البديل الذي قدمه الإمام المهدي لإلغاء المذاهب وإيقاف نشاط الطرق هو العمل بما جاء في المنشور المهدوي، وفي المنشور تعاليم محددة، ليست في حجم القرار بإقصاء مذاهب الفقه وإلغاء تجارب التطرق من المجالين الروحي والاجتماعي. لقد سيطرت فكرة رفع العمل بالمذاهب على قائد الثورة في سياق تمثُّله وولائه لسيناريو المهدية الصوفي الذي حدّث عنه إبن عربي.. والمهدي لا يتخلى عن الانتقائية حين يعلن تمثّله لذاك السيناريو، لأن فكرة رفع العمل بالمذاهب تأتي كخطوة لازمة فى سياق تأويل النص، أي تأويل القرآن، وفق ما بشر به ابن عربى على يد المنتظر. أكثر من ذلك، فإن فكرة رفع العمل بالمذاهب، وردت عن الشعراني كذلك، تم تحويرها على يد المهدي في سياق عام، تحت عنوان عريض مدلوله أنَّ هناك فرقاً بين الشريعة والحقيقة.. الشاهد أن المهدى اكتفى بالإشارة لجوهر فكرة الشعراني، ولم يعلن (تعطيل الشريعة عن العمل بالكلية)، كما يقرر الشعراني.. يقول الشعراني (إن نور الحقيقة كلما ظهر غاض نور الشريعة، فاذا استعرت شمس الشريعة فهو سلطانها، وبعد ذلك ظهور سلطان غيرها على يد المهدي).. أنظر: الإبريز، ص331-333.الوعد عند الصوفية على هذا النحو، ولكن، ما كان للإمام المهدي أن يؤثر البوح الكامل.. ما كان له إلا إعلان الفكرة بمواربة صراحتها، لأن صراحتها وشفافيتها لا تطاق عند أهل عصره، لأن الصراحة المُطلقة في ميدان العقائد قد تجلب مردوداً سالباً على الأهداف الثورية المعلنة! لذلك، يمكن القول، أن المهدي (لطَّفَ) خطاب الصوفية هُنا، فأخرج الفكرة من سياقها، ولم يقرأ منها إلا عنوانها الذي يدعم جدارته بأمر المهدية، فاختار بذلك الوجه المادي للثورة على الوجه الفكري، ليساير مزاج وطبيعة مقاتلي القبائل، عله يجد الوقت بعد الانتصار، لصياغتهم من جديد.. على هذا جاءت سنوات الثورة الأربع، كما يقرر محمد سعيد القدال، في كتابه (تاريخ السودان الحديث، ص129)، جاءت مليئة (بالعاطفة والإيمان والحركة والقوة)، أقنع الإمام العامة خلالها بأنه الأحرص على الدين ودفع الصوفية إلى استساغة إلغائه لنشاط الطرق وأورادها واستعاضتها بـ(راتب المهدي)، وسخّرَ زخم المغبونين طالبي القصاص من الاتراك وجيّشَ المتأهبين للقتال على عادة فرسان القبائل.كان المنشور خطاباً يعبر عن رؤية الإمام المهدي للدين والشريعة، وهو استهدف به أحبابه ومن لا يرهقون عقولهم بالبحث عن التفاصيل، ويطلبون من الفكرة شعارها العريض، وإن قرأوا يقرأون من الكتب عناوينها، فكانت كفايتهم من الثورة أن يقاتلوا تحت راية مهدي الله.. وليس في ذلك عيب ولا منقصة في حق الإمام الذى قرأ بذكاء مستوى الوعي العام والحالة الثورية، فلم يكن له إلا أن يذهب في هذا الاتجاه، ويخاطب الناس على قدر عقولهم. لم يجد الإمام متسعاً لشرح فلسفته المهدوية، بالتالي لا يمكن وصفه قائداً لـ(حركة تصحيح مذاهب التصوف).. إنَّ وصف المهدية كثورة تصحيحية للتصوف غير دقيق، لأن التثوير ليس الأداة المناسبة لإنزال التصحيح في المجال الفكري، أنظر: مكي شبيكة، السودان عبر القرون، ص272.. ذلك، أن الظرف الثوري واضطرار القائد للإنتقاء وإعمال الذرائعية قد أيبسَ محاولات التربية الفكرية، فلم يخرج من معيته تلامذة، بل مقاتلون! akhir-lahza
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة