في العاشرة او يزيد من عمري كنت مشجعا لفريق المريخ ؛ لم اكن مجرد مشجع عادي بل مشجعا متعصبا ؛ اتذكر أن الادرنالين كان يرتفع الى اقصاه في اي مباراة بين المريخ والهلال... في ذلك الزمان كان هناك عمالقة المريخ القدامى ؛ (العملاق حامد بريمة ؛ العملاق سامي عز الدين ، الدحيش ، جمال ابو عنجة مأمون صابون...الخ... اما عندما نال المريخ الكؤوس الخارجية ؛ الواحدة تلو الأخرى تحول الشعور الى شعور تجاوز حد التعصب الى حد التقديس ، وفي ذلك الوقت عرف أحد أصدقاء والدي بتعصبي ، وكان رجلا غنيا مترفا وهلالابيا على السكين فعرض على عرضا مغريا جدا ؛ وهو أن أنتمي للهلال مقابل حقيبة ضخمة من الملابس الرياضية التي تحمل شعار الهلال والاحذية الرياضية. كان رفضي محسوما قبل حتى ان يكمل عرضه ، فالشعار كان (الله ، المريخ ، ثم المريخ ، ثم المريخ) ...وأما الوطن فهو نفسه المريخ والمريخ هو الوطن. لكن طبعا لا يعتبر هذا التعصب الكروي لدى الصبية غريبا ، فعندما ترك احد لاعبي الهلال فريق الهلال وانتقل الى المريخ قام أحد الصبية بشنق نفسه. وهذه حادثة قريبة ربما لم تتجاوز السنوات الخمس. هناك شخصية شهيرة جدا ايضا تعرضت للموت عندما تم احراز هدف في مرمى الهلال والغريب ان الهلال فاز بالمباراة بعد ذلك. في التسعينات بدأ الانهيار الكروي ؛ رغم وجود شباب واعدين شكلوا فريق الشباب الذي شارك في كأس العالم للشباب وكان منهم العظيم ابراهومة. ورغم الهزائم الثقيلة التي تعرضوا لها في كأس العالم الا انهم كانوا يسيطرون على المباريات بشكل مذهل اذهل كل المراقبين وكان المدهش أكثر انهم رغم ذلك كانوا يتلقون اهدافا شديدة السذاجة في مرماهم. وهذا بالتأكيد كان بسبب قلة الخبرة وليس قلة المهارة. ابراهومة انتقل الى المريخ وابلى بلاء حسنا ، لكن رغم ذلك فجيل الانقاذ عانى كالشعب تماما من عدم الاهتمام وهكذا كان فريق المريخ يتلقى الهزائم الخماسية بشكل متكرر من الفرق الافريقية وخاصة فرق شمال افريقيا... وكان حسام حسن في فريق الأهلي المصري قد تخصص في مرمى المريخ بأهدافه الحاقدة ... ومن الطرائف ان حسام حسن والذي كنت اكرهه أكثر من الشيطان واستاذة الرياضيات في المدرسة الابتدائية ، وفي اخر مباراة له قبل الاعتزال ؛ تعرض لهتافات جماهير المريخ الساخرة:(العجوز أهو ..أهو ..أهو) ؛ ولم تمض دقائق حتى الجم الجماهير المريخية بهدف قاتل. وفي مصر في نادي النادي الأهلي التقيت بحسام حسام وسلمت عليه لاكتشف شخصية مذهلة فقد كان خجولا جدا وهاشا باشا وشديد التواضع والاحتفاء بالسودانيين. لم تكن في ذلك الوقت هواتف بكميرات ففاتتني فرصة التقاط صورة تذكارية معه. نتيجة للانهيار المريع لفرق كرة القدم السودانية اتجه الشباب الى الخارج ، واليوم بات التشجيع منصبا على الفرق الأوروبية وخاصة فريقي برشلونة وريال مدريد كحالة هروب نفسي من الواقع المهزوم. ربما بعد كل هذه السنوات يراجع المرء منطقية وعقلانية توجهاته العاطفية ، ويرى فيها كما هائلا من السذاجة ؛ فتشجيع فريق كرة قدم والذي قد يترتب عليه شغب وربما عنف ؛ لا يستند في الواقع الى مبرر منطقي. فلنتخيل مثلا ان فريق برشلونة الذي تشجعه غير اسمه الى ريال مدريد ؛ وفي المقابل غير ريال مدريد اسمه الى برشلونة ، فماذا سيكون موقفك كمشجع لبرشلونة القديم ؛ هل ستستمر في تشجيع برشلونة الذي هو الان ريال مدريد. اذن فأنت في الواقع تشجع لاعبين معينين ، او مدربا معينا ، أو حتى طاقم ادارة معين وليس الفريق اسما ولون قميص. اما ان انتقلت لتشجيع الفريق الثاني فأنت اذن كنت تشجع اسما ولون قميص ، وكل هذا خطل في خطل. في الحقيقة نحن كما اسلفت في مقال سابق نقوم ببناء هويات متعددة لنا ، منذ الصغر نتبنى هوية لغوية واسرية واجتماعية وسياسية وثقافية ورياضية ، ليس بالضرورة ان يكون رسمنا للهوية منطقيا ، فربما حتى فكرة الوطن نفسها لا تكون منطقية ، ولذلك تتجه بعض الايدولوجيات والعقائد كالاسلام والشيوعية الى التعريض بالوطنية كهوية وعاطفة وانتماء . نلاحظ ذلك مثلا في الصراع بين استالين وتروتسكي حين كان تروتسكي يدعو الى اشتراكية عالمية في حين فضل استالين التطبيق القومي والحد من فكرة التمدد. كذلك التيارات الاسلامية عموما لا تؤمن بالوطن كهوية وتقسم الكرة الارضية الى دار اسلام ودار كفر . وإذا كانت الايدولوجيات او العقائد نفسها محل نقد عند تفكيكها بحيث تفقد خاصية التعبير عن المطلق ، فإنها تتحول هي ايضا الى هويات لا عقلانية وغير مؤسسة على المنطق. وبما اننا لو رددنا كل او اغلب هوياتنا بمنهج جينيالوجي الى الاصل النسبي لها فسنكتشف اننا ابناء اللا المنطق إذا فلا مانع ان نشجع فريق كرة قدم ونتعصب له مهما كان ذلك توجيها اعتباطيا لمشاعرنا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة