فيما كان الجميع متحداً خلف الانتفاضة الأولى، جاء التنسيق الأمني مع الاحتلال ليشكل أبرز العوائق أمام الانتفاضة الشبابية مع مرور عام على انطلاقتها، تقف الانتفاضة الشبابية الفلسطينية بين عاملين، أحدهما مجموعة الأسباب التي أدت إلى اندلاعها، والثاني يتعلق بالأسباب التي منعت تطورها إلى انتفاضة شاملة، وكلا العاملين لا يزالان يفعلان ويؤثران في الميدان. وفي الوقت الذي حاول فيه كثيرون تصوير الانتفاضة عل أنها ردة فعل محدودة ومؤقتة على الإجراءات الاحتلالية في الأقصى، جاءت الأحداث لتؤكد أن الاحتلال واستمراره هو الدافع الأساس الذي أطلق الانتفاضة، وإلى جانبه عوامل كثيرة نشأت عن السبب الأساس ، وأبرزها المسار الذي اشتقه البعض في التعامل مع هدف الخلاص من الاحتلال عبر مسرب المفاوضات العبثية. ومع انسداد عملية التسوية، بشروطها المعروفة، باتت الأسباب التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة في صدارة المشهد السياسي، وهي المؤهلة لأن تفتح على معركة مفتوحة مع الاحتلال.. وإن تأخرت. ردت الانتفاضة الأولى بقوة على محاولات تهميش القضية الفلسطينية ودور منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني عبر مشاريع تنتقص من حقوقه الوطنية. قوة الرد الفلسطيني كمنت في الانخراط الشعبي الواسع في الانتفاضة عبر شعارات وأهداف واحدة اجتمعت على كنس الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعبر عن ذلك بوضوح «إعلان الاستقلال» الذي صدر عن المجلس الوطني الفلسطيني العام 1988. وتمكنت القيادة الموحدة للانتفاضة من توجيه فعالياتها عبر أجندة برنامجية راعت ضرورة تكامل هذه الفعاليات بما يوسع من المواجهة مع الاحتلال. ومع استمرار الانتفاضة وتصاعدها، عادت القضية الفلسطينية إلى واجهة المشهد السياسي إقليمياً ودولياً. يمكن القول إن الانتفاضة الأولى تصاعدت بزخم غير مسبوق مع استمرار الإجماع الوطني على استمرارها وتصعيدها حتى كنس الاحتلال. وجاء الاعتراف الدولي بإعلان استقلال دولة فلسطين ليؤمن الزخم السياسي والديبلوماسي والقانوني الذي يقرِّب تحقيق أهداف الانتفاضة، ويعجل من انتصارها. ما توافر للانتفاضة الأولى لم يتأمن للانتفاضة الشبابية على الرغم من أن هدف إقامة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس يتعرض للتآكل على يد الاستيطان واستمرار الرهان على مبادرات التسوية الهابطة عن الحقوق الفلسطينية. وبقي الاجماع الوطني حول الانتفاضة الشبابية هو الغائب الأكبر، وبغيابه، فتح الباب أمام الاحتلال كي يصور ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة على أنه أحداث جزئية ومتفرقة، وأن هناك جهات إرهابية متطرفة تدفع بهؤلاء الشباب إلى الشارع في مواجهة قوات الاحتلال؛ وتطابق الموقفان الأميركي والإسرائيلي في ذلك عندما وصف كيري وزير الخارجية الأميركي مواجهة الاحتلال والمستوطنين بالإرهاب. وفيما كان «الكل» الفلسطيني متحداً خلف الانتفاضة الأولى وفي داخلها، جاء التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال ليشكل أبرز العوائق أمام تطور الانتفاضة الشبابية وتصاعدها. إلى جانب ذلك، ضخت جهات عدة مقولات كثيرة عن مخاطر الدخول على خط الانتفاضة الشبابية ودعمها بما زاد من تردد الكثير من الشرائح والفئات التي كانت في السابق في مقدمة الداعمين للانتفاضة الأولى وفعالياتها. لذلك، لم يجد المجتمع الدولي أمامه ما سبق أن رآه في الثمانينيات وبداية القرن الحالي من فعاليات شعبية عارمة في مواجهة الاحتلال. ولم يجد نفسه بالتالي مضطراً للالتفات الجدي إلى ما يجري وهو يلحظ أن السياسة الرسمية الفلسطينية العملية تقف ضد هذه الانتفاضة؛ وتعمل على تحجيمها من خلال إحباط الكثير من فعالياتها عبر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية. حتى القوى والفصائل التي دعت إلى تزخيم الانتفاضة الشبابية ودعمها وتأمين عوامل تطورها إلى انتفاضة شاملة، لم تنجح في ابتكار الصيغ والأساليب التي تساعد على ذلك، ولم تتشكل أية أطر جدية على المستويين الحزبي والمجتمعي لدعم الانتفاضة في الميدان. كان من الممكن أن يؤدي اجتماع هذه العوائق أمام الانتفاضة إلى إخمادها نهائياً وتسجيلها في أرشيف المواجهات مع الاحتلال، لولا أن أسباب اندلاعها لا تزال قائمة، بل وتتعاظم. فالاحتلال يواصل عمليات نهب الأرض الفلسطينية ونشر الاستيطان ويزيد من وتيرة حملات التهويد. وإلى جانب ذلك يمعن في إغلاق الباب أمام المستقبل الوطني للشعب الفلسطيني وتمكينه من حقوقه؛ في وقت يدير المجتمع الدولي ظهره للقضية الفلسطينية وينشغل بما يدور في المنطقة من أحداث عاصفة. أمام كل هذا يجد الشباب الفلسطيني في مقدمة المستهدفين من استمرار هذا المشهد، ولذلك تتواصل موجات الانتفاضة الشبابية وبأشكال وفعاليات مختلفة. ما يحصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يمتد ليطال فلسطينيي الـ 48، بعد عقود من التهميش والتمييز المنهجي، ورسم القوانين العنصرية ضدهم واعتبارهم «طابوراً خامساً» لصالح أشقائهم في أراضي الـ67. لذلك كان من الطبيعي أن تمتد فعاليات الانتفاضة الشبابية وبسرعة من القدس والضفة إلى أراضي الـ 48 وهو ما شكل قلقاً بالغاً للحكومة الإسرائيلية وزرع الرعب في المجتمع الاسرائيلي. ومع استمرار السياسات العنصرية للحكومة الإسرائيلية ضد فلسطينيي الـ 48 سيبقى هاجس الانتفاضة يلاحقها، كما هو الأمر في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان العام 1967. المعضلة الكبرى التي واجهت وتواجه الانتفاضة الشبابية ليست في غياب قرارات الاجماع الوطني حولها، بل وبالأساس هروب القيادة الرسمية الفلسطينية من تنفيذ هذه القرارات، وأبرزها ما صدر عن المجلس المركزي الفلسطيني العام الماضي الذي دعا بوضوح إلى وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، وكان من شأن الالتزام بهذا التخفيف من الضغط على شبان الانتفاضة، وسيكون ذلك مؤشراً واضحاً على أن القيادة الرسمية أصبحت معنية بالدفاع عنهم في المحافل الدولية التزاماً بقرارات المجلس الذي أكد ضرورة الانفتاح على الأمم المتحدة ومؤسساتها ذات الصلة بمحاسبة الاحتلال على جرائمه، وبخاصة المحكمة الجنائية الدولية. كما أكد المجلس على ضرورة إرساء التسوية على أسس تضمن تطبيق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة. والالتزام بذلك من قبل القيادة الرسمية الفلسطينية يضع الحالة الفلسطينية أما خيارات أخرى بعيدا عن الرهان على المبادرات الهابطة وأصحابها ، وهذا يعني بالضرورة الالتفات الجدي نحو تصويب الوضع الفلسطيني ويعزز امكانياته على خوض معركة مفتوحة متعددة الجبهات مع الاحتلال. وفي تحقيق ذلك، مايفتح الآفاق أمام الانتفاضة من خلال الاجماع على دعمها وتأمين عوامل تطورها إلى انتفاضة شعبية شاملة. هذا هو الطريق نحو وضع الصراع مع الاحتلال في سياقه الطبيعي. أما مواصلة سياسات التردد والانتظار فلا تفيد سوى الاحتلال وتمكنه من مواصلة سياساته العدوانية والتوسعية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة