لقد كان السودان بيئة رعوية، ولكن لم يكن فيه رعاة، ولم تكن فيه عقلية رعوية! أو كان في السودان رعاة، ولكن لم تكن لهم عقلية رعوية! إن هذه هي المغالطة أو (الغلوتية!) التي يريد أن يقنعنا بها الكويتب الجمهوري الدكتور النور حمد. وهي المغالطة التي تنطوي في قوله الذي افتتح به الحلقة الثالثة من (اطروحته!) في تحليل بنية العقل الرعوي قائلا:" بنية العقل الرعوي ليست بنية عقلية خاصة بالسودان، وإنما بنية وفدت إليه منذ بداية تماهيه مع الفضاء العربي، منذ القرن الرابع عشر الميلادي". وطبقا لهذا القول فإن الجزيرة العربية التي ليست فيها مراع شاسعة كان فيها رعاة كثر، وكان يستبد بها العقل الرعوي! وأما بلاد السودان بمراعيها الشاسعة فلم يكن فيها رعاة، ولم يستبد بها العقل الرعوي! وذلك إلى أن دخلها العرب الرعاة قبل خمسة قرون وعلموا أهلها الرعي ونشروا فيهم العقل الرعوي! إن هذا هو نمط التشريح الأعمي الذي يمارسه هذا (الباحث!) على ما سماه ببنية العقل الرعوي. فهو لا يرى من الظواهر إلا تلك التي يكرهها كرها جما ويصب عليها جام غضبه! فهو لا يرى رعاة بين السودانين، وهم أصلا رعاة، ولكنه يرى الرعاة قادمين إلى السودان من خارج حدوده، وهم العرب الذين يشنأهم من صميم فؤاده! وهو لايرى رعاة من بين السودانيين، الذين كانوا وما زالوا في قسم كبير منهم رعاة منذ فجر التاريخ، ولكنه يرى الرعاة فقط بين الذين تسربوا إلى السودان حديثا في القرن الرابع عشر الميلادي كما قال! ثم يتجاسر من دون أدنى تحليل إلى استنتاج لا يدعمه أي دليل؛ فيزعم أن هؤلاء الرعاة العرب الطارئين عطلوا بنية العقل السوداني، التي لم تكن رعوية، ثم صاغوها من جديد على النمط والمزاج الرعوي. وليس لاستنتاج هذا الباحث غير المدقق أي معنى سوى أن بنية العقل السوداني (اللا رعوية في زعمه!) كانت هشة جدا طالما استطاع أن يتلاعب بها هؤلاء الرعاة من شذاذ الآفاق! أو ربما لم تكن للعقل السوداني بنية محددة، طالما أن استطاع هؤلاء الرعاة أن يحوروها ويصوغوها كما يشتهون! ثم (تماهى) هذا (الباحث!) بزعمه مع هواه، أو مع ضِغنه للعرب والمسلمين، فرأى غازيا آخر لبلادنا من قِبل المسلمين، وهم من عرفوا خطأ باسم الأتراك، وهم في أصلهم ألبانيون وبوسنويون، فقال:" وهو تماهٍ اكتملت أركانه على أيدي الخديوية حين غزت البلاد، في نهايات الربع الأول من القرن التاسع عشر"! فهؤلاء الغزاة، وإن لم يكونوا رعاة، فهم عند النور رعاة! و(غصباً عنَّا) يجب علينا أن نذعن لزعمه هذا الذي ماله من سند ونسلِّم به! وذلك من أجل أن تتسق أطروحته الملفقة وتتماسك ولو على نحو شكلي! أي أن علينا أن ننكر حقائق التاريخ، وأن ننبذ حقائق الجغرافيا الاقتصادية، وأن نمسخ حقائق علم الأنثروبولوجيا، وذلك حتى تتماشى (أو تتماهى!) هذه الحقائق مع ما يقول به (الباحث!) الجمهوري النور حمد! وكأنما قد توهَّم هذا (الباحث!) خطأ أن الحضارة النوبية القديمة كانت حضارة صناعية يعيش أهلها في الحواضر العامرة، كما في الحواضر الأوروبية مثلا، وكأنما توهَّم أنه لم تكن ببلاد النوبة القديمة مناطق سكنى منعزلة في الفيافي، وأنه لم تكن بها بوادٍ ووِهادٍ شاسعةٍ، وذلك إلى أن حلَّ بسوحها الأعراب فنشروا فيها البداوة وعلموا أهلها رعي القطعان. وهذا الوهم هو ما ينضح من قوله:" بدخول الثقافة الرعوية التي حولت القرى النوبية الممتدة على طول مجرى النيل إلى ما يشبه البادية، انقطعت التواصلية الحضارية السودانية، واعتلَّ من جراء ذلك البناء العقلي والوجداني السوداني؛ فقد تكاثرت هجرات البدو في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، فأصبحوا يمثلون فيه الأكثرية الغالبة ذات البأس. ومع بداية القرن السادس عشر لم تبق من الممالك النوبية مملكة قائمة سوى سوبا. حينها قام تحالف بين عرب العبدلاب والفونج فهوجمت سوبا وسوِّيت بالأرض، ودخل السودان منذ تلك اللحظة في موجة من الصراعات العنيفة المتواصلة استمرت لثلاثة قرون". أما قبل ذلك لم تكن هنالك صراعات في السودان كما يظن هذا (الباحث!) المدقق في درس التاريخ! ولا شك أنه ظنه هذا باطل بطلانا تاما؛ حيث لم تخل حقب التاريخ السوداني القديم من الصراعات الداخلية بين الحكام أنفسهم، وبينهم وبين شعوبهم، وبينهم وبين العالم الخارجي، خصوصا مع دولة الفراعنة في مصر ودولة أكسوم الحبشية. وفي هذا المجلى يجهل الدكتور النور حمد ما لا يجهله طلاب العلم في المدارس الوسطى من حقائق تاريخ السودان القديم. أو ربما تجاهل هذه الحقائق عمدا، وهو تجاهل يصبح خيرا منه عندئذ الجهل المطلق! وربما تجاهل هذه الحقائق لأنها لا تتسق مع أطروحته المزعومة. فهو يتجاهل غزوات الفراعنة والأحباش لأرض السودان، وغزوات الأواخر التي انطلقت من مملكة أكسوم في شمال الحبشة هي التي دمرت حضارة مملكة مروي التي يتغنى هذا (الباحث!) بأمجادها وحضارتها. إنه يتجاهل هذه المغازي التي اجتاحت بلاد السودان ودمرت حضارته القديمة، ولا يطيب له إلا أن يذكر غزوة العرب المسلمين الأماجد لبلادنا، لينحي عليها باللائمة، ويحمِّلها زورا وزر ما نحن فيه من الأرزاء. وإنه ليفعل ذلك رغم أنه يعلم تمام العلم أن غزوة العرب الشرفاء لبلادنا إنما كانت غزوة سلمية، غزت قلوبنا ولم تغز جيوبنا، وجاءت إلينا بالدين الحنيف. وهو يردُّ إلى غزوة هؤلاء العرب العظماء كل سيئات الثقافة الاجتماعية السودانية التي بلورها فيما سماه زيفا بثقافة العقل الرعوي. أما غزوات غير العرب لبلاد السودان فإنها في نظره غزوات تحديث وتمدين. فهو لا يني يمدح حقبة الاستعمار الامبريالي البريطاني ويصفها بأنها فترة تحديث وتمدين. وقبل ذلك يدين حقبة حكم المهدية ويعتبرها امتدادا لغزوات الرعاة العرب الهمجيين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة