(والساعة ساعتان:ساعة التعمير، وساعة التخريب.. فأما ساعة التعمير فهي لحظة مجيء المسيح ليرد الأشياء إلى ربها، حسا ومعنى، وليملأ الأرض عدلا، كما ملئت جورا.. ويومئذ يظهر الإسلام على جميع الأديان.. ويتحقق موعود الله: (هو الذي أرسل رسوله، بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله..وكفى بالله شهيدا).. ويتأذن الله بالتطبيق، كما تأذن بالإنزال.. وذلك فيما يتعلق بقوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا.." وهذه هي ساعة التجلي الكمالي) الأستاذ محمود محمد طه (إذن التطبيق)
الفكرة الجمهورية بين السياسة والدين: لقد وصل والانهيار في الفكر، وفي معايير القيم، عند د. النور محمد حمد، حد الزعم بأن أي دعوة للفكرة الدينية هي من التاريخ!! وقد وكد زعمه هذا بعدة وجوه كما سنرى. ولكننا في بداية هذه الحلقة الخاتمة، نريد أن نواصل كذبه الفاضح.. فقد قال في رده على محاضرة الأخ دالي: (الأستاذ محمود لمن كتب "أسس دستور السودان" في سنة 1954 والكتاب تاني أعيد طبعه في سنة 68 قال أنه "الحزب الجمهوري لكل سوداني وسودانية بلغ من العمر 18 سنة".. لا قال مسلم، ولا قال مسيحي، ولا قال أي حاجة.. لأنه دا حزب سياسي..).. وهذا محض كذب.. والحزب الجمهوري ليس مجرد حزب سياسي كما زعم د. النور.. وكذلك عبارة د. النور "لا قال مسلم لا قال مسيحي ولا قال أي حاجة"، هي الأخرى كذب فاضح فقد ورد في كتاب أسس دستور السودان، العديد من النصوص التي تفيد بأنه يتكلم عن الإسلام وعن الدستور الإسلامي.. فعندما تحدث الكتاب عن المجتمع الصالح ودستوره، الذي هو نفس الدستور الوارد في الكتاب قال: (هذا المجتمع دستوره الدستور الإسلامي _ونحب أن ننبه إلى أن كلمة إسلامي هنا تعني ما يعنيه الجمهوريون، لا الدعاة السلفيون_ وذلك لأن الدستور في هذا المستوى يملك القدرة على التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة..).. وجاء من الكتاب أيضاً قوله: (ولكن الدستور الإسلامي بهذا المعنى _دستور القرآن_ لا يمكن أن يتحقق في المجتمع إلا إذا تحقق لدى طائفة صالحة من الأفراد، ولذلك فإن أعضاء الحزب الجمهوري يمارسون تطبيق دستور القرآن على أنفسهم عبادة بالليل، وبالنهار، ثم ترجمة لهذه العبادة في المعاملة..).. وجاء أيضاً: (لكي نخلق النموذج الذي يجسد الشمائل الإسلامية، وهي شمائل الإنسانية الراقية _فإن الجمهوريين يقلدون محمداً، ويحاولون أن يسلكوا طريقه..).. وعن النموذج الجمهوري قال: (بخلق النموذج الجمهوري، وهذا يعني المسلم الصحيح الإسلام، المسلم ذا القلب السليم، والذهن الصافي ...إلخ).. فإذا بعد كل هذا قال د. النور "لا قال مسلم، ولا قال مسيحي، ولا قال أي حاجة.. لأنه دا حزب سياسي"، فإنما لأنه مرد على الكذب في الأمور الواضحة التي لا يمكن الخلاف حولها، في الأحوال الطبيعية.. فد. النور يرغب في أن يجعل حركة الجمهوريين، والحزب الجمهوري، مجرد حركة سياسية وحزب سياسي، على خلاف ما عليه الأمر في الواقع، هذا الواقع الذي يعلمه هو تماماً.. ويقول د. النور، في إطار مزاعمه الكاذبة: (وأنا بفتكر أنو نحن كجمهوريين، أو على الأقل بعضنا، خلطوا بين فترة الإعداد، الأعدها الأستاذ لينا كدعاة، وبين صورة المستقبل الذي ينبغي أن يكون عليه الحزب..).. وصورة الاعداد هذه هي ما اسماه د. النور (التجربة التسليكية)، وهي في كل تفاصيلها تقوم على الدين، وليس فيها أي نشاط سياسي لا يقوم على الدين.. فهل تم إعدادنا إعداداً دينياً أم سياسياً!؟ يقول د. النور الأستاذ أعدنا كـ (دعاة).. هل أعدنا كدعاة سياسيين أم دينيين؟! ويواصل د. النور قوله: (يعني نحن دربنا تدريب ديني _وهو تدريب قادة_ وأنت في أي عمل داير تكون عندك قيادة، القيادة أساسية.. أنت ما بتحرك بال الجماهير البتديك صوتها لكن بكون عندك نخبة.. ديل البكونوا الناس الأساسيين، المفتاح البعملوا ليك التحول من حالة لي حالة.. فالعمل عمل سياسي في الأساس..).. هكذا يزعم د. النور أن الحزب الجمهوري حزب سياسي، وأن عمله (عمل سياسي في الأساس)!! كون هذا القول كذب عند الله وعند الناس، هذا أمر واضح، ولكن هل د. النور، في هذا القول، كاذب عند نفسه أم لا!؟ لتوضيح الصورة نقول عند الأستاذ محمود السياسة والدين شيء واحد.. وهذا الشيء الواحد هو الدين!! يقول الأستاذ محمود: "نحن ما عندنا فرق بين السياسة والدين!! هي حاجة واحدة!! الدين الإسلامي يعتنق كل مناشط حياة الإنسان، وينظّمها!! ما في حاجة فيه تخرج عن تنظيمه!! السياسة، المعيشة، أي حاجة تفكر فيها، أو تعملها، أو تقولها، يجب أن تكون مستقيمة مع الدين!!".. ويقول: "الدين والسياسة عندنا نحن من بداية نشأة الحزب حاجة واحدة.. موش الدين في منطقة، والسياسة هي شطارة وفهلوة، ودبلوماسية، وغش".. فالدين يشمل كل شيء.. فعندما يتم الحديث عن السياسة أو الاقتصاد أو الدستور ...الخ لا يتم إلا من منطلق ديني.. وكذلك الحال عندما يتم الحديث عن أحداث ومواقف سياسية.. الحديث في جميع الحالات، يجري من منطلق ديني، يقوم على الحق والصدق والمراد به وجه الله وخير الناس.. فالدين يشمل السياسة ولكن السياسة لا تشمل الدين.. والسياسة التي يتم نفيها بالنسبة للفكرة الجمهورية، هي في المكان الأول: النشاط الذي يقوم على طلب السلطة الزمنية _وهذا هو أساس كل عمل يقوم به حزب سياسي.. الحكم والوصول إلى السلطة هما غرض جميع الأحزاب السياسية.. وهذا الغرض الأساسي، لم يكن في يوم من الأيام من أغراض الحزب الجمهوري أو الفكرة الجمهورية.. هذا لم يحدث قط!! لم يرشح الحزب الجمهوري طوال تاريخه نفسه للحكم ولا سعى إليه بأي صورة من الصور.. هو لم يطالب الجماهير بأن تصوت له، ولا قام بالتصويت لأي جهة من الجهات، ولا شارك في السلطة مع أي جهة من الجهات.. وهذا هو المعنى الأساسي لقولنا أن الفكرة الجمهورية ليست دعوة سياسة وإنما هي دعوة دينية.. هي عكس جماعة الإسلام السياسي _تلك الجماعات التي تستغل الدين لأغراض السياسة_ فالفكرة تستغل السياسة لأغراض الدين.. ففي هذا الصدد، لا يوجد حدث من الأحداث العالمية، أو المحلية، الهامة، إلا وبين الجمهوريون موقفهم منه.. ومنطلقهم في جميع الحالات ديني. والفكرة الجمهورية ليست سياسة كذلك في المنهج والأسلوب.. هي لا تسعى لجمع الناس بأساليب الدعاية والفهلوة، وإنما تخاطب الناس من خلال عقولهم، خطاباً يقوم على الصدق والوضوح، وبيان ما ترى أنه الحق.. وليس من هم الفكرة الجمهورية الكثرة العددية كما هو الحال عند دعاة السياسة. هذا الذي ذكرته هو موقف ثابت، ومبدئي، لا يتغير، ظل طوال التاريخ، وسيظل كذلك.. وقد حذر الأستاذ كثيراً من الانحراف بالفكرة إلى السياسة، ومما قاله في هذا الصدد عندما يرى أن العدد قد كثر: الخوف أن يزداد العدد، والنواة لم تقو، فيعتبروا الفكرة سياسة، فينحرفوا بها، عن طريق الأغلبية الميكانيكية. فد. النور عندما جعل الفكرة الجمهورية أو الحزب الجمهوري حزب سياسي، وعمله (عمل سياسي في الأساس) هو كاذب، ويعلم أنه كاذب.. فقد عاش د. النور زمناً ليس بالقصير، يجعله يعلم بالتجربة الطويلة أن الفكرة دين وليست سياسة.. وقد سبق لنا أن تناولنا أقواله عن نشاط الجمهوريين، في ما أسماه الفترة التسليكية.. وهو نشاط، كما أورده هو بنفسه، وحسب معيشته له، ليس فيه ولا لحظة سياسة!! وقد وصف د. النور ذلك النشاط بأنه خلوة تشبه خلوة الصوفية!! فهل خلوة الصوفية يمكن أن تكون نشاطاً سياسياً!؟ وبدل الفترة (الفترة التسليكية)، سماها د. النور هنا فترة (اعداد دعاة)، وحتى هذه ليس فيها نشاطاً سياسياً. وتوكيداً لما يريده د. النور من الدعوة للسياسة دون الدين سنرى بعد قليل أن د. النور يطالبنا بترك الدعوة للدين، لأن زمنها قد انتهى _ حسب زعمه_ ويطالبنا بالدعوة للسياسة!! وهذا ما يؤكد أنه يريد السياسة التي لا تقوم على الدين، وهي السياسة التي يطلب أصحابها السلطة الزمنية كما بينا. والآن، لنبين كذب د. النور من أقواله هو نفسه، وهي أقوال واضحة، ومفصلة، فمنها مثلاً قوله: (أمضى الأستاذ محمود محمد طه ما يقارب الأربعة عقود من الزمان يدعو إلى الإصلاح الديني، وانتهى به الأمر إلى الوقوف إلى منصة الاعدام في 1985م. وما جرى للأستاذ محمود هو عين ما جرى لمن نهضوا في مواجهة الجمود الديني في كل العصور. إلى جانب طرحه فكرته العبقرية المتمثلة في التفريق بين أصول القرآن وفروعه، ودعوته إلى تطوير التشريع الإسلامي، اهتم الأستاذ محمود بتربية تلاميذه وترشيدهم، وتمليكهم ميزاناً اخلاقياً صارماً، ويزنون به أفعالهم. ولقد هدف الأستاذ محمود بذلك إلى خلق طليعة قادرة على أن تستولد غيرها في مجتمعها، فيتشكل قطاع كبير من الرواد والقادة قادرين على النهوض بأعباء التغيير دون انحراف. وهذا هو عين ما فشل فيه حسن الترابي، فشلا ذريعاً، بتغليبه الحركية على الروحانية الحقيقية..).. ويقول: (قال المفكر العراقي الراحل، هادي العلوي، أنه أيقن، بعد تجربة طويلة في العمل الثوري الماركسي، أن الجماهير في دول مثل العراق ومثيلاتها لا يمكن أن تتحرك بالفكر المترجم. وتلك عبارة جامعة مانعة يمكن أن نرفعها في وجه من يظنون أن الطريق إلى التحديث يمكن أن لا يمر بمحطة الاصلاح الديني. فهؤلاء يتجاهلون حقيقة أن الرافعة الحقيقية، في المجتمعات التقليدية، لجهود الصعود نحو الحداثة، هي الإصلاح الديني. وهذا ما جرى بالفعل في أوربا، في فجر نهضتها، ولن تكون مجتمعاتنا بدعاً من الأمر في هذه السيرورة. فلا بد أن نمر بمحطة الإصلاح الديني، لنخرج من أطر الفكر الديني المنغلق، ونصعد، من ثم، إلى رحاب الحداثة. فلولا مارتن لوثر وجون كالفين، ما انفتح الطريق أمام أوربا لتنهض. فالعقل المكبل بالدين لن يتم تحريره إلا عن طريق الدين نفسه، ولكن بعد اخراج التدين من حالة الجمود إلى حالة السيولة، ومن حيز الدوغما إلى حيز الجدل. فالتحدي الذي يواجهنا ليس اخراج الدين من حياة الناس كما يظن البعض، وإنما إعادة الروحانية إلى التدين بعد أن جرى فصلها عنه بواسطة الإكليريوس اليهودي والمسيحي والإسلامي..).. من مقال لد. النور بعنوان (وهم الصعود للحداثة بدون رافعة).. ويقول: (والمرحلة القادمة هي مرحلة التحول في الرؤية الغربية للكون وللحياة، من عقلانية إلى روحانية. هذا التحول يسير الآن. وقد رأيته في كثير مما أطلعت عليه، أثناء دراستي بالجامعات الأمريكية، متجسداً في بعض كتابات مفكري ما بعد الحداثة، وكتاب لاهوت التحرر، ومنهم غارودي، ودعاة العودة الروحانية، وحتى ناشطي حماية البيئة، وغيرها، ممن ايقنوا أن الحضارة الغربية الراهنة تغز السير نحو طريق مسدود. حقبة الحداثة العلمانية القائمة على فيزياء نيوتن، وعقلانية إيمانويل كانط، تلفظ أنفاسها الأخيرة..).. من خطاب طه.. ويقول في معارضته لتسيس الحركة: (هل الحركة مقصودة لذات الحركة، أم لأمر ورائها؟ هل يريدوننا أن نصبح حزباً سياسياً سودانياً، متوالياً كان أو معارضاً، مثلاً ولو عملنا حتى وصلنا إلى السلطة، ماذا نحن فاعلون!؟ مرة أخرى أليس هذا ما كنا ننعيه على أهل ما سمي بالاتجاه الإسلامي في السودان، حين قلنا أنهم لا يحبون مناقشة أي برنامج، ولا يعرفون شكل الدولة التي يسعون إليها، بقدر ما يريدون احراز السلطة!؟..).. ويقول في وضوح تام: (التنظيم الجمهوري،تنظيم روحي، وليس حزباً سياسياً.. هذا ما عرفناه، طيلة عمر الحركة.. وهو بهذا المعنى تنظيم إرشادي، تسليكي، مرجعيته المرشد..).. ويقول مواصلة للنص أعلاه: (ولكن إذا أراد الداعون إلى الحركة، إنشاء تنظيم سياسي يستهدي مجرد استهداء، بطروحات الفكرة الجمهورية، فهذا شأنهم، وهم أحرار في انشائه وفي هذه الحالة يتعين عليهم، أن لا يستخدموا ادبيات الفكرة المأخوذة من أقوال المرشد..).. من خيط بالصالون لد. النور حمد "يا أهل الصالون تعالوا لكلمة سواء) بعام 2003م. نهاية الدين: لقد قرر د. النور بصورة قاطعة، نهاية الدين.. وجاء التعبير عن هذه النهاية بصور شتى.. وقد توصل د. النور إلى ما توصل إليه بصورة مفاجئة!! أو هكذا يبدو الأمر في ظاهره، فبالأمس القريب جداً، كان يؤكد نهاية العلمانية، وحتمية انتصار الدين، وفجأة انعكست الصورة!! ومما جاء من أقواله من خطابه لطه، وقد سبق أن نقلناه أعلاه، قوله: (والمرحلة القادمة، هي مرحلة التحول في الرؤية الغربية للكون وللحياة، من علمانية، إلى روحانية. هذا التحول يسير الآن. وقد رأيته في كثير مما اطلعت عليه، أثناء دراستي بالجامعات الأمريكية، متجسدا في بعض كتابات مفكري ما بعد الحداثة، وكتاب لاهوت التحرر، ومنهم غارودي، ودعاة عودة الروحانية، وحتى ناشطي حماية البيئة، وغيرها ممن أيقنوا أن الحضارة الغربية الراهنة تغذ السير نحو طريق مسدود. حقبة الحداثة العلمانية القائمة على فيزياء نيوتن، وعقلانية إيمانويل كانط، تلفظ أنفاسها الأخيرة..).. هنا، العلمانية والحضارة الغربية وصلت الطريق المسدود، وعلمانية فيزياء نيوتن تلفظ أنفاسها.. وهنالك تحول من الرؤية الغربية العلمانية للكون وللحياة، إلى رؤية روحانية.. وهذا ما توصل إليه د. النور من تجربته في الغرب، ومن بعض مفكري الغرب أنفسهم!! أما الآن، فالوضع عند د. النور انعكس تماماً.. وأصبح الدين هو الذي يلفظ أنفاسه، بل انتهى!! هذا الدين قد قال عنه د. النور من خطابه لطه: (رغم أنني ظللت أنام وأصحو على إمعان التفكير، في أمرنا هذا لعقد ونصف ـ لم أر أن هناك ما يدعو إلى مراجعة أساسيات الفكرة. بل على العكس تماما، فقد ازداد يقيني بقوة الفكرة، وسموق حجتها، أكثر من قبل. كما أن إنسانيتها، وعالميتها، أوضح في ذهني، مما كان عليه الأمر في الماضي..).. ويقول: (سيقترب الواقع من الفكرة كل صبح جديد. فهل نحن، على طريق تقريب الفكرة من الواقع، بنفس القدر، أم أننا فقدنا القدرة على المواكبة، فيما يتعلق بقراءة الواقع..).. ويقول: (علينا أن نمعن النظر في التجربة الماضية. وأنا لا أعنى إطلاقا بأننا بحاجة إلى مراجعة النسق المعرفي الذي جاءت به الفكرة. فذاك نسق عال. فالفكرة فكرة إنسانية عميقة، توشك أن تخرج عن إطار ما اصطلح الناس على تسميته بـ "الدين". ولكن علينا أن نطور قدرتنا على قراءة الفكرة، وقراءة الواقع معا. نصوص الفكرة عندي، "نصوص مقدسة"scripture ولذلك فإن معانيها تقع في طبقات، وتلتمس في التأويل، لا في حرفية النص. وحركة الواقع، وتغيراته، واحدة من العناصر المعينة على إفراد ما ظل مطويا منها..).. ويقول: (إن العالم متخلف فكريا، وأخلاقيا تخلفا مزريا. تجربة العيش في أمريكا فتحت ذهني على حقائق مذهلة، فيما يتعلق بالتخلف الفكري، والأخلاقي الذي يوجه مسارات هذا العصر. لقد عرفت الآن، كيف أن النظام الرأسمالي الغربي، نظام موغل في الشمولية، خاصة في نسخته الأمريكية. هذه قوة غاشمة، لا عقل لها. ولا تتردد لحظة، في سحق أي جيب تشتم منه رائحة ما يهدد مصالحها..).. ويقول: (أعتقد أن على الجمهوريين التبشير بدعوتهم فقط. والتبشير يسبق إدارة الأمور بزمن. هذه قصة كبيرة جدا، وتعمل من أجل تحقيقها عناصر مختلفة، وكثيرة، ومعقدة، من بينها قوى رهيبة، يحركها عقل الوجود الكامن في كل شيء. هذا، في تقديري، ما عناه الأستاذ، حين شبهها بمركبة سائرة، وأن السعيد، هو الذي يضع يده عليها فقط، فهي سائرة بذاتها. والتبشير هو الذي سيحفظ لنا شريعتنا. ولن يكون ما نقوم به أكثر من وضع لليد على مركبة سائرة أصلا. وحفظ الشريعة ليس غاية في ذاته، وإنما هو طريق إلى سعادتنا، وإشباع الوهم المشرج في كل ذات إنسانية، بأننا نفعل في الوجود، وأننا نغير الوجود، فذاك يعطينا إحساسا بالسعادة، وربما، بأننا متحكمين، وممسكين بزمام الأمور، وأننا مختارين..).. هذه الرؤية الواضحة، في ابعادها المختلفة، والقائمة على أصل التوحيد، صار د. النور إلى عكسها تماماً، وبصورة فجائية، في الظاهر على الأقل.. وأصبح يصرح بصور مختلفة أن عصر الدين قد أنتهى، وبدل التبشير بالفكرة، أصبح يدعو إلى ترك الدعوة الدينية.. والعلمانية التي وصلت إلى طريق مسدود، رأه بحكم تجربته في الغرب، وبحكم اطلاعه على بعض مفكريه، أصبحت هي ما يدعو إليه!! وأصبح مجتمعها، ذلك المجتمع الذي وصفه، بحكم تجربته فيه، بالجهل وغياب الفكر، وانحطاط الخلق، أصبح هذا المجتمع هو ما يدعو إليه، ويزعم أن علمانية الدولة أمر لا يمكن أن نتعداه.. لقد انعكست الصورة، وفي وقت وجيز جداً!! ومن المؤكد أن السبب في هذا الانعكاس لا يمكن أن يكون دينياً _فهو عكس الدين.. ولا يمكن أن يكون فكرياً لأنه لا يقوم على أي أساس فكري، بل الأسس الفكرية، عند د. النور تدحضه تماماً.. وأقواله أعلاه، واضحة جداً، وكافية جداً، في دحض مزاعمه اللاحقة.. إذن ما الدافع؟! د. النور لم يقله لنا، وأنا لا أعرفه بالضبط، ولكن من المؤكد هو دافع دنيوي، أغرى صاحبه، بأن يتنكر لفكره، وأن يكذب كذباً صريحاً، يعكس به الأمور عكساً!! والآن، لنرى موقف د. النور الجديد، والذي يزعم فيه أن الدين قد انتهى، وانه ينبغي ترك الدعوة إليه، والاتجاه إلى السياسة!! يقول د. النور من مداخلته في محاضرة الأخ أحمد دالي: (أنا بفتكر ماعاد في فرصة للدعوة.. يعني الدعوة للعقيدة أو لأي فكرة دينية هي من التاريخ.. ويجب أن يكون في فصل تام بين العمل السياسي والعمل الدعوي.. دا هسع الوصلت ليهو ناس الغنوشي..).. ثم تحدث عن الحزب السياسي، وعن أن العمل (عمل سياسي في الأساس).. وقد قمنا بالرد على ذلك.. وقال: (بعدين أنت مابتترك المسائل في الفراغ يعني أن نقول مثلا نحن حندعو الناس دعوة دينية.. يكون عندنا جمهوريين ماشين على النموذج العملو الأستاذ مع النواة الصغيرة الاشتغل معاها، دا مثلا من سنة 51 لغاية 85..دا ما بيحصل.. دا فكر مثالي جداجدا..).. ويقول: (ما افتكر نحن راح نجترح وضع جديد بيهو نرجع الدين يبقى مركزي لحياة الناس.. الدين للأفراد.. يعني يمكن يكون التنظيم عنده خلفية دينية - زي الجمهوريين - لكن ما تعلن عنها كأنها هي خلفية دينية - أعلن عنها كقيمة عصرية مقبولة عند الناس..).. ويقول: (فبيبقى الحل دا حل كوكبي، يعني هناك إشكالية حقيقية. ولذلك انت لمن تَصْدُر من مصدر في الشرق الأوسط وتقول ليهم أنا عندي خلفية دينية أو أنا عايز أكلمكم عن الدين الإسلامي أنا ما افتكر في حد بيسمع ليك.. هسع في السودان نفسه أنا أفتكر الكلام عن الدين بقى صعب جدا.. ولحسن الحظ، أنو الجماعة ديل حرقوا لينا الكرت بتاع الهوس الديني..).. ويقول: (في أمور تانية بتتعلق بدعوتنا نحن.. يعني تجربتنا ننظر ليها.. أنا ما بفتكر نحن كجمهوريين رايحين نلقى قائد أفضل من الأستاذ محمود، مافي طريقة..).. ويقول: (يعني ما بتقدر تعمل عمل دعوي.. لا بتقدر تقدم له النموذج ولا بتقدر تقدم له التضحية ولا بتقدر تقدم له التحقيق.. ما بتقدر تعمل دا. فبيبقى الصورة أن كلام في الناحية دي بيبقى إدعاء ساكت..).. ويقول: (مافي فكر أنت بتطرحو نظريا بعدين الناس كلهم يقتنعوا بيهو بعدين يبقوا طاقة للتغيير.. لمن تجي النقطة الهناك ديك. لا. دا عمل في الحراك اليومي، من خلال الحراك دا الوعي بيزداد، من المحاككات دي..).. ويقول: (فكرتنا نحن ذاتها، الفكرة الجمهورية، فيها حاجات كثيرة جدا جدلية والجمهور ما بيقبلها..).. ويقول: (إنت ما بتقدر تتجنَّب إقامة دولة علمانية. ما في طريقة تتجنبها. يعني ادعُ إلى أي شيء. أنا بفتكر إنو الدولة جهاز بيروقراطي، محايد، إنت ممكن تحقن في الدولة مفاهيمك، كان جبتها من القرآن، جبتها من الإنجيل، جبتها من الفلاسفة القدامى، جبتها من أي يوتوبيا، ممكن تحقنها في الدولة، لكن الدولة هي جهاز لتنظيم شئون الناس. ولذلك إلصاق بطاقة دينية عليها أنا بفتكر إنو لا علاقة له بالموضوع irrelevant..).. ويقول: (لكن على أي حال النظام العلماني بيديك فرصة أنك تشيل وتخت. وأنك تعمل (عملية إصلاح). لكن النظام الشمولي وخاصة إذا بقى ديني، بيكمم، وبياخد منك الجمهور، لأنو الجمهور بسيط والجمهور أمي..).. هذا ما قاله د. النور، في تلك المداخلة، وهو قول واضح التهافت والضحالة.. واضح جداً أن صاحبه نفسه غير مقتنع به.. وفي نصوص د. النور التي نقلناها أعلاه، من خطابه لطه، رد واضح وشامل، على مزاعمه هذه المتهافتة. وحتى تكتمل الصورة، نورد زعم د. النور الذي جاء في الورقة التي كتبها بعنوان (لم يبقى سوى التوليف)، ووردت في منبر (Sudan for all) فقد جاء فيها قوله: (لم تعد هناك أي جدوى للاستمرار في صيغة الأحزاب العقائدية بصورتها القديمة. فتلك مرحلة أرى أنها قد انقضت تماما. فالحزب الشيوعي السوداني لن يتجدد داخل اطاره التنظيمي الموروث من حقبة الحرب الباردة. وتنظيم الجمهوريين لن يقوم على صيغته الأولى الدعوية التي تعمل لكي يصطف وراءه 51% من الجمهور، ويصبح في مقدوره ممارسة السلطة كأغلبية..).. ويقول من نفس المصدر: (ربما أجرؤ، فأقول، منذ البداية، إن اللافتات القديمة التي تقسمت تحتها قوى اليسار، كالحزب الشيوعي السوداني، وحزب البعث العربي الاشتراكي، والحزب الناصري، وتنظيم الجمهوريين، والمستقلين، وغيرهم من التنظيمات الجهوية التي ظلت تعمل في انتزاع حقوق الناس، ومصير البلد، من قوى المركز التقليدية؛ بمؤسساتها الاقتصادية والعقدية القابضة، وشبكات مصالحها، لم تعد الآن صالحة كأطروحات، ولا كأوعية تنظيمية حزبية، لكل حزب على حده، لإنجاز هذه المهمة التاريخية..).. يلاحظ أن هنالك تعميم شديد، يفتقر إلى الحد الأدنى من الموضوعية.. فلا يمكن أن تتحدث عن الفكرة الجمهورية، والأحزاب المذكورة، بنفس واحد، على اعتبار أنها كلها يسار، ويسعى إلى نفس التغيير!! هذه مبالغة في الضحالة والتطفيف.. الفكرة الجمهورية، من حيث الفكر، ومن حيث المنهاج، ليست لها أي علاقة بهذه الأحزاب المذكورة.. يكفي أنها دعوة دينية، في حين أن جميع هذه الأحزاب سياسية علمانية، والاختلاف شاسع جداً بين العلمانية والدين. ما هو السبب في الزعم بانتهاء الدين؟!: هل الله تعالى استغنى عن أهل الأرض!؟ أم أن أهل الأرض لم يعودوا في حاجة إليه!؟ لا شيء من هذا أو تلك حدث، وإنما الذي زعم الاستغناء عن الله ودينه هو د. النور.. جميع الأسباب التي ساقها د. النور، تعتبر من جانب الفكرة الجمهورية، خارج الموضوع!! فجميعها تقوم على اعتبارات سياسية غير مرتبطة بالدين، وإنما هي مرتبطة بإقناع الناس، عن طريق العمل العام.. وها هنا يأتي الزعم بأن الدين، لم يعد مقبولاً عند الناس، وان الفكرة جدلية، وفيها أمور لا يقتنع بها الناس إلى آخر هذه التصورات التي افترض د. النور أن الواقع يعطيها.. وكل الإشكالية في فهمه هو للواقع.. فد. النور ليس له أي منهاج لقراءة الواقع قراءة صحيحة.. فالواقع بصورة مبدئية يقوم على أخلاط بين الحق والباطل، ومن الخير والشر، وهو واقع متحرك، متحول، فيه أمور يتم تجاوزها، وأخرى تتم تنميتها وتطويرها.. فمعرفة الواقع، معرفة علمية، تحتاج إلى ميزان علمي دقيق، غير متوفر إطلاقاً، إلا في الإسلام، كما تدعو له الفكرة الجمهورية. وأوضح دليل على جهل د. النور الفاضح بقراءة الواقع هو حديثه عن الربا.. فعنده الربا محرم في القرآن أصوله وفروعه، ولكنه في الغرب هو الواقع السائد، فلا مجال إلا أن يأكله، من غير أي حاجة للتبرير!! هذا هو منهج د. النور في التعامل مع الواقع.. وهو نفس منهج د. عبدالله النعيم فيما أسماه (المنظور التاريخي).. فالواقع عندهم هو ما يحدد صحة الأشياء من باطلها، دون أي اعتبارات أخرى.. وهذا تصور يقوم على إلغاء الفكر، وإلغاء معايير القيم، وعلى السلوك السلبي، الذي يستبعد العقل النقدي، كما يستبعد تمحيص قيم الأشياء.. وهذه هي أكمل استجابة للرأسمالية.. وفي الغرب أشياء كثيرة بشعة، قائمة بحكم الواقع.. وقد ذكر د. النور نفسه تجربته في الغرب التي أثبتت له غياب الفكر وغياب الأخلاق. على كلٍ، الإسلام كما تدعو له الفكرة، مرجعيته الأساسية هي التوحيد.. والتوحيد يقوم على وحدة الفاعل، وكل ما دخل في الوجود دخل بإرادة الله، والله تعالى له من وراء إرادته حكمة.. وبالإرادة يدخل الحق والباطل.. وعمل المسلم هو التمييز بين الحق والباطل، حتى في أدق الأمور، وأخذ الحق وطرح الباطل.. وهذا لا يتأتى إلا عن طريق الفرقان الذي ينتج عن التقوى، ويعطي صاحبه النور الذي يميز به بين قيم الأشياء.. وهذا الأمر غائب تماماً عن كتابة د. النور الأخيرة، عن نهاية الدين. حجج د. النور كلها، أبعدت الفاعل الحقيقي تماماً، وصورت الأمر، وكأننا نحن الجمهوريين من ينصر الدين!! وهذا على العكس تماماً من أقوال د. النور التي أوردناها له من خطابه للأخ طه. لم يرد إطلاقاً، في تاريخ الفكرة، إننا نحن الجمهوريين من ينصر الفكرة.. بل ورد بصورة متكررة أن الله تعالى هو من ينصر دينه.. وعملنا نحن هو التبشير بهذا النصر الذي هو من عند الله.. وقد تحدث د. النور قبل الانحدار عن هذا الأمر، فليراجع في أقواله التي أوردناها.. والإسلام سينتصر حتماً لأن الله أعد الأرض لانتصاره، بالحاجة إليه والطاقة به، فأصبح وما منه بد _هذا من جانب الشريعة.. أما من جانب الحقيقة، فالنصوص عديدة التي تؤكد انتصار الإسلام على جميع الأديان،ومنها مثلاً قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا).. وقوله تعالى: (إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ).. وهذا النصر يعمل له كل شيء في الوجود، من يريدونه، ومن لا يريدونه ويعادونه، فلله جنود السماوات والأرض.. جميع مزاعم د. النور وأدلته، عن نهاية الدين، هي خارج الموضوع وهو شخصياً يعلم ذلك تماماً، ومن أجل ذلك أبعد الله من الصورة، وصور الأمر كله وكأنه سياسة. إقامة الدين في الأرض، حسب الفكرة الجمهورية مرتبطة بالمسيح.. مرتبطة بإذن التطبيق والمأذون.. وهذا هو (الوقت) وهو أمر معروف تماماً عند جميع الجمهوريين.. ولا ينصرف عنه إلا الذين يريدون أن يجعلوا من الفكرة سياسة وليست دين.. وهذا ما ذهب إليه د. النور مؤخراً وسبقه عليه آخرون، ربما أراد أن يلحق بهم. هنالك ملاحظة أساسية هي أن كل الجمهوريين الذين انحرفوا عن الفكرة إلى السياسة، لا يشيرون إلى موضوع المسيح وإذن التطبيق، وذلك لأنهم إذا فعلوا أصبح باطلهم أكثر عرياً.. أما د. النور، إلى جانب هذا المبدأ العام، له موقف خاص من عودة المسيح سنتعرض له لاحقاً.. ولأهمية إذن التطبيق، أوردنا نص الأستاذ عنه، في بداية هذه الحلقة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة