(قال الرئيس المشير البشير منذ أسابيع إنه "فتر" ولن يترشح للرئاسة في 2020. وهذه كلمة قديمة عن ما يتفق للبشير من استدبار الولاية ثم لا يتفق له)
توقفت طويلاً عند كلمة الرئيس البشير عن استعداده للتنحي عن الحكم إذا كان من شأن ذلك حفظ بيضة الوطن. وتمنيت ان يكون قد قصد بالفعل ما قال. ولا ألح على ذلك لأنني أريد للبشير أن يورينا عرض اكتافه. فقد كنت ربما أول من اخذ البشير بجدية مرتين: يوم برز في الاعلام بعد نصره في معركة ميوم في الجنوب في 1988 وبعد مرور عام من الانقلاب. وفي المرة الأخيرة التمست منه أن ينهض بمبادرة للصلح الوطني لا يسوق فيها المعاذير (انظر كتابي "الارهاق الخلاق"). وقال لي الحلقامة من اصحاب نظرية التفسير الترابي للتاريخ إنك تحلم لأن البشير القناع والترابي هو الوجه. وكذب المنجمون.
سببي للعودة الي الكلمة التي قالها البشير عن تنحيه أنني اريد ان أتأكد أنه قد وطن نفسه على اتخاذ أقسي القرارات للم شتات البلد. فليس اقسي على النفس من الاستقالة طواعية للصالح العام. وقد أشفقت علي الرئيس مؤخراً حين بدا خصومه في المعارضة تداول مشروعات للتخلص منه. فقد عادوا الي فكرة أن تكون الرئاسة خلال الفترة الانتقالية من مجلس سيادي دوري القيادة. وهي فكرة انصرفت عنها معظم الأحزاب وتبنت نظام الرئاسة الأمريكية الا الحزب الشيوعي. ويبدو أن نقص أريحية البشير في إدارة الوفاق الوطني هو الذي دفع المعارضة الي مشروع المجلس الرئاسي. وكلنا نشهد أن المعارضة منذ مالت الي الحل السلمي قبلت بقيادة البشير وكانت من أفضل مؤيديه ضد خصومه في المنشية. غير أنها وجدت البشير عازفاً عن وضع لمسته الشخصية على الوفاق. وهي لمسة ودودة وحارة كما حكي لي سائق تاكسي من جيل البشير في كوبر وجيرته. وترك الرئيس أمر تراضي الوطن على غارب بيروقراطية الدولة والحزب. فحتي لقاؤه الأخير لإنعاش المصالحة كان بارداً ومعاداً يقدم فيه قدماً ويؤخر أخري.
لقد قاومت دائماً تفكيك الانقاذ لا لأنها نظام حسن بل لأن التفكيك حيلة معارضة لا في العير ولا في النفير. ولكن إذا قرر قائد الانقاذ أن دولته قد تذهب فداء للوطن فهذه بشارة أنه قد استعد للقرارات الصعبة التي قد لا تصل بنا بالضرورة الي استقالته. فكل حل لأزمة البلد في وضعها الراهن يشطب الانقاذ هو قفزة في الظلام. وهذا ما سلم به الاوربيون والامريكان بعد لأي. والقرارات الصعبة سمة الحكم حين تقف الامم على جرف هار. وقد سبق لي الحديث عن مثل هذه الفترة في تاريخ أمريكا. فقد دب الخلاف بين الأمريكيين بعد نيل استقلالهم واضطربت الاحوال. ولما فشلت الحكومة في تدبير البلاد اعلنت عجزها على الملأ في 1787 ودعت الي مؤتمر دستوري هو الذي أرسي وحدة الامريكيين الي يومنا هذا. وقال توكفييل الفرنسي مؤلف "الديمقراطية في أمريكا المشهور، إن اعلان الحكومة عجزها للناس هو واحد من أسعد فصول السياسة الأمريكية.
اتمني ان يكون الرئيس قد عنى ما قال عن التنحي لا في معني الاستقالة بل في معني اتخاذ أصعب القرارات لإنفاذ المصالحة بلمسته هو لا لمسة الدولة أو الحزب. فقد أزعجني في الانقاذ دائماً أنها منطوية على فكرة تسليم الحكم لعيسى. وتحضرني، كلما خطرت لي كنكشة الإنقاذ، نادرة من أيام سكناي في جبرة في أول الثمانينات. فقد ركب في البرنسة 12 راكباً من الخرطوم ولم ينزلوا الا عند آخر محطة. وكان السائق يغلي من الزعل لهذه الفردة الصماء. فنظر الي الركاب بعد نزولهم وقال" إنتو جايباكم فاتحة واللا شنو؟". أتمنى أن ينزل الإنقاذيون من برنسة الحكم قبل بيت الفاتحة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة