كان من بقايا اليسار الذي تناثر في الأرياف بعد ضربة هاشم العطا.. شوهد الرجل في مناسبات معدودة بعد تلك الضربة، ولم يظهر عياناً بياناً، إلا عقِب الانتفاضة، ثم تراجع وانطوى في عزلته المجيدة، عندما هبّتْ ثورة الإنقاذ..عندها استكمل إحباطه وتزوج بنت عمه، ضارباً عصفور الجندرة بحجر كبير.. قال أحسن (يغتي قدحو) ويلبِدْ، ويتحول الى منتج للطماطم كتعويض، عن انحسار المدّ الأحمر بعد انهيار سور بريلن.. لكن الإنقاذ لم تتركه وشأنه، إذ أوصلته سياساتها إلى حقيقة أن البلد ما بتنقعِد، بينما كان هو يبدي سخطه، ويقول بين ذويه: بالله شوف العجيبة دا.. الكيزان ديل، ما باقي ليهم، إلا يقولوا أنو (الدّكّاي) حرام..! وصل نبأ إحباطاته إلى الدناقلة العاملين في الخليج، فاجتمعوا وقرروا استقدامه إلى دنيا الإغتراب، لعل وعسى يبدأ حياة جديدة لا علاقة لها بالمؤثرات الفقهية الطاغية.. وصل صاحبنا إلى غربته، وانخرط في العمل.. برع فى حصد الريال، لكن ضاع من بين يديه ابنه البِكر، الذي تغلغلت في ذهنه مفاهيم السلف، فأصبح من اللائذين بالمساجد واعِظاً للناس، مبتدئاً بكبسولة: أوصيكم ونفسي.. كان الأنداندي اليساري، يرقب تلاعب الأقدار به، من خلال شطحات ابنه.. بعد ظهور القاعِدة، كم حذّره مِن مغبة الانغماس في ذلك الطريق: ــ «يا زِفتْ التّين»، إنت حتعمل لي بتاع دين، أكتر من حسن بِجّة؟ ــ إنت ليش، ما طلعتَ زي الأولاد، اللِّي بيدرسوا الفيزياء والنّحت واللُّغات؟ ــ أنا أتعب فيك عُمري كلّو، تجي في النهاية، تقول لي، (جزاك الله هير)؟.. هكذا، بذل عديد المحاولات لإثناء ابنه عن التشدد، لكنه لم يفلَح.. قال له مِراراً: يا ابني، إحنا جِدّنا الكبير كان بيصلي بالعمّال كلُّهُم، في قصر عابدين، ده مش كفاية؟.. يا ابني إحنا عاوزين دِين، على قدر حالنا..! كل هذا لم يغير من تفكير ذلك (الكائن الحلَوي)..عندما أعيته الحيلة، ركب الدنقلاوي رأسه، وقرر تصدير ابنه، إلى الدّاخِل.. ذهب مباشرة، وسلّم جوازات سفر أسرته لمكتب الأمير وطلب بإلحاح، خروجاً دون عودة، وعاد يحكي غزوته لدناقلة الغُربة.. قال لهم إنه اتخذ قراراً بترحيل (زِفْت التِّينْ) إلى الداخل، عشان حكومة الكيزان (تعرِف حاجة)..! في قيدومة الوداع، إلتأم الدناقلة على الكابيدة، يتجاذبون أطرف الحديث على سجيّتهم، بحضور الابن.. دخلوا في ونسة صريحة، لا تُحتمل ولا تُقال، إلا عبر شفرات الرطانة.. تطاولت ضحكاتهم إلى حَكايا الليل، والنساء، والعشق الخفي.. كان بوحاً هستيرياً لا تراقبه جماعة الأمر بالمعروف، ولا يقيِّده اللّوم.. وكلما ارتفع مستوى الشفافية، زاد امتعاض الابن، (الكائن الحلَوي).. وأوغل العواجيز، بين معارج التدخين والتمباك، إلى غزل بلغَ مبلغ:(هوي يا ليلي هوي)، وتمدد فوّاحاً، إلى تلك المنافذ المحظورة!.. هنا نفد صبر الكائن الحلَوي فانفجر فى عواجيزه، بجاهزيته الخطابية، صارِخاً فيهم : (يا قوم...)!.. بهلَ فيهم مواعظه، مذكراً بعذاب الآخرة، ومشيراً إلى أن تلك الونسة (التِّحْتانية)، تتنافى مع منهاج السلف الصالح.. وختم خطبته الغاضِبة، طالباً منهم الاستعداد للفريضة! دُهش الرهط، الذين أدمى قلوبهم الاغتراب، فتساءلوا، واحداً بعد الآخر: ــ مين ده..؟ ــ دا الوّاد، عاِمل فيها نِصف نبي، وإحنا مُش عارفين..! ــ هو إزاي، عامِل في روحو كِدا..؟ هُنا وقف صاحبنا، وأطلق آهاته المرطونة: يوووه.. كلونوكورريه.. الجّماعة دول في السودان، شبكونا دِين في دِين، قلت نسيب ليهم البلد، ونِغتَرِب عشان نرتاح، يقوم يطلع لي في الغربة، (زِفْت التِّينْ) دا..؟ بس أنا مُش حأسيبهُم، أنا راح أرجِّعو ليهُم، عشان حكومة بتاع الإنقاذ يعرف، إنو أنا (دينياً)، وصلت حالة الإكتفاء الذاتي، ودخلت معاهم، مرحلة التصدير..! akhirlahza
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة