وصل بريدي الإلكتروني خبراً من جريدة هاريتز اليهودية مفاده أن بنيامين ناتنياهو يؤيد قرار دونالد ترامب المضاد لليهودية بحظر المسلمين من دخول أمريكا – وأنه صار بطلاً لأعداء الإسلام، والذين هم أحياناً الغالبية في بعض الدول – وصار إلهاً لليمين المتطرف في أوروبا ولمعجبيه المنتشرين في إسرائيل. قطعاً وصول الخبر لي كان تجاوباً مع مقالي في سودانيز أون لاين عن نتنياهو وأطماعه المرتدة عليه، وهكذا يتبيّن أن ترامب بعد أن سمم الأجواء بالكراهية والفتنة العقائدية لا شعورياً، قد ساعد ظاهرة التواصل والتكاتف بين الكتابيين غير المتطرفين تجد كذلك ذلك التكاتف العقائدي واضحاً في تبلوره في مظاهرات شعوب العالم، من المسيحيين ومن كل الأديان، ضد ذلك القرار، بما يدهش كل من كان غائباً عليه أن المعركة ليست ضد الإسلام أو ضد أي أديان أو كيانات بعينها، إنما ضد من حرف صورتها وشوه رسالتها فأرداها سماً على البشرية وقنبلةً موقوتة على السلام العالمي والحقيقة المرة هي أن الجهل والغباء وغياب التحري المثقف صاروا شيمة العصر: فكما تفحّل الجهل في الأمم، سهل طريق التسلّط وقويت شكيمة الحاكم حتى يُحكّم الدمارَ بأمّته شكونا من جهل الإسلامويين وحذّرناهم من تشويههم الحق المبين، فتعنّتوا، وما حصدوا إلا الذل والهوان وشكونا جهل نرجسية السلاح والعسكرية في تغذية التسلّط وغياب العقل، فما ازدادت العسكرية وسلطة السلاح إلا مسرحاً لانتعاش الفساد وإذلال العباد، وصدق ترامب عندما وصف أفريقيا بأنها لم تخرج من عهد العبودية بعد (فبعد أن منعت تجارة الرقيق، وفي الحرب العالمية، مارست الدول التي لا زالت مشرّبة بتجارة الرقيق باستعمال الرقيق المقنّع بتعيينهم جنوداً بمرتباتٍ رمزية لقيامهم بالحروب بالوكالة عن الدولة الخبيثة) – وما نراه من الارتزاق وسوم البشر في افريقيا ويطل علينا عهدٌ نحن فيه الآن – ففي قيادة مركبة البشرية التي تم ترميمها وترويض خيلها بدماء وعرق ودموع الأجيال – يطل علينا دونالد ترامب بجهله السياسي والفلسفي، الرئيس الأمريكي الذي رشحته كتلة من الجهلاء الذين لم يعايشوا التبلور الحضاري الذي لازم المخاض العالمي لإرساء العقلانية والسلام ذاته لتعرقل مسيرته وتتلاعب وهي مسلوبة الإرادة بسبب جهلها لأنه واضحٌ جداً وكما أسلفت في مقالٍ سابق، أن روسيا هي التي تدير ذلك التحول الكبير، فهو تلاعبٌ بنظامٍ عالمي يؤدي عمله ويحمل معه ثقة فاعلة من كل العالم، ولا بأس، فروسيا دولة متمرسة في السياسة ولها دور في فلسفة التعايش البشري، ولا تقلّ عن أمريكا في أخلاقياتها السياسية إلا أن العيب في أنها تدير ذلك من على البعد وخلف الكواليس عن طريق أطراف تدّعي الإرادة ولا تدري أنها لا إرادة لها، لتتحكم في مصير أمة كأمريكا وإثارة فتنةٍ طاحنة في بقية العالم بعد أن تفرّغ النظام العالمي من وقود الثقة والتوافق في أرضية مشتركة ولا تتساءل كيف تم ذلك، لأنه من الواضح أن ترامب، وفي عدم إعداده لفهم وتحليل ديناميكيات الصراعات تحت القانون وأنظمة الأساس، ولعدم تشربه بدراسات التأريخ والفلسفة، يؤتمن على أزرار تحكّمٍ في منتهى الخطورة والتعقيد تهدد مصير نظامٍ تم وزنه بالثقة ورُهن بمصير أممٍ كثيرة، ينمّان عن الإرادة السليبة، والتي هي جلية بأنها تخدم إرادة فلاديمير بوتين – لربما لخيرٍ – ولمَ لا؟ لتعديل النظام العالمي بتغييب أمريكا منه لأنها تتعثّر في مراجعة نفسها في أخطائها فيه، وتداوم على انتهاك حرماته، ليس في تعزيرها على ما يسمح بحصانتها للتكليف الذي ترزح تحته لقيادة وحماية المركبة في سيرها، إنما في الأذى الذي تسببه على جسد النظام العالمي في حداثة عهده وضعف بنيته، وجله مسببٌ من ذئاب التسييس الديني المسيحي فيها وتغذيته للإسلامي واليهودي. وكما ذكرنا آنفاً يحدث ذلك في أمريكا التي لم ترضع ما يقوّي عودها من ثدي عهد التنوير الذي تمخض عنه النظام العالمي الحالي، فلم تبصق أمريكا بعد عن فمها طعم الاسترقاق ولا تشرّبت بنبذ الفصل العنصري ولا اجتثت جذور الانشقاق التي تتغذى من جراح أهل الأرض الأولين من الهنود الحمر التي لم تندمل، ورزحها تحت وباء الأسلحة النارية في الخلافات في مجتمعها الوليد. كل ذلك الخبز النيئ وترامب يرفث في زهو لعبته المفضلة: لعبة الأزرار وما تأتي به من تفاعلات المجتمعات ومشاهدتها تلهث تحت رحمته، ومجتمعات اليمين المتطرف في أوروبا، والتي منحها ترامب مناها بالرجوع بها إلى عهد الانغلاق والظلام والاحتراب الذي رزحت تحته أوروبا قبيل النظام العالمي بتدميره لها، وورثة الانغلاق من اليمينيين المتطرفين يُشجون بعيرهم بحدائه. ولكن أين بعيره؟ إن الشعب الأمريكي لا يريد الانعزال ولن يُفاد منه في كوكبٍ وفضاءٍ مشترك مع بقية البشر، متأثّراً ببعضه بعضاً سواءاً أراد ترامب أم أبى. بالفعل يمكنه أن يكتفي ذاتياً بما يحتاجه مجتمعه، ويمكنه حماية نفسه بنفسه وببرنامج انسحابه من المسرح العالمي (بالتحديد برعاية روسيا لذلك الأمر الذي يهمها بإخلائه الجو لها) ولكنه لن يحمي أمته من مخاطر التلوث البيئي والحبس الحراري الذي يدمّر الكوكب ولن يحمي دولته من كيد الأمم التي لها حساب معها لم تتم تصفيته بعد، يحلّق فوق رأسها، ليس لها إلا روسيا لتحميها مغبة الخسران الكامل فأولاً، أوروبا الغربية والتي ساعدتها أمريكا ببنائها بعد خراب الحرب العالمية بمشروع مارشال عام 1948، الذي قصد به تقوية أوروبا لإبعادها من التحالف مع روسيا كحرب على المد الشيوعي، وكانت بداية الحرب الباردة الأولى والتي انتهت ظاهرياً بتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، ثم زحف التحالف الغربي شرقاً ليبتلع دول أوروبا الشرقية واسبانيا واليونان، ثم بدأ يزحف على دول البلقان التي اقتلعها من الاتحاد السوفيتي السابق، وتحرّش بروسيا بحشد الترسانات العسكرية حواليها وعلى رقابة غواصاتها في المناطق القطبية، فيما يعكس ملامح حرب باردة ثانية وفي الوقت الذي استعد الغرب لفرض عقوباتٍ على روسيا وحشد لها جيوشاً جرارة في بولندا وكزاخستان، وبعد أن قررت بريطانيا مغادرة الاتحاد الأوروبي للعودة للتنسيق القديم مع أمريكا لاحتواء روسيا، والذس تسبب في إضعاف أوروبا وتقوية اليمين المتطرف هناك، في ذلك الظرف الدقيق جاء ترامب ليقلب الحال رأساً على عقب ويتخلى عن حلف الأطلسي ويوقف كل المساعدات المادية والعسكرية لحلف الأطلسي، واضعاً أوروبا، ليس فقط في موقفٍ استراتيجيٍ سيئ، وعسكرياً مهدد، إنما أحرجها تكتيكياً ودبلوماسياً في تخطيطاتها أمام روسيا بوضعها متحرّشةً بها ذلك بالإضافة إلى الطفرة الكبيرة في نمو اليمين المتطرف في أوروبا والذي أنعشه فوز ترامب في أمريكا، خاصةً في هجمة النزوح الضخم للاجئين من الحروب الطاحنة في سوريا والعراق أما في جنوب شرق آسيا فقد قرر سحب مشاركته في حرب أفغانستان، صندوق باندورا الثاني الذي فتحته أمريكا، وهو بذلك يقوم بتوقيع موافقة على استقلال دولة الطالبان. ويأتي القيد الذي رماه في أيادي المحاربين للإرهاب بعدم خبرته وهو ينادي بمحاربة الإرهاب: في مناطق العمليات الشرق الأوسط وفي جنوب شرق آسيا، لا زالت العراق تنزف من أخطاء بوش وبلير السياسية وهي في حربٍ أهلية طاحنة، وحرب ضد الإرهاب، فلم يسحب ترامب أمريكا من علاج المشاكل التي سببتها بمغامرتها في فتح صندوق "باندورا" الذي حذرها كل العالم منه، بل منع دخول حاملي جوازها من دخول الولايات المتحدة والذي يلزم حكام العراق معاملة أمريكا بالمثل: أي حالة معدة للحرب. نفس الشيء في دمار روسيا، حليفه الجديد، لسوريا وتشريد سكانها ثم حظرهم هم الأُخر من دخول أمريكا، ليغذي داعش لتجنيد هؤلاء – وهذه المرة يوقّع ترامب لمنظمة داعش، ولأول مرة يتأتّى ذلك لتنظيم إرهابي – بشرعية حربه وجهاده لأنه ينطبق عليهم الشرط الوحيد الذي شرّع به الله تعالى الجهاد عندما يعتدي عليك لكونك مسلماً لقتلك أو إخراجك من ديارك أو حتى التأليب لطردك من ديارك، في قوله تعالى :"إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولَّوْهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون" آية 9 سورة الممتحنة وهكذا يبدأ حربه على الإرهاب بمنح الشرعية للإرهاب وتغذيته له بالوريد، بمصادقته على تعبئة العالم المسلم المسالم للدخول في حربٍ جهادية مالم يتراجع عن حربه وتظاهره على معتنقي العقيدة الإسلامية، ومقابلة هدنة باهظة الثمن لفقدانه عيار الثقة ولا أبالغ، فخلقه الظروف الشرعية للجهاد، لا يعني بالضرورة الحركة الفورية إليه، فالعالم الإسلامي وغيره، قد يحاول خمد تلك النار قبل اندلاعها بالعقلانية والتأني. لكن محاربة داعش والجهاديين اليوم قد أُبطلت شرعيتها بقراره ذاك، وبالتالي الفاعلية الفورية في التطبيق، أي أن أي قتيل في جهادٍ إسلاميٍّ الآن ينطبق عليه مسمّى شهيد (والله فقط هو من يعلم نيّته تلك إن كانت صادقة أم كاذبة)، أما نحن فلا حق لنا في اعتباره معتدي أو أن قتله واجبٌ في حقه
وبالنسبة للمارد الثالث – الصين – فقد كسرت جرّة أمريكا بعد استعدادها لمغادرتها معارك بحر الصين الجنوبي وجمرة منغوليا الخبيثة المطلة عليها، لتستعين بكوريا الشمالية لاحتلال مكان أمريكا في الهيمنة على بحر الصين الجنوبي واستقطاب الفلبين ومص دماء حركة تجارة مجموعة الدول المطلة على المحيط الباسفيك في غياب أمريكا أما بالنسبة لأمريكا نفسها، فستشهد تفاقماً في نسيجها القومي والتهاب الجمرات الخبيثة التي تعرضت لها في مقالاتي السابقة عن تداعيات خروج أمريكا من الملعب، من فصل عنصري ومن أزمة الثقة، فسكان البراري والمناطق الوسطى والجنوبية لا يؤمنون بالصراع السلمي ولا بالمساواة في الاحتكام، وأما النصف الثاني من المجتمع المتحضر ومجتمع المدن، فهذا قد صُبّت روحه وجسده في القالب المؤسسي التقليدي، فهم ينتمون بالضرورة لحزبي الديمقراطيين والجمهوريين. فالديمقراطيون يشملون الاشتراكيين والذين لا يجدون في الانفتاح على روسيا مشكلة، بينما الجمهوريون والذين ينتمي إليهم كل جمهور ترامب، لا يستسيغون الانفتاح على روسيا والحرمان من بناء رأسمالهم من انشاء المؤسسات الضخمة خارج أمريكا إلا بدخولهم مع ترامب في مشروعه ببناء إمبراطورتيه التي ستديرها أسرته، ولا يستطيعون التخلي لترامب عن حزبهم، فسيتصدع النظام الحكمي في أمريكا أما إذا اختارت كل الجهات المختلفة معه، أو بعضها، انفرادياً أو ائتلافيا، لو اختارت محاربته في مشروعه ذاك فسينفتح صندوق "باندورا" بما ترزح به أمريكا من صراعاتٍ داخلية، وستكون أول من تذريها الرياح هي مبادئ الدستور الأمريكي الذي رسمه الآباء الأول وهم ينظرون وقتها إعصار المشاكل التي وجدوا أنفسهم فيها في بزوغ شمس حقوق الإنسان والانفتاح على العالم والذي نزل عليهم فرضاً بعد أن ذابت أسطورة حماية الأطلسي العظيم من هجمات الطامعين. وبما أن ترامب قد تعدّى بالسيطرة على النظام القضائي بتحديه القضاء الذي أبطل قراره بمنع المسلمين من دخول أمريكا، ثم فصله للنائب العام السيدة سالي يتس لأمرها باتباع قرارات المحاكم الفدرالية لتنفيذ القانون الذي عززته، يكون بذلك قد دق إسفيناً على وحدة واستقرار أمريكا وكأن الحرب الأهلية وحرب الاستقلال لم تكونا ويلزم تكرارهما
أما عدول ترامب عن قراره ذاك فيعني أنه سيرجع بأمريكا القهقرى في قيادة العالم وسيركم لها مراجعة أخطائه في حق الصين منها وحق المسلمين قاطبةً منها ومن إعادة صياغة النظام العالمي الجديد بما يحفظ للعالم حقه في العناية به وبتحصينه
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة