قادتني محاضرة أُلقيت أول أمس الأحد في مركز راشد دياب للفنون على منبر منتداه الراتب الإسبوعي بعنوان ( حضارات سودانية ) ، إلى التفكُر العميق في ما لا يمكننا رؤيته أوسماعه أوحتى لمسه من وقائع تاريخية هي في الحقيقة موجودة و واقعة ومؤثرة لكننا لا نعتد بها في مجريات حياتنا اليومية ، فقط لأننا لم نُهيأ سلوكياً على ذلك فضلاً عن خواء دائرة الإدراك في نفوسنا من الشغف المفترض تجاه الإصرار على إستمرارية التاريخ في نسقٍ يتصالح وموروثاتنا الحضارية التي هي في الأصل إنعكاس مادي و محسوس لثقافتنا كأمة ، إن إشكالية كتابة و توثيق التاريخ لا يكفي أن تكون مصادرها الأساسية ما يتم إكتشافه من آثار حضاراتنا الغابرة ولا دراستها ولا تحليلها ، لأن ذلك يوقف أهمية دراسة التاريخ في مجرد جمعه على شاكلة كتب ومجلدات ، ربما أفادت الدارسين أو الوالجين الجدد من الأجانب إلى معرفة تاريخنا ، لكن المطلوب الآن أن تُوظَّف حضاراتنا المكتشفة والتي تمت دراستها و تحليلها لصالح رفع مستوى الإعتداد بالذات الثقافية ثم الإستفادة من الدروس و العِبر التي واكبت قصصاً مسرودة وأحياناً مُصوَّرة تحكي عن التطور الطبيعي لتلك الحضارات التي كانت أصدق و أنبل من يحكي عن ثقافة هذه الأمة المتعددة الأعراق والبيئات ، كيف لنا أن نربط ماضينا الغابر بما نعيشه الآن على المستوى السياسي و الحضاري والثقافي والإقتصادي ، وليُعمل المتخصصين أدواتهم في إستقراء الشخصية السودانية وسماتها السلبية و الإيجابية من أجل تقويم التجارب الجماعية في مجالات عديدة تم تشويهها عبر قولبتها إجباراً في مساقات حضارية مغايرة وأجنبية كانت في ماضى تعكس ثقافات أجنبية إستندت على بيئات وأحداث ومعتقدات لا تمت إلى أمتنا المجتمعة بصلة ، للآثار التاريخية المكتشفة في حضاراتنا المختلفة والمترامية الأطراف جغرافياً وعرقياً تأثيراً كبيراً وواضحاً على منهج كتابة التاريخ وعرضه ، تحت ميزان المصالح السياسية المحلية والدولية ، فما من نظام له مقاليد السلطة والحكم و السيطرة قادر على عرض ( الأثر التاريخي ) بوجهه الصحيح و الحقيقي إذا كان غير متوافقاً مع خطه الإعتقادي والفكري وربما المصلحي إذا جاز التعبير ، في رأيي الشخصي أن مدونات كثيرة من أهمها العلميات والتاريخيات والإبداعيات لن يستقيم أمر توثيقها لصالح مسيرة الأمة الحاضرة دون إفساح حقيقي و واضح المعالم لمسار الحريات التعبيرية لدى الأمة والتي بلا شك سيكون حاملو رايتها العلماء والأدباء والمبدعين و الآثاريون وكذلك المؤرخون ، يُستثنى من العاملين على كتابة وتوثيق وعرض التاريخ السياسيون لأنهم مهما كانت أشكال وأنماط تعاطيهم للسلطة لا يستطيعون إلا أن يُعبِّروا عن إعتقاداتهم و إلتزاماتهم المخططة ، لماذا تأبى أجهزة إعلام نظام المؤتمر الوطني الذي يحكم بالقوة و الصولجان أن يؤرِّخ لأحداث تاريخية باذخة ومستنيرة وآثارها موجودة ومكتشفة وأُزهقت تحليلاً كثورتي أكتوبر وأبريل المجيدتين ، لماذا لا يؤرَّخ لمجريات أنظمة الحكم التي تعاقبت على السودان وما قدَّمته من دروس وعِبَّر في مضامين العمل الإعلامي ومناهج التعليم الرسمية ؟ ما الذي يمنع ذلك سوى ( إنحشار ) منظومة الإنقاذ الحاكمة في زاوية خصائص الحكم الشمولي و التي لا مناص تدفعها يوماً بعد يوم إلى مقارعة التاريخ وآثاره التي ستظل خالدة و غير قابلة للإزالة و لا التزوير فقط لأنها ( أُكتشفت ) و تم دراستها وتحليلها على مدى واقعنا المرير الذي نعيشه اليوم .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة