من كان يصدّق أن من بين شباب وفتيات هذا المجتمع المسلم يخرج بعض الشّذّاذ فيعلنون أنهم «ملحدون»!! وأنهم «لا دينيّون»؟!! ومن كان يتوقع أن هؤلاء الشذاذ يجاهرون بذلك فيفتحون مواقع تواصل باسم «سودانيون لا دينيون»؟!
فإنّ موجة إلحادية مدمّرة قد غزت بعض الناس من الذين لم يكن لهم تحصين علمي أو ديني يواجهون به الشبهات أو الشهوات، وبات الإلحاد خطراً جاثماً في مجتمعنا، فاحتاج إلى التصدّي له، ومن باب الإسهام في هذه القضية رأيت أن ألخّص بحثاً قيّماً أعده زميل الدراسة فضيلة البروفيسور صالح عبد العزيز سندي أستاذ العقيدة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ورئيس مركز «يقين» لمواجهة الإلحاد بعنوان: «الإلحاد وسائله وخطره وسبل مواجهته»، فإنه بحث قيم وفيه تعريف موجز بالإلحاد وأسبابه وسبل مواجهته، وبعد عرض ما يتيسّر من هذا البحث للتعريف بالجوانب النظرية ألقي الضوء على جوانب مهمة من واقع بعض من وقعوا فرائس للإلحاد في بلادنا، حتى تتحقّق التوعية الواجبة في هذا الجانب الخطير ببيان وسائله وسبل مواجهته، فإلى موجز هذا البحث: الإلحاد في اللغة: الميل عن القصد. وأما في الاصطلاح: فإنه إنكار وجود الله تبارك وتعالى. والملحدون: هم الذين لا يؤمنون بوجوده جل وعلا، بل وحدانيته في ربوبيته وألوهيته. وهؤلاء الملاحدة يقولون: إن الكون وُجد بلا خالق، والمادة أزلية؛ هي الخالق والمخلوق معاً، وبالتالي فإنهم يكفرون بالرسل ويجحدون الأديان. وفي الجملة هم صنفان: الصنف الأول: من يعتقد بنفي الله جل وعلا. الصنف الثاني: وهم الذين يطلق عليهم: اللاأدرية، وهم الذين يقولون: لا ندري، هل يوجد رب خالق أم لا؟ ويجمع هؤلاء وأولئك عدم الإيمان بالخالق جل وعلا، لكن هؤلاء مع شك، وأولئك مع جزم. والبحث والواقع يكشفان أن معظم المفكرين الذين أعلنوا إلحادهم لم يتمتعوا بصفة الإلحاد الموجب ـ كما يقولون ـ؛ أي أنهم لم يستندوا إلى نظريات علمية، وإنما هم ملحدون إلحاداً سلبياً، وذلك أنهم يُبدون ــ فقط ــ عدم قناعتهم بأدلة وجود الله. وفي هذا يقول أحد الفلاسفة الفرنسيين وهو «موريس بلوندل»: ليس هناك ملحدون بمعنى الكلمة. وليس ببعيد عمن ذكرت طائفةٌ من الملاحدة الفلاسفة الذين قالوا بإثبات خالق للكون لكنهم زعموا أنه تخلَّى عنه أو فَنِي بعد أن خلقه وتركه يسير بنفسه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. ما أعظمها من جريمة! فالله سبحانه يقول: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا «88» لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا «89» تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا «90» أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا»؛ فكيف بمن جحده بالكلِّية؟! ومعلوم أن وجود الإلحاد قديماً في الناس قليل؛ إذ لم يذهب إلى إنكار الله سبحانه وتعالى في القديم إلا شرذمة قليلة من البشر، من أشهرهم: فرعون حينما قال: «وما رب العالمين». وذهب إليه كذلك طائفة من الفلاسفة، وكذا طائفة من مشركي العرب الذين يطلق عليهم: الدَّهرية؛ وهم القائلون بقدم العالم وإنكار الصانع. إذن لم يلقَ إنكار الخالق جل وعلا ـ قديمًا ـ رواجًا بين الناس، وفي هذا يقول أحد مؤرخي الإغريق وهو «بلوتارخ»: «لقد وُجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد». وأما في العصر الحديث فإن الأمر قد اختلف؛ فمنذ نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر، ومع التطور العلمي والتكنولوجي الذي شهده الغرب ــ بدأت بوادر تيارات أعلنت نفي وجود الخالق سبحانه. وهذا العصر كان عصر ماركس وداروين ونيتشه وفرويد الذين قاموا بتحليل الظواهر العلمية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية بطريق ليس لاعتقاد الخالق فيها أثر. وقد ساهم في هذا الأمر: الموقفُ الهشُّ للديانة النصرانية في القرون الوسطى وما تلاها، نتيجة للحروب والجرائم والانتهاكات التي تمت في أوربا باسم الدين، بسبب تعامل الكنيسة الكاثوليكية في حق ما اعتبرته هرطقة أو خروجاً عن مبادئ الكنيسة. ولم يقف الأمر عند العلماء التجريبيين أو النفسانيين أو الاجتماعيين؛ بل تعداهم إلى الأدباء الذين أعلنوا ما سموه: فكرة وفاة الدين والخالق، وأن الدين أبعَدَ الإنسان عن إنسانيته بفرضه قوانين تعارض طبيعة البشر حريةً وسعادةً. وقد تزامنت هذه الأفكار مع الأبحاث الشهيرة لـداروين وهي التي كانت مناقضة تماماً لنظرية نشوء الكون في الكتاب المقدس عند النصارى. وكذلك فقد أعلن نيتشه مقالته المشهورة: موت الخالق الأعظم، ومقالته الأخرى: إن الدين فكرة عبثية وجريمة ضد الحياة. وهكذا أخذت أفكار الملحدين في هذه المرحلة منحى النفور من الدين، لتناقض العقل مع تصرفات وتعاليم الكنيسة. كما أعلن ماركس أيضاً نظريته المشهورة: لا إله والحياة مادة، واعتبر الدين: أفيون الشعوب، إذ هو في زعمه يجعل الشعب كسولاً وغير مؤمن بقدراته في تغيير الواقع. وظهر فرويد كذلك بنظريته التي زعم فيها أن الدين وهْمٌ كانت البشرية بحاجة إليه في بداياتها، وأن فكرة وجود الإله هي محاولة من اللاوعي للوصول إلى الكمال في شخص هو مثل أعلى بديلٍ لشخصية الأب؛ إذ إن الإنسان في زعمه في طفولته ينظر إلى والده كشخص متكامل وخارق، ولكن بعد فترة يدرك أنه لا وجود للكمال، فيحاول اللاوعي إيجاد حل لهذه الأزمة بخلق صورة وهمية لشيء اسمه الكمال. ويضاف إلى ما سبق: أن ثمة تغيرات سياسية شهدتها فرنسا بعد الثورة الفرنسية ــ وكذلك الحال في بريطانيا وغيرها من البلدان الأوربية ــ حيث كان هناك اتجاه سائد لفصل الدين عن السياسة.وهكذا بدأ الإلحاد المعاصر في الغرب، وهكذا انتشر سريعاً، حتى وصلْنا إلى هذه السنوات الأخيرة التي بدأ فيها بريق الإلحاد يتوهَّج بعد فترة ركودٍ أعقبت سقوط الدولة الراعية للإلحاد الداعمة له، وهي الاتحاد السوفييتي. ووفقاً للإحصاءات؛ فإن انتشار الإلحاد في العالم يتنامى بصورة خطيرة، ومن هذه الإحصاءات ما قامت به مؤسسة: يوربا روميتر ــ وهي من كبريات المؤسسات الإحصائية في أوروبا ــ فقد ذكرت أن 18% من سكان أوروبا في عام «2005م» أصبحوا ملاحدة لا يؤمنون بوجود خالق، و 27% منهم لا يؤمنون بخالق، وإنما يؤمنون بعالم روحاني أو قوة وراء الحياة. ومنها أيضاً إحصائية مؤسسة: إبسوس ريد ــ وهي مؤسسة شهيرة متخصصة في استطلاعات الرأي ــ ذكرت أن أعداد الملاحدة في كندا في عام «2011م» وصلت إلى «43 %» . وكذلك ما ذكرته مجلة: فاينانشال تايمز، فإنها ذكرت أن «65%» من اليابانيين أصبحوا في عام «2006» ملاحدة. وكذا إحصائية مؤسسة إينجو التي ذكرت أن عدد الملاحدة يزداد في المكسيك بنسبة «5.2%». وقد ذكرت إحصائيات أخرى أن نسبة الملاحدة في الصين ما بين «8 ــ 14%»، ناهيك عن أن كثيرًا من البوذيين ــ وهم أعداد هائلة ــ هم في حقيقة أمرهم ملاحدة . أما قناة «بي بي سي» فقد توصلت إلى أن «9%» من الأمريكان ملاحدة، كما ذكرت إحصاءات أخرى ــ رسمية وشبه رسميةــ أن الإلحاد في الولايات المتحدة ينمو بوتيرة سريعة، وأن «55%» من الملاحدة واللاأدرية تقل أعمارهم عن «35» سنة، وأن الجامعات الأمريكية مرتعٌ خصبٌ لانتشار هذا التيَّار. هذا كله عند غير المسلمين، فماذا عن العالم الإسلامي؟ إن المتتبع للتاريخ الإسلامي يجد حالاتٍ فرديةً وشاذَّةً لأناس ارتدوا إلى الإلحاد، من أشهر أولئك: ابن الراوندي الملحد الذي كان يهودياً ثم أعلن الإسلام ثم تهود ثم ألحد. أما الإلحاد في ثوبه المعاصر؛ فإنه دخل إلى العالم الإسلامي في منتصف القرن التاسع عشر، مدعوماً من الاستعمار، ومغطى بغطاء التغريب والدعوة إلى التحرر والعقلانية والتنوير بدايةً، والإلحاد وإنكار وجود الله سبحانه وتعالى نهايةً. وقد حفل التاريخ المعاصر بأسماء كثيرة حجزت لنفسها مكاناً في سجل الإلحاد المظلم، من الداعين المتحمِّسين له، ومن المقعِّدين والمؤصِّلين لأصوله. ولا يظن أن أحداً يغفل عن أن العالم الإسلامي حتماً سيتأثر بالمد الإلحادي الغربي، نظرًا لهذا التقارب الكبير والتواصل الواسع بين الأمم في العصر الحديث. أما عن المدارس الإلحادية: فليس هناك مدرسةٌ إلحاديةٌ تجمع تحت لوائها كل الملحدين، لكنهم في الجملة اتجاهان: اتجاه علمي تجريبي واتجاه فكري فلسفي. وعن هذه وتلك نشأت مدارس تستلهم من الإلحاد مادتها. فمنها: العلمانية، التي تعني: بناء المجتمع على أسس مادية لا علاقة للدين بها. ومنها: الوجودية التي نادى بها سارتر وغيره، وهي التي تدعو إلى إبراز قيمة الفرد وحريته، وقدرته على أن يفعل ما يريد. ومنها: الوضعية التي نادى بها أوغست كونت وأترابه، وهي فلسفة تنكر أية معرفة تتجاوز التجربة الحسية. ومنها : الشيوعية التي أسسها كارل ماركس وهي التي تقرر أن لا إله وأن الحياة مادة. ومنها: الداروينية التي تقرر نظرية التطور والارتقاء. كما أن هناك مدرسة عبثية إلحادية انتشرت في العالم، ووصلت إلى عقر دار المسلمين، وهي مدرسة: عَبَدة الشيطان، وهي حركة إلحاديةٌ في فلسفتها، وثنيَّةٌ في طقوسها، يهوديةٌ في دعمها، تنكر الربَّ جل وعلا، وترفض الأديان، وليس لها هدف في الحياة إلا التمرد واللَّذة ــ بل اللذة الشاذَّةــ والكلام عنها يحتاج إلى تفصيل أوسع نظرًا لعظيم ضررها. وبعض الباحثين يقسم الإلحاد بحسب الدافع إليه، ويجعله ثلاثة أقسام: الأول: الإلحاد العاطفي، وهو الذي دافعه استشكالٌ للقدر. الثاني: الإلحاد المادي النفعي، وهو الذي دافعه الرغبة الجامحة في اللَّذات والرتوع في الشهوات دون قيود. الثالث: الإلحاد العقلي العلمي، وهو الذي دافعه ما يُزعم من نظراتٍ فلسفيةٍ وعلميةٍ. وسواء أكانت هذه التقسيمات حاصرة أو غير حاصرة؛ فإن الوصف المشترك الجامع لكل هذه التشعبات الإلحادية: عدم الإيمان بالخالق ــ سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. هذا وإن الكلام عن الإلحاد واسع متشعب، إلا أنه يمكن أن تحصر مهماته ـ بعد هذه المقدمة المتعلقة بتعريف الإلحاد ـ في أربعة محاور. وسوف يتم ــ بعون الله ــ توضيحها وتلخيص شتاتها في ضوء كلام أهل العلم السابقين واللاحقين، وما سطره الباحثون الذين أجادوا في طرق هذا الموضوع في أبحاثهم المطبوعة أو المنشورة في الشبكة، ومن خلال ما ظهر بالتأمل والبحث والتحليل، والله المستعان. alintibaha
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة