من مربكات كتابات الدكتور النور حمد أنه يأخذ من النظريات عن الثقافة السودانية بغير أناة وتحوط مما يوقعه في التناقض. فهو يعتقد، من جهة، أن الأرومة السودانية ظلت كما هي من قديم الزمان لم يطرأ عليها تغيير. فتعاقبت عليها ثقافات المسيحية والإسلام فلم تعدو كونها مظاهراً ثقافية لم تغير العرق الكوشي النوبي الأصلي. ويعتقد، من الجهة الأخرى، أن العرب جاؤوا إلى السودان بأعداد هائلة وقضوا على الحضارة المسيحية. وهذا اعتراف صريح بأن الأرومة السودانية المظنون فيها الثبات التاريخي قد خضعت لتحوير أو إضافة من نوع ما. جاءت عقيدة توطننا على الأرومة الكوشية النوبية القديمة من جهة علم الآثار لتحل محل النظرية التي سبقت القائلة بأن ثمة عرباً مسلمين وفدوا إلى السودان فرطوا في نقاء عرقهم وشابت دينهم أوشاب الوثنية. ومن رواد المدرسة الانقلابية (بمعنى حدوث تغيير كبير في الأرومة الاصلية بقدوم عرق جديد) هارولد ماكمايكل وسبنسر ترمنغهام ويوسف فضل حسن وكثير غيرهم. أما رأي القائلين بأن أرومة السودانيين متصلة العرق لم تغمز لها التطورات الثقافية قناة فمما تجده عند الآثاري برايان هيكوك ووليام آدمز. وأعديا بها حقل التاريخ بطريق جي إسبولدنق صاحب "عصر البطولة في سنار" وأخذه منه معتصم أحمد الشيخ الذي عرّب كتاب الرجل. استخفت مدرسة استمرار العرق النوبي على صفائه التاريخي عند سائر السودانيين ب"انتحال" قسم منا صفة العروبة. ومؤدي هذه المدرسة أن سكان البلاد من النوبة خرجوا من التعريب والتأسلم كما هم نوبة ما زادوا غير أن أصبحوا مسلمين من الناطقين بغير النوبية. وتبني النور هذه النظرية كاملة عن اسبولدنق (الذي وصفه بالأكاديمي الضليع) في قوله إن الهوية العربية الإسلامية لم تنشأ عن حضور عربي وإنما هي اصطناع طبقة سنارية وسطى تجارية. فنقل النور عنه في مقالات تشريح العقل الرعوي ما يلي عن حالة سنار في سنواتها الأخيرة في كتابه "عصر البطولة في سنار": "تقمصت الطبقة الوسطى الجديدة (في سنار)، على سبيل المثال، شخصيةً عربيةً، ومارست النظام الأبوي، وتعاملت بالنقود، ومارست في معاملاتها التجارية قوانين الشريعة الإسلامية، واستأثرت بالصدقات، واشترت العبيد، وحددت علاقات التبادل، وقيدت الرعايا الأحرار بالديون، وفرضت مفاهيمها القانونية والأيديولوجية على الحكومة، ثم طالبت بالإعفاء من كل الالتزامات تجاه الدولة، وخصّت نفسها بمجموعة متنوعة من المهام التي كانت، إلى حينها، تقوم بها الدولة أو طبقة النبلاء، وأهمها إدارة القضاء والضرائب". (انتهى نص سبولدينق). وهذا بيان واضح أن العرب لم يمروا بالسودان وأن عروبة بعض السودانيين إنما هي زعم طبقة فونجية وسطى افتتنت بالعربية والإسلام.
ولم تكن هذه المرة الأولى للنور التي صدع فيها بنظريته أن العرب لم يمروا بالسودان. ولكي يدعم نظريته هذه هوّن من دور اللغة في رسم هوية "منتحلي العروبة" من السودانيين. فقال إن الهوية لا تنعقد باللغة أصلاً. فمن رأيه في مقاله "غيبة السودان الحضارية ومخنة العقل المحتل" (2013) أن حديث الأمريكان بالإنجليزية لم يجعلهم إنجليزاً. وهو في هذا متفق إلى حد كبير مع محمد المكي إبراهيم الذي لا اللغة ولا الدين عنده من محددات الهوية بمعزل عن عناصر الثقافة الأخرى. فاللغة، في قوله، لا تزيد عن كونها أداة تواصل. وحجته هي حجة النور: فالمتحدثون بالإنجليزية في العالم يتفاهمون بها ولم تحولهم إلى أصحاب هوية مشتركة. كما يتحدث الأمازيغ والأكراد العربية بغير أن يصيروا عرباً. جاء ذلك عن مكي في كتابه "ذكرى الغابة والصحراء" (2008). ولكن مكي لا يثبت عند هذا الرأي عن اللغة طويلاً. فيراها في موضع آخر من الكتاب أزيد بكثير من مجرد التواصل بقوله إنه بفضلها "يحس الكائن البشري بقربه وحميميته نحو كائن بشري آخر وهي أيضاً حامل ثقافي فداخلها يحيا قدر كبير من الثقافة المشتركة للأفراد المعنيين" وهذه الإلفة هي الهوية بذاتها.
ونقول عرضاً إن مدرسة استمرار العرق النوبي الناكرة للحضور العربي في السودان مدرسة سيئة النية. فهي من تلك النظريات التي يفتتن بها الباحث بموضوع بحثه وناسه (حضارة النوبة والنوبة) فيطرش ويعمى. فيتأسف المرء كثيراً للطريقة غير الرشيقة أو الحساسة التي عبر بها كتاب مدرسة الاستمرارية عن استنكارهم لهذا "الانتحال". فقد قال وليام آدمز في "النوبة: بهو أفريقيا" إن تبني النوبة لنظام القبائل العربي ردة عن زمان ممالكهم الغراء. وقال إن ادعاءهم بأنهم عرب ضرب من السخف. وزاد: لم يصبحوا مسلمين وحسب بل صاروا عرباً في قرارة أنفسهم. لقد توارت فيهم كل ذكرى للبهاء الحق للماضي النوبي. وانتموا الي نسب افترعوه من أرومة قبائل بربرية (قطع لسانك!) قطعت البحر الأحمر إليهم واستبدلوا أرومتهم الحق كورثة لبعانخي وملوك قرون النوبة الوسطي. وتوسع اسبولدنق فوق استاذه آدمز في تبخيس زعم العروبة في السودان. فبينما قصر آدمز فساد هذا الزعم على النوبة المعاصرين شمل اسبولدنق بالفساد سائر السودانيين حتى من له حجة ما على عروبته. فظل يصف سائر السودانيين بأنهم "نوبة مسلمين." واستعان بعبارة من مراقب قديم وصفه بأنه لماّح رأي منذ عام 1853 أن النوبة المسلمين قد ارتكبوا خطيئة كبري بملاءمة العديد من مظاهر مجتمعهم وفق سنن وشرائع المسلمين في الجزيرة العربية. وتجد أصداء هذه المدرسة واضطرابها عند النور حمد في مقالاته عن العقل الرعوي. فسمى إصابتنا بالعقل الرعوي في السودان "علة" وفدت إلينا من خارج حدودنا. وعليه فإن ما يجب أن ننصرف إليه، نحن السودانيين، هو السعي إلى معرفة الكيفية التي تسرب بها إلينا هذا الداء، إضافة إلى معرفة الكيفية التي يمكن أن نخرج بها من قبضته". وبدا النور كمن رغب لو أن هذا الداء لم يركبنا لأنه تسلل إلى حد كبير "من خارج بنية تاريخه الممتد منذ آلاف السنين" وبعبارة أخرى فالعرب هم من لوث جسد الأرومة الكوشية النوبية التاريخية. فمن رأيه أن تاريخنا انحدف في الفضاء المشرقي المتوسطي العربي منذ القرن الخامس عشر لا شغله لنا به ولا مشغلية. وأفضل ما يمكن عمله هو أن ننأى بأنفسنا من هذا الفضاء. فلسنا، مسؤولين، نحن السودانيين، عن ما أصاب جسد الفضاء العربي من علل. فتلك قضية هذا الفضاء الذي أُلحقنا به إلحاقا. تلك أزمتهم، التي ينبغي عليهم مواجهتها بأنفسهم، كما علينا نحن أن نواجه ما أصابنا من تمدد العلل العربية، بأنفسنا، من داخل بنية تاريخنا، وبنية ثقافتنا اللتين غيبتنا. بل نحن لا نملك، بإزاء هذا التحدي الضخم الذي يواجه بنية العقل العربي،) وهو لا يزال عقلاً رعويًّا (، قدرةً تذكر. وغني عن القول إننا أضحينا اليوم أعجز من أن نتدبر أمر أنفسنا، دع عنك أمور غيرنا. لقد أدغمنا همومنا في ما ظللنا نظنه همًا واحدًا للعرب، ولم يكن ذلك إلا نتاجًا للاستعمار الثقافي المصري، الذي ابتلينا به. فما ينبغي علينا، فعله منذ الآن، وفق تقديري، هو ألا ندغم همومنا في الهم العربي الذي ألبسنا المصريون خوذته، قسراً ومخادعة. ففي حقيقة الأمر، لا يوجد هم عربي مشترك، وإن ادعى المدعون. بل، إن بأس الدول العربية بينها، أكثر بكثير من بأسها مع أعدائها." ونكتفي بهذا لننتقل إلى بيان تناقض النور الموزع بين مدرسة استمرارية الأرومة النوبية كما تقدم، وبين مدرسة الانقلاب التي تعتقد في الحضور العربي القوي في السودان وامتزاجهم بأهله القدماء. فرأيناه في طور مدرسة الاستمرارية يقول بأن اللغة ليست شاهداً على حضور عربي في السودان لأنها مما يكتسب بغير مثل ذلك الحضور. ولكنه متى ما أرخ لعلة العقل الرعوي لم يجد سبباً لها سوى الوفود العربي الكبير للسودان. فقال إن القبائل الرعوية تدفقت على سهول السودان في القرن الثالث عشر الميلادي إثر تضييق المماليك عليهم في مصر. وجرى اختراق مملكة علوة بواسطة الأعراب بكثافة أكبر مما جرى للمقرة. وتسرب إلينا العقل البدوي الرعوي، بسبب المصاهرات "التي أضطر إليها النوبيون لدرء شر الأعراب". وقادت تلك الأوضاع " إلى إضعاف البنية الحضرية المتوارثة، وإلى تبني المستقرين لقيم البدو. فقد أضطر صراع البقاء المتسم بالعنف الجميع إلى تبني القيم الرعوية. وأصبحت شدة البأس، والقدرة على الاعتداء، ونزع الحيازات عنوة، وفرض قبول الظلم بحد السيف، هي الوسائل المنجية في هذا الصراع الشرس". بل نجد النور سمى بالاسم القبائل التي وفدت إلى السودان كما هي في مدونات المؤرخين المسلمين: ف" أضحت مملكة علوة مهددةً أكثر من جانب القبائل الرعوية لراحلة التي قدمت من مصر إلى السودان. وكانت أكبر القبائل التي استقرت في سهول السودان الأوسط ابتداءً من القرن الحادي عشر وحتى القرن الخامس عشر، هما قبيلتا جهينة وقريش، اللتين تعود أصولهما إلى الحجاز". فلم يأت العرب إلى السودان فحسب بل أحصاهم النور اسماً اسماً بما في ذلك قريش التي منها العباس الذي يستكثر نسبتنا إليه قوم لا يعرفوننا فيجهلونا. واضح أن النور يركب سرج مدرسة الاستمرارية في العرق السوداني متى شاء ثم يركب سرح مدرسة الانقلاب متى شاء. وركاب سرجين "وقّيع". وسنرى في حلقاتنا القادمة كيف أن النور، بتبخيسه الكبير لدولة الفونج واقتطاعها من الخيط الناظم للثقافة السودانية منذ كوش، قد فارق نهج المدرسة الاستمرارية مرة واحدة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة