والمرأةُ تتلبّسُ وجوهاً شتّى. في المسافة بين الميلاد والموت، تتلقّفنا أيدي نساء عديدات، يبقى تأثير النساء في الحياة، في مسيرات الرّجال دقيقاً وبالغاً، للدّرجة التي يمكنُ الزّعم بأنّ العالم – لفرط تأثيرهنّ – عجينة نسويّة خالصة. ثارت تائرات الرّجال من بربر ومن أقاليمها لكوني أنكرتُ أنْ يكون الحلو مر(الآبري) اكتشافاً للمرأة التي يزعمون. ليس لديَّ سابق معرفة بالمرأة تلك، التي اكتشفته. ولا أحملُ حقداً، من أيِّ نوعٍ، للمكتشفات مأكولاتنا ومشروباتنا. كنتُ أنبّه فقط إلى أنّنا تلزمُنا الدّقة والتحرّي الجاد، فيما يتّصلُ بتواريخنا السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. ليست المسألة حمّى وصراع لتركيم أمجاد للقريّة أو المدينة. القبيلة أو الجهة. وحين تتبنّى منظمة يُفترَض فيها الأهليّة العمل العام والطّوعيّ، يتوقّعُ منها النّاس البسطاء – أمثالنا – أنْ تقوم بتحقيقاتها قبل أنْ تتجاسر على إقامة مهرجان بالخرطوم تبيعُ فيه المجدَ الهراءَ. ومأخذي كان محدّداً. وهو أنّ الكثير مما يجب أنْ يسبق ذاك الإعلان لم يقُمْ به أحد، فَفيمَ العجلة؟ من نسابق ههنا؟ والفكرة الجديرةُ بالاهتمام هي أنّنا لم نصنع أشياءنا هذه من العدم. كان هناك أناس قدماء هم الكوشيون، وهو جنس نبَتيّ ومرويّ، صنع الحضارات القديمة قبل أنْ يتمّ اجتياحه من قبل عناصر أخرى، سودانيّة وغير سودانيّة في تقلّبات التأريخ وتداول الحكم والغلبة على الأرض. ثمّ صار الوقت للنوبيين ردحاً من الزّمان، لم يعمّروا شيئاً حتّى جاءتهم فيالق الأحباش، ثم هجرات الأعراب من كلّ صوب وحدب، وهجرات الأفارقة وغيرهم، بعضهم من خارج القارّة الإفريقيّة. كلُّ أولئك وضعوا لمساتهم على حياةٍ تمّ تأسيسُها من قبل، بواسطة (الآباء المؤسّسين) الذين هم الكوشيون. وبالتالي فإنّ مفرداتنا الثقافيّة قديمة قدَمَ الأرض التي نقفُ عليها. عرف الكوشيون الأكلات التي نأكل، والمشروبات التي نشرب، ولبسوا الأزياء التي نلبس (حتّى عمامة الرأس – العرّاقي والسّروال – اللاووه الذي ترتديه نساء الشّلك الجميلات الصقيلات – الثوب السّودانيّ)، والمشاط، آنية الطعام، بناء المنازل واستخدام منتجات الأرض الزراعيّة والحيوانيّة، ليس من شيء لم يتركه لنا أولئك الكوشيون العظماء، وليس (النوبيون العظماء)، كما ذهبتِ التّرجمة البغيضة التي طبعتها دار رفيقي في جوبا وتمّ منعها في معرض الخرطوم للكتاب، في نوفمبر الماضي، لبعضٍ من الأسباب التي ذكرت. فما معنى أنْ يأتي أناسٌ عقلاء راشدون من بربر أو غيرها فيحشدون أمجاداً زائفةً لنساء بربر، يمنحونهنّ براءات اختراع الدّلكة والدّخان حتّى. رأيتُ في ذلك تصاغراً لا يليق بنا. تطوير معارفنا القوميّة يحتاج أكثر من صراع الدّيَكة هذا. يستغرِبُ شارل بونيه: كيف أنّ الذين يعيشون على سطح أرض السّودان اليومَ، يجهلون عظمةَ وفخامةَ من يرقدون تحت هذه الأرض. سيجدُ المتنطّعون من بربر، رجالاً ونساءً، أنّ التراث السّودانيّ يسعُ الجميع، يشملُ كلّ أحدٍ وهو ثريٌّ بما يكفي لأنْه مصدرَ فخارٍ للجميع بلا استثناء. وفي سجالات الأمم ثقافيّاً والتّنافس بينها على السيادة والأقدميّة والأصالة، فنحنُ أحوجُ ما نكون للتعارف والتواضع على قيمٍ وإطارٍ يجمعُنا لنحقّق منه انطلاقتنا القادمة، بدلاً عن التنافر والتصاغر للفخر بمكتشفات نساء بربر ونساء بابنوسة ونساء وادي حلفا. لتجدَ نساءُ بربر في الكنداكات اللائي حكمن وبنينَ وأشدنَ وقاتلنَ وانتصرنَ أسوةً حسنة للاتّباع والتمجيد والاحتفاء. مثلما على الرّجال أنْ يجدوا في بعانخي، تهارقا، اسبلتا، سيلكو، عبد الله جمّاع، عمارة دنقس، إسحق بن بشر، وآلاف البنّائين الأشاوس أسوةً وقدوة للترفّع عن الصغائر والمشاحنات والإحن وموات الهمم. لقد تصغارنا جدّاً في اهتماماتنا وقضايانا الكلّيّة وأطمست بصائرنا بدرجة كبيرة ومخيفة. دعونا نرتفع قليلاً عن هذا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
عبد الحفيظ مريود
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست