عرض كتاب الوجود بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاذ خالد الحاج عبدالمحمود الحلقة الخامسة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 05:04 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-26-2018, 01:05 AM

محمد الفاتح عبدالرزاق
<aمحمد الفاتح عبدالرزاق
تاريخ التسجيل: 09-14-2018
مجموع المشاركات: 59

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عرض كتاب الوجود بين الإسلام والحضارة الغربية للأستاذ خالد الحاج عبدالمحمود الحلقة الخامسة

    01:05 AM September, 25 2018

    سودانيز اون لاين
    محمد الفاتح عبدالرزاق-Sudan
    مكتبتى
    رابط مختصر

    بسم الله الرحمن الرحيم

    (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)

    الفصل الثاني
    الله في الفكر الغربي
    الفكر الغربي يقوم على العقل المجرد، ولذلك هو يقوم على الفلسفة.. وقد تأثرت الفلسفة الغربية، تأثراً كبيراً جداً، بالعلم المادي التجريبي، وانعكست إنجازاته، خلال مسيرته الطويلة، على فكر المفكرين، وفلسفة الفلاسفة.. بل أصبحت هنالك فلسفة خاصة به، هي فلسفة العلم.. ولم تتأثر الفلسفة بإنجازات العلم وحدها، وإنما تأثرت أيضاً بمنهجه، وما يقوم عليه من أسس، ومنطق.. وكان لكل ذلك أثره الكبير على تصور الفكر الغربي لله، وموقفه منه.. فمنهم من رفض وجود الله، باسم المادية، والمنهج العلمي، وعدم حاجتهما إلى ما هو غريب عنهما.. ومنهم من رفض باسم العلم أي وجود خارج الكون، لكن لا أثر له فيه، حتى إذا كان هو الذي خلقه.. ومنهم من جعل الكون في جملته، هو الله.. ومنهم من رأى أن الله، هو الكون في صيرورته.. فهم من حيث عقيدتهم في الله، انقسموا بين الرفض والقبول، وبين الوحدة والتعدد.
    ونحن لا يعنينا، مجرد معرفة وجود الله، وإنما تعنينا معرفة الله، كوجود حقيقي، وطبيعة هذا الوجود، وأثره على طبيعة الكون الحادث، وعلى الطبيعة الإنسانية، وعلاقته الفعلية بهما.. فنحن نتحدث عن الحقيقة _عن الواقع الفعلي.. وهنالك الكثير جداً من تصورنا للوجود يقوم على الزيف.. وقد سبق أن ضربنا لذلك المثل، بما يعطيه التصور الذي يقوم على الإدراك الحسي للمادة من أنها صماء خالية من الفجوات، وقد أصبح من المسلم به أن هذا التصور مخالف للحقيقة، وهو تصور زائف للوجود.. فما نبحث عنه هو التصور الحقيقي، الخالي من الزيف، وعلاقاتنا معه: العلاقة الوجودية، والفكرية، والحياتية.
    موقف الغرب من الله، وتصورهم له، ولعلاقته بالوجود الحادث، نجده عند الفلاسفة، والمفكرين، كل على حدة، كما نجده بصورة عامة عند المدارس الفلسفية: عند العقلانيين والماديين، والوضعيين والتجريديين، والوجوديين.. الخ.. كل مدرسة على حدة.. وبالطبع نحن لا يعنينا رأي أفراد، لم يؤثر على الحضارة ككل، أو يؤثر على جزء كبير من المواطنين.. وفي النهاية المهم رأي عامة المواطنين الذين يمكن أن يكون الكثيرون منهم لم يسمعوا بهؤلاء الفلاسفة والمفكرين ولا يعرفون ما يقولون، ومع ذلك قد ينعكس عليهم موقف هؤلاء الفلاسفة بصورة غير مباشرة.. والمهم بصورة أوكد ما يعطيه إطار التوجيه في الحضارة الغربية من تصور للوجود، بحكم طبيعة هذا الإطار.. فيمكن أن يكون هنالك تصور، قائم الآن، هو خطأ بحسب إطار التوجيه، ويمكن تصحيحه.. فالقضية في النهاية هي: هل إطار التوجيه الذي تقوم عليه الحضارة، كاف للوصول إلى حقيقة الوجود، كما يقوم عليه الواقع الفعلي؟! أم هو غير كاف، ويقوم على خلل أساسي لا يمكن معه معرفة طبيعة الوجود، ولابد من البحث عن إطار آخر يؤدي المهمة بكفاءة؟
    لقد رصد لنا بعض الباحثين، موقف الحضارة الغربية، من الله، في مصدر واحد.. ومن هؤلاء، جيمس كولينز صاحب العمل المتميز الذي قام به في بحثه المستفيض، الذي ضمنه كتابه: (الله: في الفلسفة الحديثة)، وتناول في دراسة مفصلة، وموثقة، موقف الفكر الغربي من قضية الله، منذ ما قبل القرن الخامس عشر، وإلى الفكر المعاصر.. وسيكون هذا البحث من مراجعنا الأساسية، ولكننا لن نعتمد عليه وحده، وإنما سنرجع للمراجع الأخرى التي تناولت الموضوع.
    ونحب أن نبدأ بالقضية الهامة التي أثارها جيمس كولينز، في بداية كتابه، نقلاً عن نيقولا دي كوسا 1401م ـ 1464م ، فهو يقول: (فإذا سلمنا بتعاليم المسيحية عن الله _بوصفه الوجود الكامل اللامتناهي_ فلن تكون ثمة نسبة محددة أو علاقة نسبة بين الله، ونظام الموجودات المتناهية برمتها، ومن ضمنها الانسان بتصوراته ولغته.. فإذا كان الله لامتناهياً حقاً بالمعنى الكامل، لا بالمعنى السلبي (العدمي) أو غير المتحدد، فلا مناص من أن يظل مجهولاً بالنسبة لنا، ولا سبيل إلى تسميته، أو على الأقل، يبدو أن طرقنا المألوفة للمعرفة لا تمدنا بأي أساس للوصول إلى حقيقة كينونته..).. (4 ص 20)..
    بحكم التعريف، الله لابد أن يكون مطلق الكمال، فلا يستقيم أن يكون إله، ثم يلحق به النقص أو العجز أو المحدودية.. ولذلك ينبغي أن تكون أسئلة دي كوسا هذه من الأسئلة الأساسية، التي ينبغي على من يؤمنون بالله _المطلق_ الإجابة عليها.. ويمكن تلخيصها، فيما يلي:
    كيف يمكن أن تكون هنالك علاقة ونسب بين المطلق والكون المحدود والمتناهي، بما فيه الانسان؟
    كيف يمكن للمحدود _الإنسان_ أن يعرف المطلق؟
    فعلينا أن نصطحب معنا هذه الأسئلة، ونحن نتحدث عن الموجود المطلق.
    الإلحاد وتيارات الرفض:
    نبدأ حديثنا عن الله، في الفكر الغربي بالجانب السلبي، جانب أولئك الذين يرفضون وجود الله.. لم يحدث في التاريخ البشري، أن رُفض الله، من منطلقات فلسفية، وعلمية، كما حدث في الحضارة الغربية.. ونحن هنا، لا يعنينا الإلحاد في حد ذاته، وإنما يعنينا تصور الوجود عند من يرفضون وجود الله.. يعنينا تصور الوجود عندما يغيب عنه الله، وكيف تعالج مشكلات الوجود الأساسية، في هذه الحالة.. نحن نقتصر هنا على الإلحاد الذي يرفض وجود الله.. ونترك صور الإلحاد الأخرى، التي تتصور الله، تصوراً، قاصراً، ومحدوداً ومن غير فعالية.. وأوضح إلحاد فلسفي، هو الذي يقوم على الفلسفة المادية، التي ترفض وجود أي كائن خارج المادة، وإلى جانب الماديين، تبنى هذا النوع من الإلحاد، التجريبيون، الذين أخذوا بتجريبية المنهج العلمي، وافترضوا أنها المنهج الوحيد.. والطبيعيون، وهم يمثلون صورة من صور المادية، جعلت من الطبيعة، كما يتصورونها، هي الوجود الوحيد.. ومن هؤلاء من جعل مجموع الطبيعة هي الله. وقد بدأت فلسفة الإلحاد المنظمة، في الغرب، باتجاه المذهب التجريبي لتحييد الإله.. فقد كان من أغراض النزعة التجريبية الإنجليزية (تفسير المعرفة الإنسانية والسلوك الإنساني بطريق لا يحتاج لضمان لاهوتي. والنغمة الكبرى في هذه الحركة الفكرية هي أنها فلسفة تقوم على التجربة يمكن أن تستغني وهي مطمئنة عن الإله أو على الأقل تخفف من دوره إلى أقصى حد).. (4 ص137)..
    وقد حدث التحييد على مراحل.. ففي المرحلة الأولى، ركز بيكون وهوبز على تفريغ كل مضمون فلسفي نظري مما قد يكون فيه لاهوت طبيعي.
    وقد كان إسهام لوك هو العمل على تطوير نظرية في المعرفة لا يتمثل فيها الله على أنه مبدأ.. وكان لوك يسعى إلى اختزال الإله إلى مجرد اعتقاد نظري في وجوده، دون أي معرفة برهانية أو تضمينات أخلاقية.
    وقد عمل بيكون على فصل العلوم الطبيعية عن اللاهوت واكتملت المراحل، بهوبز 1588م ـ 1679م.. الذي وضع مفهوماً مادياً مكتفياً بذاته.. واقترح جعل منهج جاليلو منهجاً مطلقاً، وليس خاصاً بالعلوم الطبيعية، وإنما يشمل الفلسفة أيضاً.. ووفقاً لهذا المنهج، يرى هوبز تعريف الفلسفة بأنها: دراسة توليد الأجسام من خلال الحركة الطبيعية.. فحسب هذا التعريف (إما أن يكون الإله كائناً لا جسمياً، وبالتالي يكون غريباً عن البحث الفلسفي تماماً وإما أن يكون معروفاً من الوجهة الفلسفية، لأنه يملك طبيعة جسدية "وإن تكن نقية جداً ولا متناهية"..).. (4 ص 145).. وكان بيكون وهوبز يعتقدان أن دراسة العلل الطبيعية تغري الناس بالاعتقاد في قوة أبدية اسمها الإله، بيد أن ما نبرهن عليه ليس إلا رغبتنا واعتقادنا، وليس وجود الإله.. أما بالنسبة لطبيعة الإله فهي رمزية (إن العقل الإنساني لا يستطيع أن يصدر عليها أحكاماً ذات أساس استدلالي. والصفات التي نخلعها على الإله ليست إلا أسماء تعبر عن عجزنا عن معرفته، وعن رغبتنا في وصفه بعبارات تمجيدية من شأنها إرضاء قوة مجهولة).. (4 ص145)..
    أما ديفيد هيوم 1711ـ 1776م، فقد كان من أغراضه عزل الدين، أو ما أسماه (الخرافة المستقرة) عن أي سيطرة فعالة على الحياة الأخلاقية للفرد.. وهو يرى أنه لا يمكن أن تقوم معرفة برهانية على الله.. وهو يرى أن القول بالقدرة الشاملة لله، وجعله الفاعل السببي الوحيد، قضية ذاتية، فهو يقول: (حين نقول أن فكرة موجود قادر قدرة لا متناهية مرتبط بكل معلول يريده، لا نفعل في الحقيقة أكثر من أن نقول أن موجوداً ترتبط إرادته بكل معلوم، يرتبط بكل معلول.. وهذه قضية ذاتية لا تعطينا أية بصيرة تنفذ إلى طبيعة هذه القدرة، أو ذلك الارتباط).. (4 ص172).. (وعلى الرغم من أنه يعتبر حجة النظام في الطبيعة، أقوى الحجج في إثبات وجود الله، إلا أن الفلسفة تستطيع أن تجعلنا شكاكاً تماماً، لولا أن الطبيعة أقوى منها كثيراً.. إن عواطفنا ودوافعنا العملية ترغمنا بقوة على التصديق بوجود الإله، حتى لو كان التأكيد الفلسفي يؤكد لنا افتقارنا إلى وسائل الارتقاء إلى معرفة عنه تتسم بيقين برهاني، وترجع ضرورة الاعتقاد في الله إلى هذا الميل الذاتي في طبيعتنا أكثر من رجوعها إلى طابع القهر الذي تنطوي عليه بنية النظام الكوني والتدبير الباطني الذي يكشف عنه العقل).. (4 ص 178).. وأرجع هيوم الدين الشعبي إلى (مشاعر الرجاء والخوف، والمصلحة الذاتية، وهي تتخذ صورة دينية من خلال تفكير الانسان في مثوله إزاء قوة شاملة غير محسوبة).. (4 ص 179)..
    لقد كان موقف فلاسفة عصر التنوير، متأثراً بنيوتن ولوك، فيما يتعلق بمشكلة الإله، بصورة مزدوجة (إذ يؤدي في آن واحد إلى تدعيم الحد الأدنى من النظرية الطبيعية عن الله، والى نظرة يحذف، منها الإله) 4 ص 186.. فقد كان فولتير الذي يؤمن بالألوهية، ودولباك الملحد، يستخدمان المعطيات العلمية السائدة في الفيزياء وعلم الأحياء.. وكان فولتير يرى أن تسليمه بالإله هو التفسير المعقول الوحيد للطبيعة وللإنسان، في عصر يزداد وعيه بأهمية الكشوف العلمية في قضاياه الأساسية.. وعلى العكس من ذلك، يرى دولباك وديدرو أن إلغاء الإله يؤدي وظيفة الشرط الضروري للتقدم العلمي!!
    تقوم النزعة الطبيعية المادية على إنكار أن الكشوف العلمية تستلزم الإله، أو أنه مطلوب لتنظيم المجتمع الإنساني تنظيماً أخلاقياً. وقد كان دولباك 1723 ـ 1779م يتباهى بأنه (العدو الشخصي للإله).. وقد كون دولباك تنظيماً يضم الملحدين، عرف (بنادي دولباك).. وكانت هذه الجماعة ترى (إن الدليل على عدم وجود الله هو من القوة والوضوح، بحيث لا يصدق بمذهب الألوهية إلا مأفون أو جبان، بل إنها تدين موقف المتحفظ الشكاك).. (4 ص 218).. وكان دولباك يرى أن الطبيعة كلٌ عظيم قائم بذاته، ولا يمكن أن يقوم شيء آخر خارجه.. وهو يقول: (تتضمن فكرة الطبيعة بالضرورة فكرة الحركة. ولكن قد نتساءل: من أين تتلقى الطبيعة هذه الحركة؟ وإجابتنا هي: من نفسها، لأنها كلٌ عظيم، وبالتالي لا يمكن أن يوجد شيء وراءها.. ونحن نقول أن الحركة طريقة في الوجود تنبع بالضرورة من ماهية المادة، وأن المادة تتحرك بطاقتها الخاصة، وأن حركتها ينبغي أن تعزى إلى القوة الكامنة فيها، وأن تنوع الحركة والظواهر الناتجة عنها تصدر عن تباين الخصائص والصفات والتركيبات التي توجد أصلا في المادة الأولية التي تُعَد الطبيعة تجميعاً لها).. (4 ص 220)..
    التيار الإلحادي بعد هيغل:
    حدثت موجة من الإلحاد، بعد هيغل، وكان بعض روادها من الشباب الهيجليين.. وقد عزمت هذه الجماعة على تقويض تصور الله على نحو حاسم، وإقامة مذهب إلحادي مطلق.. فقد شهد القرن التاسع عشر (مولد مذهب في الإلحاد، مذهب كامل التكوين، يرمي إلى استبعاد الله بلا قيد ولا شرط من معتقداتنا المتواضع عليها..).. (4 ص 338).. وتشترك النزعات الإلحادية في هذه الفترة (في رجوعها إلى البواعث السائدة في النزعتين الإنسانية والطبيعية للدفاع عن الاعتقاد القائل بأن الله غير موجود).. 4 ص338.. ففيورباخ مثلاً، يدين المطلق الهيجلي باسم النزعة الإنسانية.. ويدعو إلى إزالة الله بوصفه مبدءاً محطِّما للتكامل الإنساني.. ويركز ماركس على التضاد الضروري بين الاعتقاد في الله، والتحكم الفعال في قوى الطبيعة والمجتمع.. أما عند نيتشة، فمذهب الألوهية مذهب لا واقعي، ولا أخلاقي.. أما ديوي، ومدرسة النزعة الطبيعية الأمريكية، فيريان ضرورة تحويل الاهتمام عن أي مجال وهمي يقع في ما وراء الطبيعة، والتركيز على منهاج هذا العالم، وأهدافه.. والى جانب هؤلاء، فإن من أهم من أسهم في موجة الإلحاد في الغرب كونت، والوضعية المنطقية، والجناح الإلحادي من الوجودية.
    نحن لسنا معنيين، بتفاصيل قضية الإلحاد، ولذلك لن نتابع مواقف هؤلاء الفلاسفة، وإنما يعنينا فقط، رصد الظاهرة بما يعين على تحديد الموقف من الوجود.
    يرى فيورباخ 1804ـ 1872م، أن مستقبل الفلسفة، ينبني على موقف الجمع بين النزعة الإنسانية والنزعة الطبيعية.. ومن أجل فتح الباب أمام النزعة الإنسانية الطبيعية، رأى فيورباخ، إزالة المسيحية، ومطلق هيجل.. ورؤية فيورباخ هذه أصبحت السمة الأساسية لكثير من النزعات الإنسانية والطبيعية، التي اعتبرتها نقطة البدء.
    وقدم فيورباخ ما اعتبر القضية الأساسية للفكر الحديث وهي (تأنيس الإله) _بمعنى جعله إنساناً_ يقول جيمس كولينز: (البروتستانتية تركز على دلالة الله للخلاص الإنساني، ومذهب شمول الألوهية يغلق الأبواب على الله داخل الطبيعة، والمذهب التجريبي يحكم على الله بمعيار النزعة السلبية في الإنسان.. وتنظر المثالية إلى الله والطبيعة بوصفهما وجهين لكل روحي واحد.. ويعد هيجل ذروة الاتجاه (التأنيسي) ولكنه يفتقر لسوء الحظ، إلى الشجاعة التي تدفعه إلى النتيجة المحتومة التي تتألف من رد كل ما هو فوق الإنسان إلى الإنسان، وكل ما هو فوق الطبيعة إلى الطبيعة، وتنقطع الأسباب بمذهبه دون الوصول إلى هذا الرد النهائي لاحتفاظه بالروح المطلقة.. ويرى فيورباخ أن رسالته هي (تأنيس) وتطبيع الروح المطلقة بصورة تامة).. (4 ص340).. وفيورباخ، فيلسوف مادي، وكذلك ماركس.. والحقيقة والوجود عندهما، لا يخرجان عن الواقع المادي المحسوس.. وهذا ينطبق على كل فلسفة مادية.. يقول فيورباخ: (الحقيقة والوجود الفعلي، والحسية، كلها شيء واحد.. فالكائن الحسي وحده الوجود الحقيقي الفعلي.. والزمان والمكان الشكلان الوحيدان لكل وجود.. فالوجود في الزمان والمكان هو وحده الوجود.. وكل وجود واقعي، أعني كل وجود هو في الحقيقة كذلك، يكون وجوداً كيفياً متعيناً (وبالتالي متناهياً).. وما ليس له تأثير فيّ، لا جود له بالنسبة لي.. وإذا كان الله هو سلب كل ما هو متناهٍ، فمن المنطقي إذن أن يكون المتناهي أيضاً سلب لله).. (4 ص349)..
    هذا النص وافٍ جداً، وهو ينطبق على جميع صور الفلسفة المادية، فيما يتعلق بموقفها من الوجود.. ويمكن تحديد المبادئ الأساسية، التي يتضمنها في النقاط التالية:
    الحقيقة هي الوجود الفعلي، الواقعي.
    هذا الوجود هو ما يمكن إدراكه بالعقل عن طريق الحواس.. (الحقيقة والوجود الفعلي، والحسية كلها شيء واحد).
    لا وجود إلا للكائن الحسي، والكائن الحسي هو وحده الوجود الحقيقي، وأي وجود خلافه هو وجود زائف أو متوهم.
    كل وجود هو زماني مكاني، ولا وجود إلا لمن هو في الزمان والمكان.. فلا وجود إلا لما هو متعين ومتناه.
    بحكم هذه التعريفات، يصبح لا وجود إلا للمتناهي _فالمتناهي هو سلب أو نفي للامتناهي.
    ومادية ماركس، أو أي مادية أخرى، لا تخرج، من حيث النظر للوجود، عما وضعه فيورباخ في النص المنقول أعلاه.. وقد كان اهتمام فيورباخ هو تحويل الفلسفة من المثالية واللاهوت إلى المذهب التجريبي والعلوم الطبيعية.
    كان كارل ماركس، 1818 _ 1883م، من أوائل الهيجليين الشباب الذين استوعبوا حجج فيورباخ ضد الروح المطلقة.. حيث اتجه ماركس إلى صبغ نزعة فيورباخ الطبيعية، بصبغة اجتماعية وتاريخية.. وقد اتفق ماركس مع فيورباخ، على أنه بقدر ما يرفع الانسان من شأن الله، بقدر ما يحط من شأن نفسه.. وكان رأي ماركس أن النقد المضاد للألوهية قد اكتمل، من حيث المبدأ، على يدي فيورباخ، فلا ضرورة لتبديد الطاقة في مهاجمة الله والدين.. وقد أقام ماركس مذهبه على أساس من ديالكتيك هيجل بعد أن حوله إلى المادية، بالصورة التي تجعل طبيعة الوجود طبيعة مادية، لا مكان فيها لله، ولا حاجة إليه.
    أما نيتشه، 1844 _ 1900م، فقد بشر بموت الله، في كتابه (هكذا تكلم زرادشت).. وقد اطلع نيتشة في شبابه على مؤلفات آرثر شوبنهور، 1788 _ 1860م، وهذه المؤلفات هي التي شجعته على الإلحاد.. فقد كان شوبنهور يرى أن دليل السبب الكافي، لا ينطبق على وجود الله، إذ من المفترض أن الله كائن لا حسي، وأنه هو السبب المطلق أو العام للأشياء، في حين أن السبب الكافي لا يقوم إلا في حق أنواع معينة من الأسباب، المتعلقة بموضوعات حسية.. وكان شوبنهور يرى أن صياغة أسباب محددة للعالم ككل، أمر يفوق قدرتنا المحدودة.. وقد رفض شوبنهور مطلق هيجل، وإله فولف، كما رفض الطريق الكانطي للوصول إلى الله بواسطة العقل العملي.. لقد كان شوبنهور ملحداً صريحاً، وتأثر به نيتشة.
    وكان نيتشه، مثل ماركس، مفتوناً بأسطورة برومثيوس، وما تقوم عليه من تحدي الآلهة.
    ونيتشه يرفض فكرة المطلق: (فليس هنالك حقيقة مطلقة، تناظر منطقة الماهيات في الوجود، وبالتالي لا معنى لادعاء الحقيقة المطلقة عن واقع الله المتعالي.. الحقائق الإنسانية منظورات تؤخذ في موقف جزئي من اجل غرض جزئي: وتظل هذه الحقائق متكثرة ، قابلة للمراجعة، ومقصورة على المشروعات الإنسانية.. وهذا ينطبق أيضاً _بنفس الصرامة_ على الحقائق الأخلاقية، فلا وجود لنظام أخلاقي شامل أو خير مطلق، وإنما ثمة خيرات متعددة للأهداف الإنسانية والجزاءات المتناهية التي تفرضها..).. (4 ص 370).
    ونيتشه يرى أن رسالة الإلحاد، في عصره، لا تتعلق باستحالة إثبات وجود الله، ولا تتعلق بما يقرره الواقع الحضاري الفعلي، بأن الاعتقاد في الله لم يعد منتشراً على نطاق واسع.. وإنما تتعلق بأن أحداً لم يعد يعتقد في الله، لأن الله لم يعد قابلاً لأن يعتقد فيه أحد، ولم يعد جديراً بتصديق الانسان وتأييده.. يقول نيتشة: (لا ليس ما يميزنا هو أننا لا نجد إلهاماً _سواء في التاريخ، أو في الطبيعة، أو في ما وراء الطبيعة_ ولكن ما يميزنا هو أننا نرى الآن أن ما كنا نبجله كإله، لم يعد شبيهاً بالآلهة، بل شيئاً تعيساً لا معقولاً، ضاراً، ولم يعد هذا مجرد خطأ بل جريمة ضد الحياة.. إننا ننكر الإله من حيث هو إله).. (4 ص373)..
    النزعة الطبيعية والإلحاد:
    النزعة الطبيعية هي الاتجاهات التي تجعل من دراسة العالم الطبيعي أمراً رئيسياً في الفلسفة.. فهي تؤكد حقيقة الطبيعة ضد النزعة اللاكونية، وتدافع عن أهمية السياق الطبيعي في مقابل النظرة الإنسانية الصرفة.. وتستطيع أي فلسفة أن تجعل من الوجود الطبيعي في مركز الصدارة دون الحاجة لمناهضة الله.. ولكن، عملياً، عارضت الأنماط السائدة من النزعة الطبيعية في العصر الحديث _عادة_ كل ما هو فوق الطبيعة أو خارجها.. فالنزعة الطبيعية في المعرفة تستبعد كل حقيقة موحاً بها وراء ما يمكن أن تبلغه قدراتنا الطبيعية.. (4 ص379)..
    لقد كان ظهور الإلحاد الحديث في أوروبا وفي أمريكا، مرتبطاً بإنكار منهجي، لكل وجود وراء الطبيعة.. وكان أوجست كونت (1798 ـ 1857م) أحد الرواد الرئيسيين لهذه النزعة الطبيعية المادية المعادية للألوهية.. وترتكز نزعة كونت الوضعية، على المصادرة التي تقول: ما من شيء واقعي يمكن أن يتجاوز عالم الحوادث الحسية وقوانينه، وبالتالي فإن المطلق الوحيد هو عالمنا المتناهي!! وقد سعى كونت إلى استبدال عبادة الله بدين الإنسانية، إلا أن دينه هذا لم يجد القبول.
    وفي أمريكا، اتخذت النزعة الطبيعية ذات الاتجاه العلمي، موجهاتها من خلال مؤلفات سانتيانا، وديوي، ودبردج، وكوهن.. وهؤلاء مفكرون بينهم اختلافات كبيرة، إلا أنهم يتفقون حول رفضهم للإله والخلود الشخصي.. ويرون أنه (لا وجود فوق الطبيعة، وأن الله والخلود أسطورتان).. (4 ص 380).. وهم يعملون على تقويض هاتين الأسطورتين..
    وعلى الرغم من أن أصحاب النزعة الطبيعية العلمية، يختلفون مع هيجل، إلا أنهم مدينون له، بالرؤية التي ترى: أن ثَمّة كلاً واحداً يضم الوجود بأسره، وهو يُعرف عن طريق منهج عام.. وهذا الوجود تسمّيه لغة العلم بالطبيعة، والمنهج هو المنطق العام للعلم.. والنزعة الطبيعية، لا تعترف بأي واقع لا يكون معتمداً، من حيث الأركان والعِلّية، على الأساس المادي.. فكلمة (طبيعة)، تعد مفتاحاً لمذهب النزعة الطبيعية، العلمي، وهي تساوي (الوجود الواقعي).. فعند صاحب النزعة الطبيعية (الطبيعة هي كل ما هو موجود)..
    وقد أرادت النزعة الطبيعية الأمريكية، أن تتخذ موقفاً مضاداً للمطلق الهيجلي، يقوم على وحدة بين مجموع الواقع، وبين الطبيعة.. كما يقوم على أنه لا وجود لبينة تؤيد الوجود الواقعي لإله متعالي، ولروح لا مادية في الانسان.. كما تؤكد على كفاية المنهج العلمي.
    وكان إسهام جون ديوي (1859 ـ 1952م) الرئيسي، هو تأكيد الخطر المزدوج الذي يمثله الله بالنسبة للطبيعة والمنهج.
    وعند ديوي موضوع الاعتقاد في الله، أو المطلق، موضوع سايكولوجي، أكثر منه موضوعاً فكرياً.. وعنده (العقلية الألوهية تفتقر إلى رباطة الجأش، إذ يهزها التغيير، والعرضية، والنسبية التي يتسم بها كوننا، وهي ما تسميه عالم الوجود الأدنى.. وهي تتشوف إلى مجال مثالي للوجود الثابت الضروري المطلق، حيث يستطيع الإنسان أن يكون بمأمن من أخطار الوجود الدنيوي، ثم يخدع الألوهي نفسه، بأن يقلب هذا الهدف المتعالي إلى وجود فعلي، ويأخذ هذا الوجود المثالي الممكن على أنه كائن إلهي يوجد وجوداً مستقلاً.. فالله هو نتاج هذا التجريد لآمالنا من سياقها الطبيعي، وهذه (الأقْنَمة) لمثل أعلى، وتجسيده في كائن فعلي خارج الطبيعة).. (4 ص 385)..
    لقد قام النقد للتفكير الألوهي لمعظم أصحاب التفكير الطبيعي في أمريكا على النقاط التالية:
    قبول وجود كائن متعالي يحدث صدعاً في اتصال الطبيعة.
    يتبع القول بوجود كائن متعالي، الحط من قيمة كل ما هو متناهي وعرضي، ومتغير.
    الاعتقاد في الله، يستند إلى الإهابة بقوة عارفة خاصة تعطي عنه رؤية حدسية، ولكنها تحطم في الوقت نفسه، استمرار المنهج العلمي، واحترام وسائلنا العادية للمعرفة.. ويربط ديوي بين التسليم بالله، وبين موقف المتفرجين، فالتسليم بالله يجعلنا نتهرب من مسئولياتنا الإنسانية في مجال التحكم الايجابي في الطبيعة والمجتمع.
    أما وليام جيمس، وبقية أصحاب المذهب البراغماتي، فهم ليسوا ببعيدين عن موقف ديوي.. ولكن لما كان جيمس يؤمن بإله محدود، وبألوهية متعددة، فإننا لا نتناوله في إطار الإلحاد الصرف.
    وهنالك الجناح الملحد من الوجودية، والذي يتزعمه سارتر وكامو.. وهذا الجناح، أقرب إلى التمرد على الله، منه للرفض التام.. على الأقل سارتر _في مرحلة من مراحله_ كان متمرداً .. فقد جاء في مسرحيته (الذباب)، الحوار التالي، بين جوبتر، وبطل المسرحية:
    جوبتر: ألم أخلقك أيها الدودة القذرة!؟
    البطل: نعم خلقتني.. ولكن منذ أن خلقتني لم أعد أخصك.. لقد أصبحت حريتي!!
    ولكن اتجاه سارتر إلى الماركسية، هو الذي أدخله في الإلحاد الصرف.. يرى سارتر أن (للإنسان في جوهره رغبة في أن يكون إلهاً)..4 ص 518.. و (علينا مواجهة هذه الحقيقة، وذلك بالتسليم بنتيجتها الأخلاقية، دون الاعتماد على أي معيار الهي موجود فعلاً)..نفس المرجع..
    أما كامو، فينصحنا بأن نكف عن محاولة أن نكون آلهة، أو أن نتوقع من التاريخ أن ينتج شيئاً مطلقاً، فعلينا أن نطامن من غايتنا لتتمشى مع الحدود التي جبلتنا عليها الطبيعة الإنسانية.



    25/9/2018م























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de