لا زال الأمر لم يحسم بعد ؛ لا زال هناك من يصر على أن الالحاد هو عودة إلى الفطرة أي الخلو كما ذكرنا في مقال سابق ؛ وفي المقابل ينطلق دفاع مضاد يؤكد أن الإيمان يفطر عليه الانسان ، وأن الخروج عليه خروج عن الفطرة. مع ذلك فكلا الاتجاهين لم يحددا مفهوما واضحا للفطرة. هل هي نزعة بدائية primitiveness أم أنها تنحو إلى الغريزة instinct أم هي أوالية innateness أم هي الطبيعة nature . المسالة أعقد مما يتم طرحه داخل الجدل الثيولوجي ببساطة مفرطة. نحن نطلق على الحيتان مسمى سمك ؛ مع ذلك الحيتان تلد ولا تبيض ؛ وبعد هذا لا نعتبر التمساح سمكة رغم أنه يبيض ولا يلد.. ففكرة تحديد المصطلحات مهمة جدا وضرورة كان من الواجب الولوج فيها بعمق باعتبارها مسؤولية ملقاة على عاتقنا قبل الجدل حولها لتكون النتائج محملة نسبيا ببعض من الموثوقية. في كتابه أشباح في الدماغ لبروفيسور راماتشاندران ترجمة وافي الثقفي ، يقول:(جلس في مكتبي رجل يعلق صليبا ضخما مرصعا بالجواهر تتدلى منه سلسلة ذهبية ؛ طفق يحدثني عن كلامه مع الإله ، وأنه معنى هذا الكون الحق ، قال: ستعرف أن الكون يعج بالرسائل الروحية ، إذا ما أطلقت لنفسك العنان لتسمعها. القيت نظرة على سجله الطبي ، لألاحظ أنه يعاني من صرع الفص الصدغي منذ المرحلة الأولى للمراهقة ، وهو الوقت نفسه الذي بدأ الآله يتحدث إليه. سألت نفسي: هل لتدينه أي علاقة بنوبات الصرع؟).
هناك أيضا قصة مشهورة لامرأة تعاني من الدماغ المفصول ؛ وقد ذكرت في مقال سابق أن الجسم الجاسئ الذي يربط بين نصفي الدماغ قد ينقطع وهنا يمكن أن تنشأ سلوكيات غريبة ، فقد يكون الشخص مؤمنا حينما يفكر بجانبه الأيمن وملحدا عندما يسيطر جانب دماغه الأيسر عليه وهكذا... الحقيقة أن هذا الاتجاه يمكن أن يعطنا تعريفا فسيولوجيا للفطرة ، وفي كل الأحوال سوف ينبثق الايمان أو الإلحاد من جزء محدد من الدماغ ، فهو الذي سيقرر اتجاهنا الذي سنتبعه ؛ لكن حتى لو افترضنا كما يجادل البعض من المؤمنين بأن الإيمان فطري (على هذا النحو) ؛ فهذا الجدل أو هذا الرأي لن يحسب لمصلحة الإيمان في كل الأحوال. فليس من مصلحة الدين أن يكون فطريا ، وإلا عنى هذا أنه نتاج بشري حتمي ؛ محايث للعقل وليس مفارقا له ؛ وهنا يفقد الدين نفسه خصوصيته وذاتيته ويتحول الى منتج صناعي بشري صرف. هذا الرأي الذي يدافع عنه الكثير من المؤمنين -بحسب اطلاعي على الكثير من المواقع اللاهوتية المسيحية على الانترنت- يعني أن الدين إفراز يمكن استئصال مصدره إن كان هذا المصدر في الدماغ. وحتى لو افترضنا -على نحو غير مفهوم- أن الدين مطلب شعوري ؛ فهذا يعني أننا نستطيع أن نغير ونعدل في هذا المطلب بالزيادة أو النقص بحسب تأثيرنا على مناطق الشعور في الجسد. وهكذا يتحول الدين إلى عضو يمكن بتره بسهولة ، او الابقاء عليه ، ومن ثم تنتفي الحاجة الى وجود رسالات من الله إلى البشر ، نستطيع أن نحول ابن الراوندي إلى الإمام الغزالي أو العكس من حيث موقف كل منهما من الدين ، وعلى هذا الأساس نتعامل مع الدين كما يتم التعامل مع التخصيب الصناعي للبويضة ، فنستخدم كروموسوم X أو Y لنحدد جنس الجنين ؛ أو كما بدأت التكنولوجيا الحديثة تعطي مقدرة منح الطفل عيونا زرقاء وشعرا أشقراء بتدخل معين. هكذا يفقد الدين مفارقته التي تعطيه معناه وقيمته كمكتسب خارجي ؛ فهذه المفارقة هي الخاصية الأقوى التي تجعل منه حاملا لموضوعات تتجاوز حدود العقل البشري ، كاللا نهاية والأزل والخلق من العدم وسائر اطروحاته الغيبية الأخرى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة