بدأت السفر المهدوي من جزيرة لبب، التي غادرها المهدي ملتحقاً بإخوته نجّاري المراكب في كرري. بدأ منذ صباه الاختلاف إلى مشايخ العلم في الخرطوم وبربر والجزيرة. حدثت الطفرة في حياته أثناء مشاركته في بناء قبة الشيخ القرشي ود الزين، حيث التقى هناك بالخليفة عبد الله التعايشي، ثم دخل في سفر جديد طائفاً ربوع كردفان والجزيرة ليستقر في الجزيرة أبا ويرحل منها بأنصاره إلى جبال النوبة، فالأبيض، فالخرطوم التي سقطت تحت قبضته في العام 1886م، كل هذه الرحلة الطويلة بالدواب، يتخللها التحصيل العلمي والدعوة، وإعداد الجيش والتخطيط للحرب، إلخ، إلخ.. كل لك والفتى لم يتجاوز عمره الثالثة والأربعين. جدد المهدي عهده بالطريق السماني وشرع في أبا يُعلِّم الناس كما تعلّم هو، فاشتهر كعابد ورجل صلاح تتغشاه المراكب والقوافل للتبرك به. وبإتباع التعاليم التي سار عليها الصوفيون التقليديون، وعن طريق تبحره في دراسة الطريقة السمانية غدا شخصاً مشهوراً لدى العامة. ما أن أعلن مهديته على قاعدة إنتمائه الصوفي حتى تقاطرت إليه الوفود تبايعه بأروحها لإقامة العدل، أو الشريعة، أو الدين... كل هذه الألفاظ تدل في ذلك الظرف الثوري على ابتغاء التغيير، مرتكزاً على الثقل العقدي دون ضبط المصطلح حال استخدام تلك الألفاظ وغيرها. المهدية في السودان هي رؤى قائدها في تفسير بشارات الصوفية بمجئ المنقذ، وهي ردة فعل على الجور التركي ونتيجة لإحساس السودانيين بالظلم. كانت فكرة التحرر من الاستعمار هي الفكرة المحورية التي دارت حولها رؤى القائد منطلقاً من ثقافته الدينية لإعادة ترتيب الواقع. تحكم تفسير الإمام المهدي للمهدية في مسار التجربة، وكان رأس رمحها، بمعنى أن شخصية الإمام كانت عاصماً من انزلاق الثورة الحاد نحو القبلية، يتنكب فهم المهدي للتصوف كثقافة للغلبة.. اتخذ المهدي من شياخة الطريق خطوة أولى نحو الإصلاح، فقام بالتطواف في أقاليم السودان يستقريء الأحوال ويتصل بالناس ورجالات الدين والقبائل ويبني معهم علائق روحية واجتماعية، وكانت هجراته تلك في سياق الإلتزام بالسيناريو المشاع سلفاً في البشارة وتأسياً بالسيرة النبوية. أَسَرَّ خلال ذلك التطواف لخاصته بأمر المهدية، وأن..”الحضرة النبوية” قد نصبته خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم.. انتقل المهدي إلى المجاهرة بالدعوة، فرأت فيه الحكمدارية مجذوباً لا خطر له، لكن أعداءه وكثافة اتصالاته بزعامات التصوف والقبائل ولغته الجريئة، كل ذلك أحدث صدى داوياً في أفق الترقب والانتظار ألبت الحكمدارية عليه، وأرسلت وفداً لاستجوابه واستدعائه من أبا إلى الخرطوم.. في المواجهة الأولى مع مندوب الحكمدارية رفض المهدي الانصياع لأوامر الحكومة بالعدول عن دعواه قائلاً: “أنا ولي الأمر الذي تجب طاعته على جميع الأمة المحمدية”.. أنظر إسماعيل عبد القادر الكردفاني، سعادة المستهدي، ص118. بعد هذا التحدي كان على المهدي أن يستعد للخطر، فالحكمدارية لن تبتلع خروجه عليها، فكان أن جمع تلامذته ومريديه لخوض المعركة العسكرية الأولى، وهي معركة ذات أبعاد دينية ووطنية. وزع الامام المهدي حشده الصغير تحت خمس رايات كتب على كل راية اسم ولي من أولياء التصوف العظام، في معنى التبرك بهم واتِّباعه لهم كأحد الناهلين من الحوض.. هذا الرباط المعلن بين المهدية والتصوف تهلهلَ حين ألغى الإمام المهدي الطرق لصالح إنشاء رافده الخاص، لتكون المهدية إطاراً عقائدياً يبتلع كافة الولاءات الروحية والاجتماعية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة