إلي جانب قراءة انتاج كُتَابِ وشُعَرَاءِ السودان، لهم التجلة، شغفنا على أيام الدراسة و نحن في شرخ الشباب و عنفوانه، بقراءة الأدب بكل ضروبه و أشكاله. و استرعى انتباهنا، و جذب اهتمامنا، بشكل خاص الأدب الثوري، فانشددنا بقوة جذب مغناطيسي لأشعار الجواهري و درويش و زياد وسميح و عبد الصبور وحجازي و مظفَر النواب و نجم و الأبنودي وسمير عبد الباقي، وغيرهم ممن يضيق المجال عن ذكرهم. و مِنْ ضمن مَاْ قرأنا، في مجال القصة القصيرة، في تلك المرحلة، مجموعة قصصية، للقاص السوري زكريا تامر. أدهشنا و أسرنا أسلوب زكريا تامر المتفرد في السخرية بالطغيان والظلم والاستبداد، بتراكيب ألفاظه وعباراته ومعانيه (معاً) المفعمة بالرفض و التمرد والثورة، و البالغة الدلالة على الهزوء و التعريض بالحكام الطغاة، و المحتشدة بالتحريض والدفع على مقاومة استبدادهم وجورهم. فلا غرو إذن أن صادفت قصص زكريا تامر هوىً في نفوسنا و قلوبنا التواقة، وقتها و لا تزال، للانعتاق والحرية والديمقراطية. فاعتبرنا اكتشاف قصصه و قتها، فتحاً عظيماً لعقولنا الغضة، اشبعت نهم مداركنا و روتً ظمأ أرواحنا المشرئبة (إلي النجوم لتنتضي صدر السماء لشعبنا)، فحفظت ذاكراتنا المتحفزة والمتوقدة وقتها، مع ما حفظت مع شعر الأوائل، ما وسعتها طاقاتها من أجزاء قصصه، و رددنا كثيراً عباراته، المفعمة بحيوية وحرارة انتمائها للإنسان، و انحيازها لقضاياه و انتصارها دوماً لحقوقه في الحرية و الكرامة والحياة الكريمة اللائقة به. تمحور ما قرأناه وقتها، لزكريا تامر، حول التناقض والتضاد بين الشعب و حكامه، بل القطيعة التامة بين مصالحهما كطرفي نقيض. و تدور أفكاره في هذا المقام حول الدولة المسروقة والمخطوفة من الشعب، ( و هي ذات الفكرة المركزية التي تدور حولها أيضاً روايات الدكتور صادق النيهوم)، لذا تفضح وتعري (كتاباتهما) خاطفيها وسارقيها الحكام الطغاة ألد أعداء الشعب الذين نصبوا أنفسهم حكاماً عليه بالقهر والإكراه مع تكثيفهما الإشارة إلي تسخير الحكام وتوظيفهم، عبر التاريخ، عنف و قمع جهاز الدولة وتشريعاته بشكليهما المادي والمعنوي ضد الشعب لإخضاعه لطغيانهم و استبدادهم. بعيداً عن الترميز يعتمد زكريا تامر أسلوب التحريض المباشر لتعبئة الشعوب لمناهضة حكامها رموز الشمولية والاستبداد والطغيان. و من نماذج ذلك، ما حكاه في إحدى قصصه القصيرة جداً، عن أن أفراد جهاز أمن ومخابرات الطاغية قد وجدوا مواطناً معدماً، لا يجد لأيام طوال، ما يسد به رمقه، فهدَه الجوع واضمحل جسده، حتى تقوس ظهره من فرط هزاله، فاعتقلوه و اقتادوه وألقوا به في غيهب زنازين أعدوها لأمثاله. وفي التحقيق معه، فاجأه المحقق الأمني باتهام تلخَص في أنه لا يحب الحكومة، وبالتالي غير مستوفٍ، لشروط المواطن الطيب، بحسب معايير الطاغية. حاول المعتقل الدفاع عن نفسه بشرح موقفه فقاطعه المحقق بقوله: "المواطن الطيب يحب أمه والحكومة". ولما حاول المعتقل الاحتجاج، ألقى المحقق في وجهه التهمة التالية: "ظهرك المقوِس يسئ إلي سمعة الحكومة". و ما حكاه أيضاً في قصة أخرى، عن أن أفراد جهاز أمن ومخابرات الطاغية ألقوا القبض على طارق بن زياد - قائد جيش المسلمين الذي فتح الأندلس - و اقتادوه وألقوا به في غيهب زنازين أعدوها لأمثاله. وفي التحقيق ألقى المحقق الأمني لائحة اتهام ملتهبة و طويلة اختتمها بقوله: " طارق بن زياد أنت متهم بتبديد أموال الدولة". وهكذا ربما مثَل الكاتب للشعوب بطارق، وبالمحقق الأمني للحكام، و لكن من المؤكَد أنه قصد بإشارته إضمار الطغاة منذ عهد معاوية الأموي حتى حكام اليوم ضغينة و حقداً تاريخيين لهذا القائد العبقري العظيم والفذ، كما أراد بإشارته تأكيد شدة رغبتهم في الثأر والتشفي منه، لدخوله الأندلس منتصراً، بعد أن أحرق السفن التي قطعت بجيشه البحر لملاقاة العدو. وصاح بجيشه صيحته التي دخلت تاريخ الفتوحات والانتصارات العظيمة: "العدو أمامكم و البحر من خلفكم" قاطعاً الطريق على جيشه ألا مهرب أو تراجع وانسحاب (للخلف) إلي جهة البحر، و ألا نجاة لكم (والعدو أمامكم) إلا بهزيمته وكان له النصر الذي أراد. عادت بي الذاكرة، إلي قصص زكريا تامر و عباراته الساخرة كسالفتي الذكر، مرتين: الأولى و أنا أتابع تصفية حساب في شكل لقاء تلفزيوني أجرته قناة شروق - احدي أبواق النظام - قبل عام أو نحوه، مع شاعر الوطن و أحد أبرز رموزه الابداعية الثقافية، وحادي حداة ثورة أكتوبر الشعبية المجيدة دون منازع الأستاذ الكبير محمد المكي إبراهيم عقب عودته إلي الوطن من منفاه الاختياري، ولمن أرد الرجوع، لوعثاء اللقاء ورعونة صاحبه وما دار فيه فليقرأ ما كتبه الشاعر عنه. أما المرة الثانية فكانت أنا أقرأ قبل أيام في أخبار (جمهورية أبزيردستان) على حد وصف الدكتور منصور خالد، و ترجمتها بتصرف (جمهورية السخف)، أن جهاز المؤتمر الوطني للأمن والمخابرات قد قيَد بلاغاً بدعوى (الشروع في الانتحار) في مواجهة البروفيسور مضوي إبراهيم المعتقل لديه منذ ديسمبر الماضي، و ذلك بسبب إضرابه عن الطعام للمطالبة بإطلاق سراحه أو تقديمه للمحاكمة إذا كان ثمة ما يقتضي ذلك. وهو طلب مشروع من مواطن يعتقد أن أجهزة الدولة قد انتهكت حقوقه الدستورية والقانونية، و حجبت دون أدنى مسوِغ، و انتقصت من حريته في التعبير عن رأيه، فيما يجري في بلاده، بما في ذلك حقه في معارضة الحاكم، فصادرت حريته بحبسه، لأجل غير مسمى، خارج إطار القانون، فطالبها بالاحتكام إلي القانون وسيادته، بإطلاق سرحه أو تقديمه للمحاكمة. ولما لم تستجب لطلبه المشروع اتخذ الإجراء الذي اعتبره ملائماً للتعبير عن احتجاجه. وصف البروفيسور حسن مكي، دولة المؤتمر الوطني، بأنها دولة تحكمها أجهزة (الباطن) و (التمكين). و من الطبيعي، في مثل هذه الدولة، أن تحرص أجهزتها المجرَدة، من القيم العليا والمثل والأخلاق، و المنفلتة من أية رقابة قضائية، على إحلال الباطل محل الحق، والمذنب محل البريء، والعكس بالعكس. و لذلك يمكن للطاغية نفسه أن يصفعك في وجهك أمام الملأ، و يصرخ بعد ذلك، و بأعلى صوته باكياً ـ تماماً كما استغاث في إحدى مسرحياته الكوميديان عادل إمام ـ ومستغيثاً :"ضربني بوشُه على يدي يا سعادة البيه". و سيجد المشاهد، بين غمضة عين وانتباهتها، أنَ الجلاد قد تحوَل إلي ضحية، بينما تحول الضحية إلي سفاح و"كتَال كتَلَة". ولا غرو في ذلك، لأن الجلاد الممسك بتلابيب، كامل جهاز الدولة يخضع آلياته و في مقدمتها (الأمن) و (إدارات) الشرطة والنيابة والقضاء، لإرادته ومشيئته المطلقة، و لن يعدم مِنْ أفراد جهاز أمنه (حصراً)، مَنْ يشهد له ضد من ضحيته، و لربما لن يعدم مِنْ أتباع و أنصار له (بلا ضمير أو خُلُقْ)، في إدارات الأجهزة الأخرى، مَنْ يسعى لتسيير القضاء لصالح المستبد الظالم. ولكن أيظن الذاهلون عن الحق، المتهالكون على الباطل، والمسرفون في الفساد و الظلم، المتوهمون هؤلاء، أن تدوم دولة ظلمهم؟ و الإجابة هي: (منطق التاريخ في صحيحه يقول): أنَ الظلم مرتعه وخيم، و أنَ دولته قصيرة، وإلي محاق تام، طال الزمن أم قصر.!.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة