يقول رئيس الحزب الحاكم في السودان ، إنه لن يترشح لانتخابات 2020 ، على أساس أنه قضى فترتين منذ بدء العمل بدستور اتفاقية نيفاشا التي وضعت حدا للحرب الأهلية في السودان عموما و في الجنوب خصوصا . و كان من إيجابيات اتفاقية نيفاشا ، في ما نحن بصدده ، أنها فتحت أفقا لقضايا التحول الديمقراطي و بالتالي التداول السلمي للسلطة . و لكن التجمعات السياسية لم تكن قادرة على الاستفادة من ما قدمته نيفاشا لجهة فتحها لآفاق التغيير . . فأما الحزب الحاكم ، فقد قبلها على مضض ، إذ كان يرى فيها ، و هو محق في ذلك ، نسفا ناعما لما بناه من دولة لا تقبل اختلافا متحرما في داخلها ، إلا اختلافا مهيض الطموح ، بئيس الحظ ، يكون امتدادا لما ألف الناس من تفاضل على ما لم يكن لهم يد في وجوده ، كألسنتهم و ألوانهم و أديانهم . و أما الحركة الشعبية لتحرير السودان ، الشريك الرئيسي في توقيع الاتفاقية ، أعتقدت أنها قدمت ما بوسعها ، خصوصا بعد غياب زعيمها الكبير المدرك لقضايا التغيير ، فخلدت إلي مقاعد السلطة الوثيرة تمسح عن جبينها وعثاء النضال ، و طالبت شريكها بسذاجة عجيبة أن ينفذ لها برنامجها في قيام دولة يتساوى فيها مواطنوها ، أي أن يقوم الحزب الحاكم بقطع حبال الوصال مع نفسه ، و يسوي ما بناه بالأرض فيستحيل رمادا تذروه رياح التغيير ، فيكون نسيا منسيا . . و انتهت الحركة الشعبية لتحرير السودان ، إلى التنكر لمبادئها و خذلان جماهيرها و التنصل عن المساهمة في قيام دولة لا يتفاضل فيها مواطنوها إلا بما يختارونه من مواهبهم و إبداعاتهم . بل تمادت في انسلاخها عن آيات التغيير ، بأن دعمت مرشح المؤتمر الوطني في انتخابات 2010 ليمهد لها الطريق لتحقيق غايتها الطفلة في الاستقلال عن الوطن الواحد ، و ارتضت أن تكون محض بقايا سياسية إقليمية . . و أما أحزابنا السياسية بيمينها و يسارها ، فلم تكن تملك عينين ناضجتين لترى إمكانية التحرك ، نحو وطن محترم ، مدفونة عميقا في جوف الاتفاقية . بل أذهلها عن ذلك ، تقسيم نسب السلطة الواردة في الاتفاقية ( 52 % المؤتمر الوطني ، 28 % الحركة الشعبية ، 6 % الأحزاب الجنوبية ، 14 % الأحزاب الشمالية ) . فاعتقدت أن مساحتها للتحرك السياسي لطرح نفسها و ملاقاة الجماهير و تعبئتها نحو وطن حدادي مدادي ، لا تعدو 14 % من مليون ميل مربع !! ولم تر أن مساحتها هي في الواقع 48 % ، أي كل الساحة ناقصا المؤتمرالوطني . و كان مأمولا تعبئة كل ال 48 % ، ثم المقالعة في ال 52 % من حوش المؤتمر الوطني خصوصا مع حضور الاستعداد النفسي للتغيير الذي عبر عن نفسه باستقبال رائد التغييرالوالد الوطني جون قرنق . و هكذا ، ضاعت فرصة كبرى ، لإحداث خلخلة ضرورية في مسلمات الفكر السياسي الكلاسيكي السوداني ، من شأنها تطرية و إزالة النتوءات في المتصل السياسي الاجتماعي في السودان . و لسؤ التفكير ، استمر نفس الجمود و التخشب في مفاصل الحركة السياسية السودانية بعد تقسيم السودان ، استمراء لهبة جماهيرية ، تطرح لهم المؤتمر الوطني أرضا ، و تمنحهم سلطة لا يريدون أن يتداولوها فيما بينهم ناهيك عن مع غيرهم . ثم ضاعت فرصة اخري في الانتخابات الأخيرة لإحداث قدر من خلخلة المسلمات لكسب مساحة للتحرك و لو محدودة ، يمكن الإتكاء السياسي عليها مستقبلا . . و في حقيقة الأمر ، ما عجزت الأحزاب السياسية عن إدراكة ، أن هذا الشعب الكريم أكتسب وعيا مغايرا لم تألفه عنه ، و هو وعي صنعته التجربة المريرة التي مر و يمر بها منذ افتراع الإسلاميين لبدعة رفع يد الدولة عن دعم الصحة و التعليم ، فخرج الشعب السوداني الكريم لدروب الحياة يبحث عن ترياق و عن كتاب . . و هكذا ، إذن ، جاء وعيه غريبا عن ما يخرج من أرحام الأحزاب . و لأن وعيه المكتسب هذا أبقاه حيا ، حتى الاّن ، ليس لديه استعداد للتخلي عنه و لو زرفت له الأحزاب دموعها . فلم تعد الجماهير تلك ، محض موجودات بشرية تهيم على وجهها في صحراء الفكر و السياسة و المعرفة ، بل سقتها قنوات الري الإلكتروني ، و التجارب المريرة ، ما يجعلها تطلع على فضاء واسع من الخيارات .
ولما وجدت الجماهير أن الأحزاب غير قادرة على احترام وعيه لمواكبه قضايا التغيير ، قررت أن تملك زمام أمرها و ابتدعت هبتها في سبتمبر 2013 بكل دماعها و دمائها . . و في حقيقة الأمر ، لم يثن الجماهير عن مواصلة مشوارها ما أطلقت عليه دوائر السلطة الخطة ( ب ) الفتاكة ، رغم جنونها ، إنما ما أثناه هو محاولة الأحزاب الانضمام لها في يومها الثالث ، فلا تريد الجماهير أن تلدغ من جحر اكتوبر 1964 مرة اخرى !! وتكرر نفس الأمر في عصيان 19 ديسمبر الماضي الذي فشل في مهده بسبب محاولة تبني الأحزاب له .. و لسخرية القدر ، نجح العصيان الذي قبله نجاحا كبيرا لغياب الأحزاب عنه !!
إذن ، ليس أمام الأحزاب من خيار سوى القبول بالحوار بشكله الردئ هذا ، و مخرجاته الرديئة هذه ، و ذلك حتى تستطيع تحييد المؤتمر الوطني الذى يقف بينها و بين الجماهير ، الأمر الذي يحدث سيولة سياسية تشمل إطلاق سراح كل الأسرى ، بما فيها إطلاق أسر الحزب الجمهوري ، العاصم الكبير لشبابنا من الوقوع لقمة طرية في مخالب وأنياب الهوس الديني .. و بذلك تستطيع جميع الأحزاب إقامة نشاطها السياسي ، و التفاهم مع هذه الجماهير و تسكين وعيها ، الذي أشرنا إليه أعلاه ، داخل مواعينها . بل بناء مواعين جديدة تسع ما أكتسبه من وعي ، و التعلم من استاذ الشعوب هذا ، و إعادة اكتشاف نفسها و مراجعة أفكارها على إيقاع القرن الحادي و العشرين الذي يضع قيمة للإنسان و حقوقه ، و من ثم الانخراط في الانتخابات القادمة ببرنامج وقف الحروب و التوزيع العادل للثروة و السلطة و تحقيق العدالة .. فمن شأن ذلك الانخراط ، صناعة الأمل بالمشاركة في ، و القدرة على ، السعى النبيل للتغيير، و بالتالي تقليل القدرة على التزوير و التلاعب في الانتخابات بمعاونة منظمات المجتمع المدني المحلية و الدولية ، خصوصا إن الحزب الحاكم لم يعد كتلة صماء على قلب رجل واحد كما كان ، إنما عصفت بوحدته أطماح و أطماع لا يسع المجال لذكرها .. و لذلك حتى لو فاز منسوبو الحزب الحاكم مجددا ، سيكونون ضعافا لجهة سيطرتهم على الثروة و السلطة و ما يتبع ذلك من ارتخاء قبضتهم على ملفات الفساد الذي يعانقونه كمن يعانق العفريت خوفا من رؤية وجهه ، و ينفتح بذلك الطريق الى بلورة حركة سياسية راشدة و أحزاب بحجم الوعي بقضايا الجماهير و السهر معها و السهر عيلها .. و في عتمة هذا الجمود ، يسطع نجم في سماء السياسة السودانية .. تقلب في معاملها السياسية ، و لقح وعيه بآلام و آمال الجماهير ، فلكأنه صار بعضا من نفثاتها ، يؤمن إيمانا جليلا بحق نفسه و حق الشعب أن يمشي مرفوع الرأس برجاله و نسائه ، و أن يعيش في وطن يفخر بالانتماء له و لخدمته .. قدم نفسه بالعديد من الكتابات الجريئة في نقد مسيرة السياسة السودانية منذ نشأتها و شرح واقعها تشريحا ماهرا ، ينم عن إدراك كاف بكيفية خروج بلادنا من نكبتها و إزالة الأغلال عن إيدي هذا الشعب الكريم ، و فوق هذا هو منفتح بكل محبة للتعلم من غيره و تطوير أفكاره ، حتى لكأنك ترى في كتاباته مكانا شاغرا لنصوص لما تكتب بعد .. إنه يكسر الجمود ، و يتحدى الذي يبدو مستحيلا ، ويوقد شمعة في عتمة الدجى . و يا إلهي !! ما أكثر دجانا و أقل شموعنا .. هذا هو الاستاذ عادل عبد العاطي أعلن ، نهاية الشهر الماضي ، عن تصديه لمنازلة مرشح المؤتمر الوطني في 2020 ، بكل مسئولية وجرأة محمودة و إدراك لقضايا التغيير .. فالتحية لإحساسة الكبير بالمسئولية ، و التحية لجرأته المحمودة ، و التحية لإدراكه لقضايا التغيير ..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة