حين فتحتِ الإدارة البريطانيّة مستشفى القابلات بأم درمان، وكان هدفها الرئيس تدريب قابلاتٍ سودانيّات، والعمل على تقليل المخاطر والوفيّات الناتجة عن الولادة التقليديّة، لم يستسغ أهالى أم درمان الفكرة، فقد كانوا متوجسين من كلِّ شيء يفعله الإنجليز، فعارضوا ذلك أيّما معارضة، بل أطلقوا شائعاتٍ بأنّ المسز، البريطانيّة مديرة المستشفى إنّما هي رجلٌ متنكّر في ثياب امرأة، وما ذلك إلاّ لأنّ الإنجليز يريدون أمراً بنسائنا، فقلّتْ نسبة المتردِّدات على مستشفى الدايات، حتّى جفّ تماماً. لم تجدِ المسز بدّاً غير أنْ تقنع رجال أم درمان بخطل أفكارهم، فأرسلت إلى الأعيان تطلبهم لاجتماعٍ مهم، وأعتدتْ لهم متكأً، ثمّ قامت في وسط الاجتماع وخلعتْ ملابسها جميعاً أمام أعيان أم درمان ليتبيّنوا أنّها فعلاً امرأة، وليست رجلاً. ولم تكن لتملك دليلاً قويّاً يؤكّد عكس ما أُشِيعَ عنها غير ذلك، فلم تتوانَ عن إبرازه دليلاً لا سبيل إلى نكرانه. فرجع أعيانُ المدينة الطّينيّة سيئة التخطيط إلى قومهم حاثّين إيّاهم على إرسال نسائهم للمرأة الإنجليزيّة، قبل أنْ يتمَّ تأهيل قابلاتٍ وطنيّات. في قبالة العنت الماثل أمام العالم، والذي صار سياسةً معترفاً بها، بل محرّضاً عليها من قبل الفاعلين الدوليين والإقليميين، لم يَعُد بالإمكان للبريطانيّة أنْ تثبتَ أنّها امرأة، حتّى ولو أرادتْ ذلك. فالمنظر والمعاملة التي تلقّاها مندوب قطر لدى الجامعة العربيّة وممثلها في قمّة الظهران لا يمكن وصفها إلاّ بأنّها منتهى الصفاقة والوقاحة. إذْ بدا أنّ الجميع يتحاشونه كما يتحاشون الأجرب، وذلك كلّه لأنّ أميره تميم رفض أنْ يحضر القمّة ويسلّم على الملك سلمان أمام الحشد، في مسكنة تُحسب مكسباً وإنجازاً للسعوديّة في معاركها الخاسرة جميعاً التي تتخبّطُ فيها منذ بضع سنوات. وعلى السفير أنْ يمتصَّ نزَق القيادة السعوديّة الشّابّة المتطلّعة التي أجبرتها الأوضاع على تغنمَ خيبةً وراء خيبةٍ من كلّ غزوةٍ تغزوها. يكفي أنْ يلقي المرء نظرةً خاطفة على التعليقات في الوسائط ليعرف الخيبات والسخرية التي يتلّقاها مشروع التحديث الغّر، المراهق الذي تتلبّسه السيّدة العجوز لتظهر بمظهر مغرٍ. غرّدَ دكتور تاج السّر عثمان بأنّ الحرب التي بدأت قبل ثلاثة أعوام، لتمسحَ الحوثيين من على الأرض وتعيد الشّرعيّة لليمن، جعلتِ الحوثيين يضطرون القيادة السعوديّة لتغيير مكان القمّة، أو في الحقيقة الحوثيون هم من حدّد مكان انعقاد القمّة لفرط أنّ الحرب أنجزت مهامها الجسام. والواقع أنّ دكتور تاج السّر، رجلٌ شديد الذكاء ولاذع، عميق وثاقب النّظر. يكفي أنْ تتأمّل – فعلاً – في مخرجات الحرب على اليمن، التي – بعد كلّ هذه الحشود والعتاد – لم تمسح الحوثيين من على الأرض، بل جعلت قائدة التحالف غير قادرةٍ على عقد القمّة في عاصمتها المفدّاة، التي يجرّب فيها الحوثيون نظريّاتهم، فيما ينطلق عبد ربّه، الرئيس الذي تُخَاضُ هذه الحرب لأجل إعادة شرعيته، من الأراضي السعوديّة، ليصل إلى السعوديّة مشاركاً في القمّة، ويعود بعد انفضاض سامر الأعراب، إلى مقرّ إقامته بالمملكة نفسها، فيا له من إنجازٍ سياسي وعسكري للرئيس عبد ربّه وللسّعوديّة وحلفائها. كيف تثبتُ قطر للعالم المشايع المملكة أنّها لا ترعى الإرهاب؟ كيف يثبتُ حزب الله، إيران، جماعة الإخوان المسلمين، حركات المقاومة في كلّ مكان أّنهم ليسوا إرهابيين؟ كيف تثبت سوريّا أنّها لا تملك كيماوياً لتضرب به شعبها؟ هل استطاع صدّام حسين والعراق أنْ ينفيا عنهما تُهمة امتلاك أسلحة دمارٍ شامل؟ وتمتدّ القائمة إلى : كيف تثبتُ إرتيريا أنّها لا تحشد حشوداً ولا تتجهّز لعمل عسكري ضدّ السودان؟ كيف يثبتُ الصّومال أنّه أعاد بناء دولته وأنّه يتقدّم بأكثر مما تدّعي الكثير من شبيهاتِ الدّول؟ كيف تثبتُ إثيوبيا أنّها تعمل على تطوير ذاتها وجلب الرّفاه لشعبها وليست عاملة على تهديم الآخرين؟ كيف يثبتُ كلُّ أحد وكلّ دولة أنّه/أنّها ليست ما يعتقده الآخرون؟ لا يقترب السؤال من أفق الفلسفة إطلاقاً، ولا يتوخّى السيرَ في طريقها، ولكنّه ينظر إلى برهان المديرة البريطانيّة ببعض إعجاب. وينظر فيما إذا كان من اللائق – وسط هذه الفوضى اللامتناهية – أنْ يعمد النّاس والدّول – رجالاً ونساءً – على إعادة اكتشاف الحكمة البريطانيّة ويطبّقون براهينها، عمليّاً. نشر فى صحيفة الاخبار
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة