وفق نموذج أكثر سلبية للمثقف من النماذج التأسيسية الانهزامية. فالمثقف إما حاضر مباشرة ويكرس نفسه في خدمة السلطة لبسط أغراضها ونفوذها علنا، كما أنه توجد نماذج داعمة للسلطة أيضا، حتى لو بدت في بعض الأحيان كما لو أنها تعارضها. لأن خط السلطة الفكري هو الخط "العقائدي" نفسه للمثقف. لكن هناك مثقفين في نظر السلطة هم معارضون، فيما يكشف التحليل أنهم يدفعون فعل التسلط عبر فكرهم ونتاجهم المشوه أصلا بسبب اللاوعي والعماء السائد في مناظيم التفكير الجمعي الذي يخضع نتاجهم للمساءلة والغربلة.
لهذا فإن مجرد الرفض والغوغائية في الأحكام لن يشفع في إنتاج واقع جديد، ما لم نعيد التفكير في سياق المثقف السوداني عموميا ، إذ كيف سيكون بإمكانه أن يبدو أكثر براغماتية وعملية ونقدية لذاته، ليس لكي يحل مكان السلطة ويكون أكثر سلطوية أو لكي يوفر مشروعية لسلطة جديدة "استبدالية"، وإنما ليعيد بناء الواقع السوداني والحياة الثقافية والمعرفية كليا ويؤسس بُنى المجتمع المدني الحديث والخلآق. وهذا لا يتم بشروط مستعجلة كالتي يطرحها كثير من المثقفين الآن. فالسؤال الأعمق والأكثر تعقيدا لا يتعلق بالسلطة الآنية، وإنما بسياق عام يتعلق بمجمل الحياة السودانية. لأن مجرد استبدال "سلطة جاهلة" بـ "سلطة متجاهلة" لن يحقق أي تقدم في بناء مجتمع حديث، بل سيزيد الأمور تعقيدا.. مع الانتباه إلى أن "المثقف المعارض" بالصورة الراهنة، هو مثقف سلبي تجاه كليات إعادة تشكيل السودان، فهو رهين معاش ووقتي وهو يفكر بنفس درجة تفكير "مثقف السلطة" في كيفية إكساب معارضته مشروعية لتكون فيما بعد سلطة مقدسة.
إن التأمل بعمق يكشف لنا أن مفاهيم "المثقف والسلطة والثروة" تندغم في نسيج السودان على أنها ذات هدف واحد، هو "التعالي على التاريخ" ومفارقة الواقعي والممكن في حيز الراهن والمستقبل.. والمفارقة أن أي نوع من التعالي يؤدي في النهاية إلى ثقة بالذات غير مؤسسة على نحو عارف وربما التوهيم، ما يعني ترك الآني والتركيز على أفق بعيد "مقدس" وغير واضح الملامح، على أنه خلاص إنساني، وهذا غير صحيح إلى حد ما، لأن البعيد رغم أنه يجب أن يوضع في القراءة، إلا أنه لا يمكن الذهاب إليه دون العبور بخطط واضحة واشتغال عقلاني كبير.
وحيث لا دستور مدني حقيقي ومشروعية عليا يكون عليها الإجماع، تلزم الجميع وتتيح التداول السلمي للسلطة، فإن مركز أزمة المثقف سيكون الحرية التي تمكنه من العمل بعقل مفتوح، وهذا يتطلب وفقا لداريوش شايغان أن يتعامل المثقف "مع الحقيقة"، ويعني ذلك أن الواقع المشروط يجب أن يكون محل اعتبار إلى حين الانتقال لمحطة جديدة تدريجيا. وهذا أيضا يجب أن يفهم بعيدا عن الحلول العجولة والانتقامية وغير المفكر فيها بمنهجية.
كلاهما مثقف السلطة ومثقف المعارضة هما أسرى البراغماتية النفعية، وقد تأثرا إلى حد بعيد بالنموذج التكنوقراطي السيء جدا. وهنا نحتاج إلى سياق ينتج مثقف مفارق للنموذجين .. مثقف حر "حقيقي" قادر على التحليل الكلي والتخارج من فكرة الحقائق المقولبة والجاهزة، وكما يرى نصر حامد أبو زيد فـ : "ان خطاب المثقف الحقيقي خطاب مفتوح، أي غير دوغماتي. بمعني انه لا يرى انه يمثل سلطة. انه خطاب مفتوح لأنه نقدي في بنيته وقادر علي تجاوز نتائجه، وذلك علي عكس خطاب المثقف الآخر، مثقف السلطة، فهو خطاب مغلق دوغماتي اطلاقي، يتضمن مفهوم امتلاك الحقيقة المطلقة في كليتها وشموليتها".
[email protected]
|
|
|
|
|
|