سيرة بني هلال مثل سيل الغدران التي تتدافع وتنقطع، كيفما كان حال الخريف. يقال إن الأرض جدُبت، وجفّ العُشب، فخرج أبْ زيد الهلالي في زمانه، متأبطاً سيفه.. وجد في طريقه رجلين يقتتلان. نزل من دابته، وألقى عليهم السلام.. قال لهم: يا ناس، العَوّة في شنو..؟ قالوا: نحن أُخوان وأبونا مات، ولم يترك لنا غير غنيمات.. قسَم أبْ زيد بينهم الأغنام وصالحهم فوق الأرض، ومضى في طريقه. بينما كان يسير في طرف الحّلال، سمع أنين إمرأة تغالب دمعها.. تذكّر أُنثاه، كيف ولدت له الضّنا، وكيف عانت من أجله، حتى يكون أباً، قفل أبْ زيد راجِعاً، ففرحت به، وقالت له بين دمعٍ غزير:ــ سلامتك يا الحبيب، أريتو الرزق يطير! ولكن الدار لم توقد النار.. الدار نعق بومها، ونسج عنكبوتها على الدُّوَاكْ.. قفز أبْ زيد من خِدرِها، فلم يكن أهل البادية، يعلمون أين يهيم.. عاد إليها في الليل بصيدٍ من حُبار.. في اليوم التالي جاءها بقربة من لبن.. في اليوم التالت عاد خالي الوِفاض، تذمرت في وجهه من رهق العيش..! احتقب أبْ زيد سيفه وحمل فأسه ودخل الغابة.. كان الغيم يربط خيوطه في الأفق. عاد إليها بسعنٍ من عسل النحل.. كان النحل قد وخز كل جسده ولم يترك له غير عينيه، قالت وهي تعالجه بدِلاك الطين: وحاتك العسل بقي زي الحنضل! رقد أبْ زيد موجوعاً حتى كرَفَ زيفة الخريف، عِندها هبّ واقفاً، كأنه نشِط من عقال. دخل عليها بما تبقى عليه من طِين، ثم خرج منها إلى البِلدات وعلى كتفيه سيفه والتيراب، الهِلالي لا يفارق سيفه أبداً، كان يحتقب سيفاً وأنثى تتلصص جسده في المغارب.. زرع في حشاها نطفته وهام في الفلوات، عاد بعد غبار السنين، فوجد صبيان الفريق يلعبون فوق تلال الحِلّة، وقف بينهم فوق خيله، بحلق فيهم دون أن يحادثهم. مدّ يده المعروقة وخطف ابنه- جَنا الحَشا- من بينهم وأجلسه فوق ركبتيه. حمحم الحصان قريباً، فسمعت أُم الصبي تلك الجلبة، علمت أنه عاد، فدخلت إلى دخانها، بينما أخذ الصبي حصان أبيه إلى المرعى، بعد عفيص الليل، خرج أبْ زيد إلى الظل، فتجمع حوله رِجال ونساوين وأطفال، حدّثهم عن أهوال السفر، وعن هدأة المغارب في الصحارى. تبدو الصحارى هادئة، رغم فرفرة طيور القطا، وفحيح السعالي، وصدى النداءات، والآهات العطشى.. قال رجلٌ في المجلس: سمحات السُّنون في العوين، وسمحات القرون في البقر، و يا سماحة الدقون في الرُّجال.. أبْ زيد قال لا، سمحات البقر أُمّات شوايل، وسمحات العوين أُمّات نفايل، وسمح الرُّجال شيّال التقيلة ود القبايل، سأل أبْ زيد ناس المجلِس: رهيف الظل ياهو شنو، وحُلو الشّم ياهو شنو، وسمح الدرب كيفنّو؟ أجابه أحدهم: رهيف الظل ياهو التبلدي، وحلو الشّم هي الخُمرة، وسمح الدرب ياهو درب الجُّمال.. أبْ زيد قال لا، رهيف الظل هي المرأة مستورة الحال، وحُلو الشّم ياهو الطفل الرضيع، وسمح الدّرِب، درب الرُّشاش. ثم التفت إلى ابنه يوصيه:ــ يا ولدي، البِحَقِر بي قليلو، كتير الناس ما بيزيدو، والمال ودارو ساهِل، وجمْعو صعيب، زي حفر البير بالإبر، في الحجر القاسي.. ومما يُسب له في بلاد السودان قولهم:»أكان حرنتْ تقطَع سِلسِلْ الحدَّاد، وأكان سِهلتْ بي خيط العنكبوت تِنْقادْ»!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة