المفكر الإنجليزي فرانسيس بيكون (١٥٦١-١٦٢٦م) فرّق بين ثلاثة أنواع من العقول، مشبهاً كل نوع تشبيهاً رائعاً فالنوع الأول كالنمل والثاني كالعنكبوت والثالث كالنحل. وجه الشبه أن النمل لا يعدو أن يخزن ما يجده جاهزاً ليأكله لاحقاً. أما العنكبوت فهو ينسج خيوطه من ذاته دون كبير جهد، لذلك يخرج به خيطاً واهياً. أما النحل فيغتذي من رحيق الأزهار من هنا وهناك، ويقوم بإجراء عملية كيماوية بالغة التعقيد ليخرج بمنتج مختلف جداً ومفيد أيضاً. هذا الوصف ينطبق على أنواع العقول بين مقلد ومحدود الانتاج وآخر مبتكر خلاق. ومتى ألقينا نظرة على واقعنا في ظل الإنقاذ، تكشف لنا مدى مأساوية ما آلت إليه حالنا. من يشاهد التلفزيون السوداني، على سبيل المثال، يتعذر عليه أن يقع سمعه على أغنية جديدة من بنات عهد الإنقاذ، إذ أغلب ما يغنى عبارة عن اجترار، أي مضغ مكرر ورتيب، لأغاني أجيال سبقت هذا العهد المشئوم. تجد أن برنامجاً يحتفي بنجوم الغد، مثلاً، يطلب من المتنافسين فيه أن يثبتوا قدرتهم على الاجترار بترديد ألحان الآخرين. يصدق ذلك في كل مناحي الحياة الأخرى خلافاً للجانب الثقافي. معنى ذلك أن الإنقاذ، بسياسة التمكين التي طبقتها تطبيقاً صارماً، قد أحالت السودان إلى قرية نمل كبيرة. وهي قرية استنفدت مخزون الماضي بعدما قامت بأكبر عملية اجترار لزمن متطاول. وها هو حاضرها يتأزم تأزماً لا مخرج منه إلاّ من طريق الخروج من هذه العقلية الإقصائية وفتح الأبواب لتفاعل الإنسان السوداني، بكل مكوناته، تفاعلاً منتجاً، مبدعاً، خلاقاً. فالتجديد والتطوير والابتكار والتقدم هي أبرز سمات الشعوب ذات الحيوية في حاضرها والإزدهار في مستقبلها. أما الجمود، والسُبات، والتقليد، والتقهقر، فهي العلامة الأبرز لنضوب نسغ الحياة في شرايين الشعوب ومن ثم تصلّب تلك الشرايين. ونزعم أن حياتنا طيلة السبع وعشرين سنة المنصرمة لم تخرج قيد أنملة من الجمود والسُبات والتقليد والتخلف. وسنبرهن على صدق ذلك بنماذج من حياتنا في جوانبها الاقتصادية والسياسية والتعليمية والصحية. لنبدأ بالاقتصاد. وفي لمحة موجزة، نجد أن مفاصل حياتنا الاقتصادية قد تصلبت جملةً وتفصيلاً. ولن تحوجنا الإنقاذ لكبير جهد لنثبت مدى التردي الذي آلت إليه أوضاعنا الاقتصادية. يكفينا القول إن معدل الفقر، وحسب الأرقام الرسمية للحكومة، قد تجاوز ٤٦٪، وذلك معدل متوسط يخفي تباينات فاضحة، فمثلاً معدل الفقر في الأقاليم المهمشة يصل إلى التسعين في المائة. أي من بين كل عشرة أشخاص لهم القدرة على المشي في الشارع، هناك تسعة فقراء بلا أدنى شك. ويرى خبراء مستقلون، من بينهم الاقتصادي عبد القادر ابكر في تصريحاته لراديو دبنقا في 21 نوفمبر الحالي، أن نسبة الفقر تتراوح حالياً بين 65 – 70% ، وهي نسبة كبيرة سواء قورنت بوضعنا قبل الإنقاذ أم بدول أفريقية من حولنا. وفي الاقتصاد أيضاً، نجد أن الجنيه السوداني قد بات مضحكة بين سلة عملات الشعوب. وعلى الرغم من أن تدهوره بدأ قبل ١٩٨٩م، لكن الإنقاذ «غطست حجره» بكامل معني التعبير الدارج. في السياسة، اختفى مفهوم الحكم الرشيد، الذي يقوم على ركائز المشروعية والمشاركة؛ والرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى؛ وجودة الأداء من حيث تلبية مطالب كل قطاعات المجتمع على قدم المساواة ومن جهة الكفاءة والفعالية؛ والمساءلة والشفافية؛ ثم العدالة. ولأن الحكم الرشيد يستلزم الإدارة السليمة لمجتمع تتعدد مكوناته وتتباين، نستطيع أن نجزم، بحكم ما آلت إليه أوضاعنا، أن الإنقاذ تعتبر نموذجاً ناجزاً لفشل الدولة السودانية في إدارة التنوع. وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تدهور في كل شيء بسبب مباشر من فشل الدولة في الإدارة الواعية للتنوع الفطري في حياتنا. نعم هو تنوع فطري؛ فأنت داخل بيتك، مع ابنك وبنتك وزوجك، لا تستطيع أن تفرض وحدة قسرية في الفكر والميول والوجدان.. وبالتالي في النظر إلى الأشياء في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. فكيف تقيم هذه الوحدة القسرية بين شعب أبي كالشعب السوداني؟ إدارة التنوع تؤسس الآن لنجاح دول؛ دول الاتحاد الأوروبي، مثلاً، تطلب من شركاتها أن توقع ميثاقاً يسعى إلى إدارة التنوع في ممارسات التعيين وحتى الانتاج والتوزيع. فليس من حق شركة، سواء كانت تتبع للقطاع العام أو الخاص، أن تمتنع عن تعيين شخص مؤهل بذريعة لونه أو جنسه أو دينه أو لغته، طالما أنه ينتسب للإتحاد الأوروبي. لكن أهل الإنقاذ لا يطيقون رؤية من يعارضهم، ناهيك عن تعيينه في أي منصب كان. وقد قاموا بفصل تعسفي لآلاف الموظفين واستبدلوهم بذوي اللحى وسيماء السجود، بغض النظر عن كفاءاتهم ومدى ملاءمتهم للعمل. وحتى في مجالات لا تقبل المساومة، مثل الترجمة، وهي عمل مهني قوامه الثقافة والإطلاع والدربة، يختارون له من يثقون في إنتمائه. لذلك لا غرابة أن يترجم مترجمهم ترجمات يندي لها جبين كل سوداني خجلاً. لا تكتفي الإنقاذ بذلك، بل لا تسمح لمعارضيها بدخول بلدهم وزيارة أقاربهم، لا لشيء إلاّ لأنهم يعارضونها. علماً بأنها لا تعترف إلاّ بسيادة إثنيات تعد على أصابع اليد، وكل ما عدا هذه الإثنيات، في نظر الإنقاذ، فهو زبد ينبغي أن يذهب جفاء. في موضوع التعليم، نجد أن الإنقاذ، ومنذ عامها الأول، قد استهدفت تقويض أي تعليم يسهم في تحرير العقل من سلطة الخرافة، وتركت الباب مفتوحاً على مصراعيه لمناهج تعليمية فارغة المضمون، ركيكة الصياغة. وكانت تدرك أن الطلاب، سواء في مراحل التعليم العام أو الجامعات، هم المصدر الرئيس لاستنفار معارضتها وسط الشارع السوداني. وعلى الرغم من أن استراتيجية التعليم الشاملة (للفترة من 1992م إلى 2002م) قد حددت التعليم العام (أي مرحلة الأساس) بوصفه ذلك القدر من التعليم والمعرفة الذى يعتبره كل مجتمع حقاً للمواطن وواجباً ينبغي أن توفره الدولة، إلاّ أنه، وحسب اليونسيف، «يُعتبر الاستثمار الحكومي في التعليم الابتدائي أقل من المعايير الدولية. وقد كشفت بعثة الأمم المتحدة للتقييم المشترك في عام 2005 النقاب عن إنفاق أقل من 1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم في شمال السودان». كان ذلك قبل الإنفصال، وقبل تدهور موازنة الدولة بعدما ضاعت واردات البلاد من نفط الجنوب. وترى اليونسيف أن السودان، بهذه المخصصات الحكومية الشحيحة على التعليم العام، لن يتمكن من تحقيق غايات اتفاقية التعليم للجميع التي تواطأ عليها المجتمع الدولي. أما التعليم العالي، فقد سبق أن أفادتنا «حريات» في 10 ديسمبر من العام المنصرم أن 25% من أساتذة الجامعات قد هاجروا إلى خارج البلاد .كما أكدت مصادر حكومية هجرة ثلاثة آلاف أستاذ جامعي من بين اثني عشر ألف أستاذ في البلاد. وكشفت تقارير صحفية موثوقة أن عام 2014م وحده شهد هجرة ثلثمائة أستاذ من جامعة الخرطوم. وإذا هرب الأستاذ بجلده، فما الذي بقي من العملية التعليمية؟ في الشأن الصحي، تؤكد نقابة الأطباء، عدم وجود مستشفى عام واحد في السودان يملك المعينات الحقيقية الكافية لتقديم الخدمات الصحية الجيدة. وفي تصريح لها أدلت به لصحيفة الطريق الإلكترونية في 20 أبريل 2014م، أشارت النقابة إلى أن الإنفاق الحكومى على الخدمات الصحية في السودان لا يتجاوز الاثنين في المائة من ميزانية الدولة. ففي بلد يستشفي رئيسه خارج حدود بلده، فإن الحديث عن خدمات صحية تليق بالإنسان يبدو حديثاً مبتذلاً وخاوياً من المعنى. فضلاً عن ذلك، فإن التداعيات المتسارعة حالياً لأزمة الدواء تغنينا عن الحديث عن تردي قطاع الصحة تردياً سيودي بحياة البسطاء. نعلم تماما أن نهضة الشعوب رهينة بنهضة حيواتها الاقتصادية والسياسية والتعليمية والصحية والثقافية.. بذلك استطاعت دول عديدة أن تخطو خطوات عملاقة وجسورة خلال الخمس وعشرين سنة الماضية. من تلك الدول هناك البرازيل وجنوب أفريقيا وغانا. فقد ارتقت البرازيل وجنوب أفريقيا إلى مصاف الدول المتقدمة، فيما استطاعت غانا أن تخفض عدد الفقراء إلى النصف بحلول عام 2015م كما حققت قفزة هائلة في التعليم والصحة. ها هي ذي الإنقاذ تحصد حصاداً مراً مرارة العلقم من شجرة عقيمة غرستها طيلة سنواتها في الحكم، وسقتها بالشعارات الجوفاء، والحروب المستعرة التي شملت البلد من أقصاه إلى أقصاه وتمخضت عن انفصال ثلثه وتهدد بمزيد من التمزق والاضمحلال. بعد كل هذه المخازي، لا تزال الإنقاذ تتشبث بالحكم، وتستميت لحماية مصالح عضويتها، والشبكة المحكمة النسج من طفيليين يقتاتون من فتات موائدها. إن كل يوم إضافي تواصل فيه الإنقاذ الجلوس على صدر هذا الشعب الأبي الغلبان، يمثل فاجعة لكل ضمير حي ويقظ يهمه السودان حاضراً ومستقبلاً مثلما اعتز بماضيه الناصع. بذلك، يجب أن نرفع عقيرتنا بمعارضة الإنقاذ، بكل ما أوتينا من قدرة. فقد انتهى زمن الصمت والمواقف السلبية الباهتة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة