الأعرابي حين سمع الآيةَ الكريمة (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ "، قال "لقد هجانا ربُّنا). في تأكيد أصنجٍ لما حملته الآية، إذْ لم يرَ فيها غير هجاء، في ذهنه من شاعر آخر، ليس من سبيلٍ إلى مجاراته أوِ الردّ عليه. ذلك أنّ بنية وعيه ملتصقة بالحياة البدويّة القائمة على الفخر والهجاء والمدح. لا يتعدّاه إلى نقطة يؤسّس بها وعياً بالعالم، وعياً كونياً يجعله قادراً على فهم العلاقات الرأسية والأفقية. وهو الأمرُ الذي لزمه آخرون من خارج البيئة العربيّة لتتأسّس على أكتافهم ما عُرِفَ بـ"العلوم الإسلاميّة". جاء "الآخرون" من خارج هذه البيئة ليضعوا مناهج التاريخ، علم الحديث، الجمع والتدوين، الجغرافيا، التفسير، الطّب، علم الكلام وغيرها من أعمدة الثقافة الإسلاميّة. حتّى وضع قواعد لغتهم وبحور شعرهم وغيرها جاء آخرون لينجزوها علوماً مؤصّلة. ما يجري مجرى النّقاش الذي كلّف جورج طرابيشي جهداً كبيراً ردّاً على آراء إرنست رينان، ولم يَقُلِ الرّجلُ كفراً. حين خرج الآخرون من دائرة الفعل، أو تمّ إخراجُهم، رجعتِ المنطقةُ إلى سابق جهلها بالعالم وبمقصدها الذي اختُّطّ لها. ليس ببعيد خوضها في بحور الذّلِّ قرناً كاملاً، لا تكادُ تنجز الذّود عن حياضها، أقلّه. الذي ينظرُ للقمّة العربيّة التي تجري في الرّياض هذه الأيّام، لا يملكُ إلاّ أنْ يستبشعَ الحدود التي يمكن أنْ يوصلك إليها الغباء. فالقمّة تنعقد وضمن أجندتها الرّئيسة القضية الفلسطينيّة. لكأنّ تطوُّراً مذهلاً حدث أو سيحدث في مسارها يقتضي نظراً جديداً ورؤية للتعامل معه. وفي الواقع التطوّر الذي طرأ هو أنّ ولي العهد السّعودي صرَّحَ قبل فترة قصيرة، أسابيع فقط، بالقبول بمبدأ الدولتين. وهو اعترافٌ صريحٌ بحقوق إسرائيليّة أو اعتراف بإسرائيل وحقوقها. وهو تطوُّر في الموقف السّعودي، أو هو جهرٌ لما كان يُهمَسُ به في المجالس واللقاءات الخاصّة. وعلى رأي محمد أبوالقاسم حاج حمد، لا تطبيعَ إلاّ بالسّعوديّة، فقد مضتِ الأمور إلى النقطة التي ستبدأ فيها السّعودية تجرجر وتقود القطيع للتطبيع والاعتراف بالكيان الإسرائيلي، ما يعني المزيد من إهمال القضية الفلسطينية، أو التخلّص ما تبقّى منها كـ"خرقةٍ مثقِلَة"، بتحريف غير مخلٍّ لعبارة الشاعر العراقىّ الكبير مظفّر النوّاب. والواقع أنّ التمايز في المسائل المصيريّة للأمّة العربية والإسلاميّة لم يكن بهذه الحدّة من قبل. فقد كانت هناك مواقف رماديّة يتلبسها من هم الآن في قيادة معسكر التطبيع والتخلّي الكامل عن القضايا المصيريّة. لكن التحوُّل من الرّمادي للأسود الذي جرى اليوم هو حصيلة لسلسلة من التمايزات بدأتْ بمشروع مكافحة الإرهاب وكسر الجماعات الإرهابيّة. التي تعنى في حال فلسطين، الإخوان المسلمين "حماس"، الجهاد الإسلامي، وغيرها. وهو بالضرورة الخطوط الكبرى التي تمدّها وتعينها على الصمود كقضية مبدئية، يعني حزب الله في لبنان، سوريا، الأغلبية المؤكّدة للمكوّنات اللبنانية، إيران. وكما لا يخفى على أحدٍ فإنّ المشروع يستهدف – منذ البدء – كسر عناد المقاومة والصّوت الفاضح الذي سيشكّلُ ضميراً للمعسكر الذي تقوده السعوديّة وخرجت به من السّر إلى العلن. لقد تمّ القبول بصناعة الفزّاعات في المنطقة، وقامت السّعودية باستقطاب أنظمة ضعيفة وأخرى لاهثة وراء اللقمة غير الحلال، إضافة إلى أنظمة معتّقة في الخيانة والتحلّل من التزامات الأمم. فتمّ تصوير إيران فزّاعة، و"أذنابها في المنطقة" من النّظام السوري، حزب الله، الحوثيين، الإخوان المسلمين، الذين يخوضون حرباً بالوكالة فيما تمدُّ لهم إيران ما يقلقلون به منام بني أميّة، وبقيّة الشجرة الملعونة في القرءان، الذين "حلِيَتِ الدّنيا في أعينهم وراقهم زبرجُها"، كما يقول الإمام علي. القمّة ستضع الحصان أمام العربة، باتجاه "صلاة الجماعة" التي ستجلب "التحديث الظاهري" للملكة في إطار المُلْكِ العضوض، الذي سيتطلّب مزيداً من الأثمان الباهظة، الواجبة الدّفع، فيما يلمّظ اليهود طلباً للمزيد. نشر فى صحيفة الاخبار
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة