أتذكر في منتصف التسعينات عندما كنا حضورا بين قيادات المعارضة، حضر إلي في " المركز السوداني للثقافة و الإعلام" الصحفيان المصريان " خالد محمود و خالد محمد علي" من جريدة " الأسبوع" التي صاحب أمتيازها و رئيس تحريرها الأستاذ " مصطفي بكري" و من هنا نتعرف علي هويتيهما الانتماء للتيار الناصري، فحضرا لكي يتعرفان علي تفاصيل مؤتمر القضايا المصيرية، الذي كان قد عقد في أسمرا عام 1995، و لكن توطدت علاقتي بهما، و ظللنا نتقابل باستمرار في مقاهي و أندية القاهرة المنتشرة. و الأستاذان رغم وحدة الإنتماء الحزبي، إلا إنهما يختلفان فكريا في بعض الأشياء، كان الأستاذ خالد محمود أشتراكي النزعة التي تجعله في خلاف مع أستاذ خالد محمد علي ذو الملمح الإسلامي، فكان الحوار بيننا دائما ينحرف إلي قضية الحرية و الديمقراطية و أثرهما في المرجعيات الفكرية في الأحزاب في الوطن العربي، و خاصة التيارات الأيديولوجية أن كانت قومية أو إسلامية أو ماركسية، و كان يعترضان علي مقولة التنوع في المجتمع، عندما يسمعان النخب السودانية يتناولوها في حديثهم، و ما تحمله هذه الكلمة من مضامين مختلفة و متباينة، و يقولان الهدف منها هو كيفية الدخول لتفتيت الأمة العربية و الإسلامية. و في يوم حضرا إلي في المنزل و قالا إنهما إجريا لقاء صحفيا مع الأستاذ أحمد عبد الحليم سفير السودان في القاهرة، و طلبا منى أن أرتب لهما لقاءات صحفية مع عدد من قيادات العمل السياسي المعارض، و كانت قائمتيهما تحمل أسماء " السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة – محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي – التجاني الطيب مسؤول العمل للحزب الشيوعي بالخارج– و دنيال كودي مدير مكتب الحركة الشعبية بالقاهرة، و بالفعل أجريا اللقاءات مع الجميع ماعدا الميرغني، و كان بديلا عنه السيد محمد الحسن عبد الله يسن. و قالا إنهما قد أخذوا فكرة متكتملة عن القضية السودانية و قضية الصراع حول الحرية و الديمقراطية. فقلت لهم هذه نظرة تحمل جانبا واحد، و أحمد عبد الحليم لا يمثل الجانب الأخر السياسي، إنما يمثل رؤية حكومة، و قلت لهم يجب أن تسافرا إلي الخرطوم و تلتقيا أيضا بالقيادات السياسية في المعارضة في الداخل و قيادات النظام الحاكم، و عرضا فكرة السفر للخرطوم لرئيس تحرير جريدتيهما، و رغم إنه وافق علي الفكرة لكنه تماطل في التنفيذ، و أعطيتهم فكرة الذهاب إلي المحلق الإعلامي و يعرضا عليه الفكرة، كان المحلق الإعلامي في ذلك الوقت الأستاذ عبد العظيم عوض الأمين الحالي لمجلس الصحافة و المطبوعات، و قلت لهم أننا اشتغلنا سويا في الإذاعة أكثر من عقد من الزمان، و هو يتفهم العمل الصحفي، و بالفعل رتب لهم عبد العظيم عوض زيارة للخرطوم مدة شهر كامل التقيا فيها مع قيادات أغلبية القوي السياسية، و زارا عددا من الجامعات السودانية، و حضرا المنابر الخطابية الطلابية، و بعد شهر عادا إلي القاهرة. عاد الأستاذان الصحفيان إلي القاهرة دون القناعة التي الذهبا بها، و كان الإندهاش يرتسم علي وجهيهما، و يظهر بقوة في حالة الارتباك في عدم ترتيب الأفكار، فقال خالد محمود أننا بالفعل زيارة السودان أحدثت فينا تحولا كبيرا إذا كان لنظرتنا للقوي السياسية السودانية التي تطالب بالحرية و إعادة النظام الديمقراطي، أو للخلاف بين العقلية العربية التي تنادي بالتحرر و الديمقراطية، و العقلية السودانية في نظرتها السياسة لذات القضية، و قال خالد محمد علي إن سقف الحرية التي ترفعه القوي السياسية السودانية سقفا عاليا، لا تستطيع أن تعقله العقلية العربية في منظومتها الفكرية و السياسية، إذا لم تعيش الواقع السوداني بجزئياته و تفاصيله، فقال بحكم التركيبة الاجتماعية في مصر و ضعف القوي الديمقراطية في المجتمع، إن القوي المدنية لم تحدث التغير في المجتمع، إنما ثورة 23 يوليو هي التي أحدثت التغيير الاجتماعي باعتبارها قوى عسكرية و ليست مؤسسات مدنية،، لذلك ألأغلبية تنتظر أن يحدث التغيير من خلال السلطة، و هنا يأتي الإختلاف بين أن تحدث السلطة التغيير و التطور في المجتمع، و بين أن تحدث القوي المدنية التغيير، فالأخيرة عندما تحدث التغيير يعني ذلك إن الشعب وصل مرحلة من الوعي لا تستطيع أية قوة أن تجعله يتراجع عن برنامجه، و لكن عندما تحدث السلطة التغيير، فأي التغيير يصبح تغييرا في وجوه السلطة، ربما تحصل الردة و هذا ما حصل بعد موت الرئيس عبد الناصر. فقالا إن شعارات الديمقراطية و الحرية التي تناضل من أجلها القوي السياسية السودانية لا تشبه تصوراتنا، إن كانت في مصر و العراق و سوريا أو في غيرها من الدول العربية، و هنا كتمن إشكالية الحركة الإسلامية السودانية، باعتبار إنها لم تدرس واقع مجتمعها و تصورات نخبه، و لم تطور فكرها لكي يستوعب هذا التطلع للنخبة السودانية، لأنها تأثرت بتيارات الفكر القادمة من مصر، فهي ترسم تصوراتها ليس في رفض نظام الحزب الواحد، إنما تريد أحتكارية السلطة، و هي إذا لم تستوعب ذلك تكون حكمت علي نفسها بلإنهيار. فقال خالد محمود إن الزيارة سوف تجعلني أعيد الكثير من القناعات السابقة، باعتبار إن قضية الوحدة العربية التي تؤمن بها، لا تتم من خلال شعارات عاطفية، هنا و هناك، فالقضية تحتاج لدراسة حقيقية لمعرفة رغبات المواطنين في كل قطر، و أين نجد أماكن الخلاف و التقاطعات و التقاربات، فمثلا لا يفهم الشخص الأخوة السودانيين عندما يتحدثون عن الحرية و الديمقراطية، فهؤلاء لا يريدون تغيرا يحدث داخل النظام القائم، إنما تغيير شاملا يكون بديلا للنظام القائم، لكي تؤسس رؤيتها للحرية و الديمقراطية بسقوفها العالية، فالسقوف هي التي تحدد الآدوات التي تستخدم لعملية التغير. فحالة الاندهاش التي أصابت الأستاذين تجعلنا نطرح سؤلا مهما: هل النخب السودانية علي أختلاف مدارسها الفكرية تعلم إن سقوف الحرية و الديمقراطية التي ترفعها بهذا العلو الذي يجعلها غير ممكنة؟ أم إن استيعاب النخب السياسية لتصوراتها لم تكتمل بعد؟ فالنخب السياسية السودانية، و خاصة التي ترفع شعارات الحرية و الديمقراطية، لم تقدم من الدراسات و الأفكار ما يخدم هذه القناعات، و لم تؤسس لثقافة ديمقراطية تساعد المجتمع علي التحول، كما إن هذه النخب نفسها أكثر خيانة لشعاراتها فهي الأكثر هرولة للنظم الشمولية من بقية فئات الجتمع الأخرى، الأمر الذي يؤكد إن ملاحظة الصحفيان لم تكن دقيقة، حيث إن الخطاب السياسي و السماح بهامش حرية مغاير لبلدهم أعطاهم هذه القناعات الجديدة. و إن كانت الشعارات المرفوعة في السودان ذات السقوف العالية تهزمها الممارسة اليومية، إن كانت في الأحزاب، أو حتى في المؤسسات التعليمية و البحثية، فالولاءات الناتجة عن ظروف أجتماعية مختلة أو نزاعات دائما لا تعطي البعد الحقيقي للإيمان بهذه الشعارات. فالقضية بالفعل تحتاج إلي درسة متأنية و حوار بعيدا عن العواطف الإنتمائية. و نسأل الله حسن البصيرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة