دخل الشاب على مدير المؤسسة، وكله أمل ورجاء ودفع بورقة تحمل طلباً .. من وراء النظارة الطبية كان المدير يحدّق في الطلب الذي يشبه الاسترحام.. كان الموظف يطلب تحويل نحو (٩٠٪) من راتبه إلى مصرف متخصّص في تمويل الأسرة.. هذا الشاب سيقبض ركشة مقابل تخليه عن راتبه لعدة سنوات.. حينما انصرف الشاب كان المدير يشرح المأزق مصحوباً بتجربة شخصية.. في أغلب ظن المدير أن هذه الصفقة ستنتهي بخسارة كل الأطراف.. سينشغل الموظف مع الركشة ويهمل العمل.. في سوق منافسة شرس ستنتهي الركشة مثل بروة الصابون.. حتى البنك المموِّل ربما لن ينجح في استخلاص كل أمواله ويذهب الموظف إلى سجن ينتظر مع غيره الحظ الحسن. تذكرتُ تلك التجربة بعد أن وصلت هذه الممارسة للقصر الرئاسي.. حسب صحيفة "الصيحة"، رعى وزير الدولة برئاسة الجمهورية حفل توزيع وسائل إنتاج للعاملين بالقصر الجمهوري.. مدير فرع أحد البنوك التجارية أعرب عن استعداده لدفع مزيد من الأموال لتشجيع الموظفين على امتلاك الركشات وأخواتها من آليات الإنتاج.. ذات الاحتفال الذي شهده القصر الجمهوري يتكرر في جميع المصالح بشكل أو بأخر.. الغريب في الأمر أن اتحاد عمال السودان يمثل الراعي الرسمي لهذه الممارسة التي في زعمي لم تتوافر لها دراسات جدوى جيّدة. قبل سنوات انتبهتْ الدولة لخطر هذه الركشات فأوقفت استيرادها جملة وتفصيلاً.. الركشة مهدِّد بيئي بما تفرزه من غازات سامة وما تستهلكه من وقود وزيوت.. كما أنها تشجّع على الزحام في الطرق بسبب سرعتها البطيئة.. حتى من الناحية العملية لا تساهم الركشة في ترحيل عدد كبير بسبب حمولتها المحدودة.. أما أكبر المهددات لتجربة الركشة فهي ضعف وسائل السلامة.. أي حادث صغير يمكن أن يتحوّل إلى مجزرة تُراق فيها كل الدماء. التوسُّع في تمويل قطاعات الموظفين في الدولة فيه انحراف عن مشروع التمويل الأصغر .. هذا المشروع حسب المخطَّط له كان يستهدف شرائح الشباب الذين سُدَّت في وجوههم فرص التوظيف.. كما كان الهدف الوصول لشرائح ضعيفة في الريف لا تتقن فنون الوصول للتمويل المصرفي.. بل إن الأستاذ عبد الرحيم حمدي صاحب الأطروحات الجريئة في الاقتصاد دعا لتقليل القيود على التمويل الأصغر حتى وإن عجز المستفيدون عن السداد.. حسب رأي حمدي أن التمويل الأصغر إن تمت إدارته بشكل جيد سيساهم في تحريك الاقتصاد. في تقديري أن الانحراف بالتمويل الأصغر عن أهدافه والتركيز على مشاريع الركشات وراءه جهة نافذة جداً.. بل إن تمويل الموظفين يضمن عائدات للمؤسسات التجارية التي نشطت في هذه التجارة الرابحة خاصة بالنسبة للوكلاء الذين يحققون أرباحاً تصل أحياناً ‘لى (٤٠٪) عبر توفير آلية التمويل.. بعد سنوات قليلة عبر هذه الآلية سيكون لكل مواطن ركشة.. سيمتلئ الهواء بالغازات الملوثة وتزدحم السجون بالعملاء المعسرين.. حتى الخدمة المدنية ستتضرَّر حينما يغيب الموظف بسبب عطل أخذه وركشته إلى المنطقة الصناعية. بصراحة.. إن لم تنتبه الحكومة لهذه الممارسة السالبة سيتجدد جرح سوق المواسير الذي حدث قبل سنوات بالفاشر.. هذه المرة سيكون هنالك سوق مشابه في كل مدينة سودانية . assayha
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة