يُغرم (الباحث!) النور حمد إلى حد الهوس بعامل العقل الرعوي ويبادر إلى استخدامه لتفسير أي انحراف يلحظه في السلوكيات الاجتماعية السودانية. وعلى سبيل المثال الطريف فهو يفسر ظاهرة توسيع الناس لمحيط عقاراتهم على حساب الشارع العام بتسلط العقل الرعوي عليهم. واسمعه يقول بهذا المعنى:" أخذ سكان الامتدادات السكنية المختلفة، يبنون مصاطب خارج بيوتهم، ثم يقومون بتسويرها؛ إما بسياج شجري أو حديدي أو بكليهما، فضاقت الشوارع وأصبحت لا تتسع لمرور سيارتين، تسيران متعاكستين.. (يا بالغوا هم يا بالغت إنت يا النور!) يقضم جارٌ جزءا من الشارع، ولا يعترض عليه جاره، وإنما يتخذ من ذلك ذريعة ليقضم هو جزءا من الشارع مثله وفي صمت تام. وهكذا تستمر هذه المؤامرة الصامتة لقضم الشارع ليتحول إلى مجرد زقاق. ومن يقومون بهذا النوع من نهب الملكية العامة، والحاقها بالملكية الخاصة في القرية وفي المدينة، يعدونه (فلاحة) و(نجاضة) و(شطارة). بعبارة أخرى، يصبح الاعتداء على الحيز العام فضيلة ومأثرة ". (بالجد ماليهم حق! لكن إنت برضو ما ليك حق تلاحقهم، طالما هم راضين والدولة راضية إنت مالك ومالهم؟!). هذا هو وصف الظاهرة عنده، وأما تعليلها فهو بسيط وجاهز، إذ يعود ليستخدم في تعليلها عامل العقل الرعوي الذي يراه صالحا لتعليل كل شيء، وهنا قال:" لهذا النمط من الأخلاق السيئة جذور تاريخية؛ فما يهم الفرد أو الأسرة، هو منزلهم وحسب، ولا شأن لهم بالشارع؛ اتسع أو ضاق أو انغلق كليا. فهذه العقلية تقف على النقيض تماما (ليه ما تكون جزئيا؟!) من نظم الدولة، ومن أسس التخطيط الحضري، ومن جملة ما نسميه، المصلحة العامة المشتركة. هذا مع أن أساس فكرة الدولة، بغض النظر عن صورتها التي تكون عليها من صلاح أو طلاح، هو إقامة الوزن بالقسط بين الحيز الخاص والحيز العام، فالتمدن كله قام على القوانين التي تحافظ على هذه المعادلة البسيطة؛ لكن العقل الرعوي بطبيعته يضيق بهذه المعادلة، ويظل يعمل على تكسيرها ما وسعته الحيلة ". فالرعاة عنده هم سبب هذه البلية التكسيرية التوسيعية التي تعاني منها شوارع المدن السودانية. وإذا علمنا أن الرعاة لا يبنون في العادة مساكن ثابتة، وأنهم لا يقيمون في أماكن دائمة، فما ذنبهم إذن فيما يفعله سكان الحواضر في مساكنهم وشوارعهم؟! إن هذا التصرف الذي تحدث عنه (الباحث!) وتسرع في إدانته بغير موجب، وعزا جريرته إلى الرعاة المساكين، لا ينبعث في الحقيقة من هموم الرعاة، ولا من طبيعة حياتهم، ولا يشبه أيا من أطوارهم. فهم قوم لا عناية لهم بتشييد المساكن الحضرية، ولا توسيعها على حساب الشوارع والميادين والبساتين والطواحين والدكاكين وهلمجرا.. وخيرٌ لهذا (الباحث!) الآحادي العقلية، القليل الحيلة، أن يبحث له عن سبب مؤثر آخر أو عن جملة أسباب مؤثرة أخرى لتفسير الظاهرة التي اهتم بتشريحها ولم يوفق إلى عوامل تسبيبها. وجليٌّ جدا في نظر أي عقل محايد غير مشحون بالشحناء وغير محقون بالبغضاء المفرطة للعرب أن العوامل المسببة للظاهرة التي تحدث عنها هذا (الباحث!) الشعوبي هي أكثر من أن تحصى. ولعل الأبرز من هذه العوامل؛ عامل تضخم الأسر السودانية على مرِّ الزمن بكثرة الإنجاب. ومنها عامل العيش التكافلي الاجتماعي السوداني الذي يجعل البيت يضيق بمن يؤيهم من الأقارب والأباعد. ومنها عامل سوء التخطيط العمراني الحكومي الذي ضيق مساحات المنازل من حيث الأصل، وضيق نطاق الشوارع من حيث الأصل. فعلى هذا (الباحث!) إن كان صادقا وجادا في بحثه أن ينظر إلى مثل هذه العوامل القوية الواضحة، وأن يقدرها حق قدرها، وأن يمنحها اعتبارها المستحق في بيان (أطروحته!). وعليه أن يجهد عقله في إثر ذلك ليبحث عن عوامل إضافية لتفسير الظاهرة التي يعالجها. وعليه أن يرحم قليلا هذا العامل اليتيم، عامل العقل الرعوي، الذي يحمله كل المتاعب والأعباء! وعليه قبل ذلك كله، أي قبل أن يقدم على إجراء أي بحث اجتماعي، أن يتلقى من دروس مناهج البحث العلمي الاجتماعي في الجامعات قدرا من العلم بما يسمى بالمنهج البنيوي في استيعاب الظواهر وتحليلها، وهو منهج علمي متين ينأى بصاحبه عن اعتماد الآحادية التبسيطية، ويدفعه دفعا إلى التغلغل في بنية الظاهرة محل بحثه، ليحيط بجلِّ أو كلِّ ما يؤثر فيها من العوامل. وهو منهج علمي منتج، يتطلب خصوبة ومرونة في العقل، وسعة في الخيال الافتراضي، وجدية ودأبا في الدرس، ولا يجدي معه الكسل العقلي ولا التبسيط البدائي الذي يحيل الظواهر الاجتماعية المعقدة إلى عامل وحيد، هو العامل الثقافي، أو إلى فرع ثانوي من هذا العامل، كالفرع الذي يتشبث به الباحث بزعمه النور حمد ويسميه بعامل العقل الرعوي. وما أشبه (باحثنا!) هذا المسمى النور حمد بطبيب متعجِّل (يشخِّص) كل الأمراض المختلفة على نحو واحد، ويعزو أسبابها جميعا إلى عامل واحد، وليس له في علاجها جميعا إلا علاج واحد؛ علاج يصلح لجميع أنواع السرطان، كما يصلح لتهدئة أوجاع الآذان، وتسكين آلام الأسنان! وعلى هذه الوتيرة عينها ما كاد المطبِّب الاجتماعي، المدعو النور حمد، يفرغ من بحث العوامل المسببة لظاهرة توسيع المساكن على حساب الشوارع بردِّها إلى سلطة العقل الرعوي، حتى دلف إلى معالجة ظواهر أخرى مختلفة عنها تمام الاختلاف ثم قام بردِّها جميعا إلى عامل العقل الرعوي قائلا:" أيضا سبق أن ذكرت، أن سودنة الوظائف التي جرت قبل الاستقلال بقليل منحت أكثر من 98% من الوظائف للسودانيين الشماليين، حتى في الجنوب، وهذا تصرف جرى على ذات الأنساق التي ذكرنا". ولا أدري كيف كان للرعاة أو كيف كان لعقل الرعاة السلطة التنفيذية التي تولت تقسيم الوظائف هكذا، هذا إن صح فعلا أن الوظائف قسمت هكذا؟! وكيف جهل هذا (الباحث!) أن عوامل أساسية مهمة أسهمت في هذا التقسيم غير المتعادل؛ منها ضعف انتشار التعليم ضعفا ذريعا في ربوع الجنوب، وهو ما تم بإرادة السلطة الاستعمارية لا بإرادة الشماليين. ومن هذه العوامل اندلاع التمرد في الجنوب قبل يوم السودنة بعام واحد، وهو ما نشر جوا من التوتر وأدى إلى ضعف الثقة بين الطرفين. ومن هذه العوامل عدم مطالبة الجنوبيين أنفسهم بتولي الوظائف الحكومية، وقد كانوا هم أدرى الناس بعدم تأهُّلهم لتولي معظمها! وفي الحقيقة فقد كان الجنوبيون مقتنعين تمام الاقتناع بما جرى، أما من يرومون تحريضهم على الشماليين، كقائد النخبة الفاسدة منصور خالد، وأتباعه من أمثال هذا (الباحث!) الشعوبي الحاقد فهم من يحلو لهم أن يستثمروا في هذا الموضوع التاريخي المتقادم. ثم فسَّر (الباحثّ) الجمهوري العَجِل الآحادي النظر ظاهرة توسُّع الموظفين السودانيين في استخدام (تصاريح) السفر على أنها أيضا من ولائد العقل الرعوي فقال:" تبعت ذلك تصاريح السفر على الطائرات والقطارات والبواخر". ولا أدري كيف علَّم الرعاة الذين يتنقَّلون على ظهور دوابهم أفندية العواصم السودانية أن يسافروا على مركبات الجو والبر والبحر؟! (ياخي حرام عليك!) ثم نسب هذا (الباحث!) المهووس بداء العقل الرعوي إلى هذا العقل خطيئة توجيه الأفندية إلى حياة الدعة والراحة قائلا:" تفتحت عقب الاستقلال شهية العقل الرعوي للحيازة وللتملك ولتحقيق المجد الشخصي والوجاهة الاجتماعية. واندفع إلى الغرف من المال العام، بما يشبه الجنون. دلل الوطنيون أنفسهم من المال العام، تأسيا بالبريطانيين، وجاء من بعدهم خلفٌ ساروا على ذات الدرب، لأن البنية العقلية ظلت كما هي ولم تتغير". ولنا على قوله هذا ملاحظتان: أولاهما: وقوع (الباحث!) في نوع من الخبط، إذ نسب ميل الأفندية إلى حياة الترف إلى دافع العقل الرعوي، مع أنه في الفقرة نفسها قال إن الأفندية فعلوا ذلك تأسيا بالبريطانيين! فهل يا ترى كان البريطانيون كذلك رعاة، أم أن هذا (الباحث!) يخبط في (بحثه!) بلا تقاة وبغير أناة؟! وأما الملاحظة الثانية، فهي عن الخطل الفادح الذي جعل (الباحث!) ينسب إلى الرعاة أنهم علَّموا أهل الحواضر بل علَّموا النخب الحاكمة من أهل الحواضر عيش الترف والسرف، فهذا أبعد ما يكون عن عيش الرعاة، وفاقد الشيء أبدا لا يعطيه!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة