هل حدث أن أجمع السودانيون، بجميع أحزابهم السياسية و طوائفهم الدينية و خلفياتهم الاثنية، على شيئ مثل اجماعهم على نيل الاستقلال من داخل البرلمان، و بدون أي قيد أو شرط من أيٍّ من المجمعين على " الاستقلال التام أو الموت الزؤام"؟..
لا يمكن مقارنة اجماع الشعب السوداني على الاستقلال بأي إجماع سوداني لاحق.. إلا أن للمشير/ عمر البشير رأي مخالف أدلى به أثناء إلقاء خطابه أمام الجمعية العمومية، رأيٌّ يعلِّي به من شأن حوار وثبته قائلاً:-
" الشعب السوداني رغم ما قدمه من نماذج في الإجماع والتوافق منذ إعلان الاستقلال من داخل البرلمان ومؤتمر المائدة المستديرة إلا انها جميعاً لم ترقى لمستوى الاجماع الذي تحقق خلال هذا المؤتمر .."
البشير لا يغش هنا.. إنه جاد في رؤاه هو فعلاً! رجال من حوله كبَّروا حجمه و حجم حواره ( بشكل غير مسبوق).. فجعلوه يتعالى على الواقع بلا حرج .. و جعلوا تطلعاته تتخطى إمكاناته المحدودة بلا حدود!
إن أهم الأحزاب السودانية رفضت المشاركة في الحوار إلا بشروط، و شروط يحاولون عبرها أن يلغوا هيمنة المؤتمر الوطني على مفاصل الشأن السوداني إلغاءً حقيقياً.. أما مشاركة الأحزاب التي يُطلق عليها ( أحزاب الفكة) في حوار القاعة، فليس من المنطق أن تجعل من اجماعها على الحوار اجماع الشعب السوداني عليه.. فأحزاب الفكة لم يطلق عليها ذلك اللقب إلا لأنها بلا خلفية جماهيرية يٌعتد بها.. فهي أحزاب لا تعادل سوى الجنيه السوداني في سوق العملة..
هذا و قد ظلت قاعة الصداقة، في يوم السبت 8/8/ 2016، مكاناً لمهرجان النفاق من كل لون.. و كأن النفاق كان مطلوباً كجزء لا يتجزأ من الوقوف ( انتباه!) أمام البشير، رئيس امبراطورية المؤتمر الوطني و رئيس اجتماع الجمعية العمومية لحوار قاعة الصداقة..
ظل البشير ممتلئاً حتى النخاع بالشكر المتدفق نحوه من كل منافق اعتلى المنبر و كل منافقة اعتلت نفس المنبر و الشكر ينهمر.. ابتسامة الرضا تشع من ثغرِه لتغمر القاعة الباردة من شدة (كسير التلِج) و يشارك في الكسير ( الكبار) قبل ( الصغار)، و ( العلماء) قبل ( الدهماء).. و الشكر ينهال:- " شكراً للسيد الرئيس، فلولاهُ لما كان هذا الحوار".. و يتكرر نفس الشكر بشكل آخر " أشكر الأخ الرئيس أن جعل هذا الحوار ممكناً",, و يتوالى الشكر ل( الأخ) الرئيس مرات و ل( السيد) الرئيس مرات أكثر.. و يستمر انهمار كلمة ( لولاهُ) في تضخيم فرعنة البشير.. و يتوالى التصفيق كلما تطرق البعض إلى ( انجازاته) و سعيه لحلحلة أزمة السودان المتشابكة.. تصفيق و تصفيق متتابع، فتتضخم ثقته في أنه هو المنقذ الوحيد لسودان ( الانقاذ) حتى كدت اعتقد أنه لم يكن هو الذي انزلق بالسودان إلى الحضيض مع سبق ( التمكين) و ( الصالح العام).. لكني تذكرت أنْ ( لولاهُ) لما انقسم السودان إلى سودانين..!
ضاقت قاعة الصداقة بتكرار الشكر و الاشادة و التصفيق: " أشيد بما قدمه لنا السيد الرئيس.. أشكر الرئيس على ما قدمه لنا.. " الكل يشارك في تشييد هرم ضخم للبشير يضاف إلى أهرامات الكرو و نوري و البجراوية.. و بعد ارفضاض الجمع، كلاً إلى غايته بعد أن أبلى بلاء المنافقين، حمل بعض المنافقين الشكر و الاشادة بالبشير من القاعة إلى وسائل الاعلام الحكومية و شبه الحكومية.. و كأني بهم سوف يشيدون مسلات على الطرق الرئيسية تحكي عن انجازات البشير.. و تشيد بشجاعته و فروسيته التي ما سبقه إليها لا بعانخي و لا تهراقا.. و لا المهدي الامام..
نشاهدهم في قنوات التلفزيون و هم يرددون من التطمين الكثير الكثير عن وعد البشير بإنفاذ مخرجات الحوار: " و أنا أثق في كلام الرئيس...!" و تلك ثقة لا نثق في قائلها.. لأننا لا نثق في وعود البشير في المبتدأ.. و نسمع الطيب مصطفى، الخال، يؤكد أن البشير جادٌّ في إنفاذ مخرجات الحوار.. و فات على الطيب مصطفى أن يقول أن البشير جاد في إنفاذ وعده ( هذه المرة)..لأن كلمة إنه جاد هذه قد تكررت مرات عديدة في السابق و هربت الجدية عند التنفيذ و تركتنا أمام اللهو و الاسفاف.. و كم من فساد و إفساد طغى و تجبر عقب الوعود المتكررة بمحاربة الفساد؟..
كانوا يتباهون داخل القاعة و كأن أزمات السودان المستعصية قد تم علاجها علاجاً جذرياً.. و نافقوا حتى لم يتبق من ( كسير التلج) إلا أن يقول أحدهم:- "... أشكر السيد الرئيس على ما قدمه لنا من أسباب الحياة .. و للسودان من نيل و أراضٍ خصبة.. فلولاه ما كنا و ما كان السودان.."!
كيف لا يتفَرْعَن الفرعون فرعنة و فرعنات إضافية.. و كل هؤلاء يسبحون باسمه ابتغاء مكرمة ما.. و كلهم يرجِعون كل فضل في السودان إليه.. و يدَّعون أن ( السيد الرئيس) هو السودان كله بمن فيه و ما فيه.. نعم، إن الحوار من صُنع ( السيد الرئيس).. و نحن نعلم ذلك.. و نعلم أن مخرجات الحوار سوف تكون تحت تصرفه ( يصنع) بها ما يشاء رغم أنف قوى نداء السودان الذين سوف يُلدغ بعضهم من جحر المؤتمر الوطني مرتين.. و يا للهول عقب اللدغة الثانية!
فقط، أرجوكم، لا تحاولوا اقناعنا بكلام هو ( أي كلام!).. و نحن لا نطالبكم بأي شيئ.. إذهبوا و ارفعوا التمام على أمل أن تتحول امبراطورية البشير إلى جمهورية ديمقراطية تتمتع بحكم راشد؟... و نحن نشك شكاً مسبَّباً في كل من لا يشك في حدوث ذلك.. !
تم العرس اليوم.. و غداً الطلاق يا سيدي الإمام.. غداً الطلاق أقول لكم!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة