كثيرون لا يهلّلون لصعود أبى أحمد رئيساً لوزراء إثيوبيا، كأوّل مسلم. باعتباره لن يغيّر البنية الصّلدة للوضع الدّاخلىّ لإثيوبيا. وحقَّ لهم أنْ يفعلوا ذلك. مثلما يحقُّ للكثيرين أنْ ينظروا للأمر من زاوية مختلفة – وهم على درجة كبيرة من الصّوابية – فيعتبرون صعوده مؤشّراً لأفول نجم القوى الحديثة المتحالفة التى تقود البلاد. وخلافاً لرؤية د. هانى رسلان، المصرىّ "الخبير فى شؤون السّودان وإفريقيا" – وهو العنوان الرّسمىّ الذى يتحرّك ضمنه – الرامية لكبح جماح المتفائلين لكون الدكتور أبى أحمد رجل أمريكا بالدرجة الأولى وهى التى عملت على تصعيده، ضمن علاقات غرق فيها وقت عمله فى المنظمات الدّولية، وبالتالى فهو يُعتبرُ امتداداً للخطّ القديم الذى ابتدره مليس زيناوى منذ بدء التسعينات. والشاهد أنّ مليس زيناوىّ لم يكن يمثّل تيّاراً ليبراليّاً متأمركاً. فقد كان يتحرّك فى أفق المصلحة الوطنيّة والهويّة الإفريقيّة النابذة لكلّ امتهان واستتباع للقارّة من أيّة جهة. ولم يعد يخفى دور المخابرات العالميّة (الأمريكيّة والإسرائيليّة) فى التخلّص منه، باعتباره يعضّدُ ويستأنف وعياً إفريقيّاً غير مرغوب فيه، سيعيد ذكرى وسير القادة الأفارقة العظماء. لكنّ مليس لم يكن عاصماً لقوميّته التقراى من الإنزلاق نحو الإستئثار بالسّلطة ومفاصلها. فقد تمّ استخدام اسمه وكاريزميّته فى تأسيس أحقيّة عرقيّة بشؤون البلاد – مثل دول القرن الإفريقىّ بلا استثناء، بما فيها السّودان – تقصى الآخرين وتؤخّر تقدّم تياراتهم التى كانت ستتافس على أسس الكفاءة والحراك الديمقراطىّ والتنموىّ. وهو شيئٌ – وإنْ لم يكن لمليس يدٌ فيه – إلاّ أنّه حرّك مقومةً وتجوهراً عرقيّاً مواجهاً، من لدن الأمهرا، الحكّام التقليديين، إلى الأرومو، الأكثريّة الساحقة، إلى القوميّات الصغيرة من العفَر والقراقى وبنى شنقول وغيرهم. متفاقماً هذا الحراك المواجه، حتّى وضع رئيس الوزراء المستقيل دياسلين أمام خيار صعب، متّقياً نذر مواجهة أكثر عنفاً وأشدّ وطأة. لكنّ اللبوس القومىّ والعرقىّ ينبغى ألاّ يصرف أنظار القارئين للوضع هناك عن المستوى الدّينى فى الحراك. فالعالم المسيحىّ الأوّل، من لدن البابوية، يعمل منذ قرنٍ أو نحوه على ألاّ يخسر "سوبا" مرّة أخرى. فالجزيرة المسيحيّة محاطة بالمياه الإسلاميّة من كلّ الإتّجاهات. حتّى وإنْ بدا أنّ الوضع فى إرتيريا مساندٌ لها. وهو أمرٌ سيعمل على إعاقة تقدّم كلّ حراك يلبس أثواب الإسلام، بل تعدّى الأمر على إعاقة تقدّم الأفراد المسلمين، حتّى وإنْ كانوا ينتمون إلى قوميّات مسيطرة (التغراى – الأمهرا بدرجةٍ أقل)، بمعنى أنّ العامل الدّينىّ ظلّ حاضراً على الرّغم من الجهد فى إخفائه، والعمل على تأكيد التسامح الدّينىّ والحرّيات على مستوى العامّة وعلى مستوى المنظمّات الأهليّة والتكتّلات. لكنّ الأرومو يعدّدون حصاراً وتنكيلاً واعتقالات واغتيالات لأئمة ودعاة منهم حاولوا – على فترات متفاوتة – التحدّث عن الطابع الدّينى للإقصاء واللامساواة وتضليل العالم على أنّ ما يجرى هو إحتجاج قومىّ إثنىّ ومظالم تنمويّة يصّعدها الأرومو. والرّصد الدّقيق يكشف عن استهداف واضح لئلاّ يتقدّم شخص أو تيار دينىّ لأنّ النّظام علمانىّ، ولكنّه جوهريّا ينتصر للمسيحيّة ويسعى لتأكيدها ديناً رسميّاً للبلاد، ولا تجدُ المؤسّسات الدّينيّة الإسلاميّة ما تجده الكنيسة فى إثيوبيا من تفخيم وترميز يجعلها متسيّدة على المشهد الدّينى بلا منازع. لذلك – مهما قلّل القارئون لصعود أبى أحمد – فإنّ تغييراً راديكاليّاً سيبدأ فى إثيوبيا القادمة. فالصّعود هذا إشارةٌ أولى فى ظلّ تنامى الوعى المختلف للأكثرية المنتميّة للأرومو، وللتحالفات المسلمة القادمة، ففى المناخ المتّحد الذى تعيشه إثيوبيا، وفى ظلّ تناقص عمليات القمع وتراجع الدّولة البوليسيّة ستعمل الأغلبية الناهضة على استخلاص وضعها المقبِل، فارضةً إختلافها تحت سقف الدّستور. ومما لا شكّ فيه أنّ الإسلام التقليدىّ للإثيوبيين سيولّى، مخلفاً السّاحة لإسلام سيتحرّك متحالفاً هو الآخر مع مراكز القوى الإقليميّة والدّولية، لقيادة دولة اسلاميّة قادمة. نشر فى صحيفة الاخبار
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة