حل الشتاء مجرجرا ذيوله وخيوله وعياله والقى بظلاله الكئيبة علينا ، نحن قوم استوائيون لا نحتمل البرد القارص ولدنا وترعرنا تحت حرارة الشمس الحارقة والبرد عندنا بالسودان ليس الا شوية ( طراوة ) تبدأ فجرأ وتنتهي عند الثامنة ولا يتجاوز عمره الشهر مما جعلنا لا نضع له اي طقوس خاصة او ملابس خاصة نقضيه (رجفبية ) الى ان ينجلي، هنا في منطقة الخليج البرد برد بمعنى الكلمة تحس انه دخل في عظامك وتغلغل في روحك بل وخنقك ، البرد يصيب الاستوائي مثلي بحالة من الضجر والكآبة والحزن لأنه لا مفر منه اينما ( اتحشرت ) فهو يلاحقك ويتغلغق معك لا بطاطين ولا اساطين تحميك من الاحساس بأن الحياة خانقة ومملة ونفسك مكتوم ولا تدري الى اين تذهب وكيف تقضي يومك ، القوم هنا من اهل الديار متعودين عليه بل ومستأنسين به لهم لباسهم الخاص الرجل منهم يقابلك منتفخ في ثيابه الملونة وكأن شيئأً لم يحدث وآخر انبساط ، تروج عندهم هذه الايام تجارة حطب التدفئة ومحلاتهم تعلن عن التخفيضات والماركات من ملابس الشتاء ، حتى بيوتهم مصمم بها ما يسمى ب ( المشبات ) وهي غرفة خاصة تبنى للتدفئة بصراحة لو وجدت واحدة منها لنسيت البرد وكآبته ، ولكن يا حليلنا نحن هنا في هذه الغربة لا مشبات ولا ( بشتات ) البشت هو شيء مثل العباية اذا لففته حولك ممكن تعرق في عز الشتاء ده مخصص اكثر للعجايز وكبار السن يقابلونك به في المسجد فتجد الرجل منهم مثقل بالملابس الداخلية والشرابات التخينة وفوق كل ذلك ملفوف في البشت فمثل هذا مؤهل للحضور لصلاة الفجر في المسجد وهو مطمئن ، اما نحن السودانيون فحالتنا حالة اينما ذهبنا لا نتأقلم ولا نتبرمج حسب البلاد التي ذهبنا اليها بل نعيش فيها بنفس وضعنا في بلدنا فتجد السوداني ( يا عيني ) بجلابيته البيضاء الخفيفة الواسعة يلوج فيها ولو بالغ يلبس ( سيوتر ) وينطلق في البرد فينطلق البرد في جسمه فيصاب بالرطوبة والكآبة لكونه اما مكابر او غير قادر ان يكتم على نفسه بهذه الاصواف الثقيلة ، انا عن نفسي لا استطيع هذا التقييد والكتمة والشماعات المتحركة وبصبر على كآبتي حتى يغادر الشتاء وتجدني اعد ايامه اكثر مما اعد ايام رمضان . نادراً ما ارى سوداني له ثياب خاصة للشتاء اعني ( جلاليب ) ياها نفس ملابسنا طول العام يمكن ان نشتري ملابس شتوية لاطفالنا ونلفلفهم فيها ولكن نحنا لا يهمنا برد ولا تهزنا ريح نواجهه بصدرونا العارية وجلايبنا الخفيفة جدا وفي بيوتنا بنفس ( العراقي الملهوط ) نرجف وتصتك اسناننا ولكن لن نبدل تبديلا دي عادتنا وتقاليدنا نرجف ونبرد ونتعب ونتحمل مع انه ملابس الشتاء متوفرة ورخيصة ولكنها ليست من ثقاتنا ولا نطيق اي شيء يغير ثقاتنا . وأتحدى اي رجل منا يشتري جلابية شتوية ملونة ( النوع المشخت داك ) ويجي داخل الى بيته ، اول من ينتقده ويسخر منه هي زوجته (مالك الليلة يا راجل جنيت ده شنو العولاق الجبته ده كتمت نفسنا ) . تريده هكذا خفيفاً نحيفاً نظيفاً ، الفته بجلابيته البيضاء و(عراريقه المفتقة ) ولا تطيق ان تراه باي منظر آخر . انا عن نفسي فصلت اثنين هذا الشتاء بنصيحة من احد الاصدقاء الخارجين عن المألوف ولكنهما مائلتان الى الجلاليب العادية اكثر من كونها شتوية وهي اقرب ( للقشرة ) من كونها جلاليب لمكافحة البرد ويعني تعتبر خطوة خجولة في طريق التغيير. في اماكن العمل تجد زملائنا من اهل الديار عبارة عن مهرجان الوان ذاك بالاسود البلاك وآخر مشخّت وثالت بني غامق ورابع ازرق ناضر وناير ، يتبارزون في التشكيلات والالوان وماشاء الله هي زاتها لايقة عليهم ومفصلة على اجسامهم والوانهم فلا تجد فيها شذوذ او نشاز ، وتجد سواليفهم شتوية بحتة وكل ما تقول الشتاء خلاص قرب يودع يجبك واحد يصدمك بقوله ، والله الليلة دخلنا في المربعانية هذه تعادل ام شير عندنا ، اتدرون ما المربعانية يعني اربعين يوم اخرى من البرد القارص . وكذلك النمط الغذائي عندهم يتغير جذريا من الصيفي الى الشتوي وكما اسلفنا يتحولون كلياً الى المشبات ويكثر الشواء والقهوة والمشروبات التي تحفز الدفء وتبعد امراض واعراض الشتاء ، لكن نحن بالكثير تعوس نسائنا القراصة باعتبارها اخترعت خصيصا للشتاء بينما نأكلها في الصيف اكثر من الشتاء وهي نفس قصة الجلابية ، نحن قوم خلقنا هكذا نهاجر وتصحبنا عاداتنا وتقاليدنا اينما رحلنا ناسين ان هناك بلاد بها طقوس جمع طقس واختلافات يجب ان نجاريها كي لا نهلك ، لذلك تجد المغترب منا ما ان يصل الخمسين من عمره يكعكع ويدخل دور العجوز بجدارة ( عشان تاني تكابر وتعاند ) . مع تمنياتي لكم بشتاء خفيف تحتمله اجسادكم النحيلة ايها السودانيون الطيبون . عبد المنعم الحسن محمد الرياض - السعودية
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة