ذكرنا في الحلقة الماضية من هذا المقال أن محمود محمد طه لم يكن أصيلا في فكرة ادعاء الأصالة! وأنه سرق هذه الفكرة - من ضمن مسروقات أخرى - من تراث الصوفية المتطرفين. وقد ألمحنا إلى أن أصل الفكرة انبعث من زعم غلاة الصوفية الحلوليين أن بإمكانهم الوصول إلى الله تعالى، والاتحاد به، والفناء فيه، والامتزاج به؛ جل وعلا عن ذلك علوا مبينا. وما إن يصل الحلولي إلى تلك الدرجة حتى تسقط عنه التكاليف الشرعية وخاصة فرض الصلاة. وذلك لأنه قد تمكن أخيرا من أن يستبدل بصفاته البشرية صفات إلهية! والإله لا يحتاج بطبيعته إلى أن يصلي. ومع أن غلاة الصوفية يدَّعون لأنفسهم علم الباطن، ويستنكفون عن أخذ النصوص بظواهرها، إلا أنهم قد تمسكوا بظاهر الحديث الذي رواه البخاري حرفيا. وهو الحديث القدسي الذي جاء فيه:"... وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه". ولا شك أن أخذ هذا الحديث بظاهر ألفاظه لا يجوز. لأن العبد مستحدثٌ فانٍ وأن الله تعالى ليس بمستحدثٍ ولا فانٍ. ولا يمكن أن يحُلَّ غير المستحدث وغير الفاني في المستحدث الفاني! ولذلك يجب أن يكون معنى الحديث - كما شرحه السادة العلماء- أي: وفقته في كل ما يسمع ويبصر؛ فلا يسمع ولا يبصر إلا خيرا مستطابا، ولا يعمل إلا عملا حسنا، ولا يسعى إلا إلى عمل طيب. وقيل إن معناه: يجعل الله تعالى سلطان حبه غالبا على عبده؛ حتى لا يرى العبد إلا ما يحبه الله تعالى، ولا يسمع إلا ما يحبه الله تعالى، ولا يفعل إلا ما يحبه الله تعالى، ويكون الله سبحانه وتعالى في ذلك له عونا له، ووكيلا له، يحمي سمعه، وبصره، ويده، ورجله، عما لا يرضاه. وقد تجاهل الحلوليون هذا المعنى الذي ترتضيه قواعد التأويل وأخذوا الحديث على ظاهره وجعلوه أقوى حججهم على الإطلاق. وتمادوا في ضلالهم وقالوا إن الأولياء الذين اجتهدوا في العبادة يحوزون بمقتضى المعنى الظاهري لهذا الحديث منزلة سامية تعفيهم من العمل بظاهر الشريعة. وتسقط عنهم بذلك جميع الإضافات وتضمحل الإشارات! فالشريعة والعبادة لم تتنزَّل ولم تتفصَّل - بزعمهم - إلا لتكون وسيلة لمعالجة رعاع العوام وضبطهم. وأما من انتهى إلى غاية الطريق من الأولياء الأقطاب فإنه لم يعد في حاجة إلى مثل هذه الوسائل. وكما يرى القارئ فإن ذلك هو عين المعنى الذي سرقه محمود محمد طه و(سودنه) بإقحامه لمحلي عطبرة في الموضوع. وقد أسرف هذا المضل الذي أضل عددا من حمقى السودان بتزيُّده عندما قال:" ههنا يسجد القلب وإلى الأبد بوصيد أول منازل العبودية، فيومئذ لا يكون العبد مسيرا وإنما هو مخير، ذلك بأن التسيير قد بلغ به منازل التشريف، فأسلمه إلى حرية الاختيار، فهو قد أطاع الله معاوضة لفعله، فيكون حيا حياة الله، وعالما علم الله، ومريدا إرادة الله، وقادرا قدرة الله، ويكون الله". وها هنا شطح محمود شطحا بعيدا، إذ لم يكتف بظاهر الحديث القدسي، وإنما أضاف إلى العبد حياة خالدة كحياة الله تعالى، وعلما مطلقا كعلم الله تعالى، وإرادة تامة كإرادة الله تعالى، وقدرة على كل شيء كقدرة الله تعالى، ثم يصبح العبد بعد ذلك إلها كما زعم هذا الشخص الفتان! ومن أصبح إلها - كما أصبح إلها بوهمه محمود محمد طه - فلا جناح عليه عندئذ أن يخلع قيود التكليف وينكر فرض الصلاة!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة