بعثت الأستاذة/ سهير عبد الرحيم برسالة لعناية رئيس القضاة قرأتُها في صحيفة الراكوبة الاليكترونية.. سردت فيها معانة المتقاضين اللاهثين وراء حقوق لهم مهضومة.. و تأجيل القضايا.. و أساليب محامي الدفاع في التأجيل و ما إلى ذلك.. و اختتمت رسالتها بطلب بسيط:-
" السيد رئيس القضاة، لا بد من إيجاد آلية لحفظ هيبة القضاة، ورفع سرعة ومستوى الأداء؛ وذلك من خلال سرعة الحسم والبت في الملفات والقضايا التي لا تقبل التأجيل." قرأتُ الرسالة و رجعتُ إلى عالم المحاكم المظلم..! فقد كنت أحد نجوم فِلْم العدالة العاجزة في سودان العجز و الظلم و التمكين.. و كتبت مقالاً من ثلاث حلقات عن ذلك قبل عام و نصف تقريباً تحت عنوان ( العدالة العاجزة.. أو الحكومة خصم غير نزيه) و نشرت المقال بعض الصحف الاليكترونية..
و أنقل المقال الحالي من المقال السابق بتصرف و تحت عنوان:- ( العدالة العاجزة.. و الحكومة خصم غير نزيه) " ربنا لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك و لا يرحم "! العدالة في أمريكا ناجزة و هي أقرب إلى النهج الاسلامي غير ( المدغمس) ب(التمكين).. أما في السودان فالعدالة عاجزة جداً.. و أعجز أنا و يعجز الجميع عن وصف الفساد و الظلم اللذين شاعا و عما البلد، بما يكشف عن غياب نهج الدين الحنيف في ممارسة جماعة ( الانقاذ) للحكم العادل.. و لم أكن لأصدق ما كان يجري لولا أنني تعاقدت مع وزارة الاستثمار عقداً ( خاصاً) عقب عودتي من أمريكا.. و بتوقيع ذاك العقد وجدتني أشاهد الفساد يمشي متحفظا على استحياء في البدء.. لكنه صار يمشي عارياً متبختراً بكل فجور داخل أروقة الوزارة بعد ثلاث سنة و نيف.. ما دعاني لإرسال مقال من ثلاث حلقات عن الفساد لصحيفة ( الانتباهة).. نشرت الصحيفة الحلقة الأولى يوم 4\4\2011 .. و فوراً- في صباح نفس اليوم- تسلمت خطاب إيقاف عن العمل في الوزارة.. و تم نشر الحلقة الثانية في الصحيفة.. و أوقفوا الحلقة الثالثة بقدرة ( قادرين..).. و لم أتسلم فوائد ما بعد الخدمة و التي هي من ( حقوقي) على الوزارة، حسب ( العقد..).. و بدأ مشواري الطويل ضد ( الظلم) الواضح.. فأنا من أولئك الذين لا يكِّلون عن المطالبة بحقوقهم حتى و إن كانت في ( خشم التمساح..) نعم، بدأت البحث الطويل.. و تحصلت على ( حقوقي) بعد ثلاثة سنوات و 7 أشهر! و حالتي أفضل من حالات معاشيي البنوك الواقفين على الرصيف في انتظار العدالة الناجزة.. و هي عاجزة كسيحة في أضابير وزارة العدل.. على بعد خطوات من القصر الجمهوري.. تذكرت العدالة في أمريكا، فقد تقدمت باستقالتي من عملي بأحد فنادق مدينة أتلانتا بأمريكا و التحقت للعمل بإحدى المنظمات الكنسية الشهيرة.. لم ( أطالب بحقوقي) من الفندق.. إلا أن إدارة الفندق بعثت إلي بخطاب تشكرني فيه على الفترة التي قضيتها معهم.. و أعلمتني بأنهم قد بعثوا بحقوقي عليهم في حسابي بالبنك المعروف لديهم.. و تمنوا لي مستقبلاً أفضل في وظيفتي الجديدة..! و يبدو أن الوظيفة الجديدة تحمل الكثير من المفاجآت.. إذ كان ضمن عملي ترتيب أوضاع اللاجئين إلى الدنيا الجديدة.. و تعريفهم بما ينبغي أن تكون عليه حياتهم الجديدة بغرض التأقلم داخل المجتمع الأمريكي Orientation)..)..و من ضمن اللاجئين صبية سودانيون جنوبيون قدموا من كينيا.. و استُقبِلوا في المطار استقبال الفاتحين.. و قبل وصولهم كانت قنوات التلفزيون تبث روايات مطولة عن مآسيهم.. تتخللها أراجيف ذات أغراض سياسية واضحة.. و امتلأ المطار بأضواء كاميرات التلفزيونات.. و الكل في حركة و نشاط مبالغ فيهما.. و يطلق الاعلام الأمريكي على أولئك الأطفال اسم ( The Lost Boys).. تقرَّبتُ إلى رئيسهم و تحدثت إليه باللغة العربية، اللهجة السودانية، كما تحدثت بها مع صبية آخرين، فكانوا سعداء للغاية.. و انتهى الاستقبال المهيب..
لم يعجب مديرة المنظمة حديثي باللغة العربية.. فاستدعتني إلى مكتبها في اليوم التالي لتوَّبِّخني بشأن بزعم أن اللغة العربية تثير الكثير من الذكريات المؤلمة و العذاب النفسي لدى الصبية. ذكريات عن فتك العرب بأهاليهم.. و ما عاناه الصبية أنفسهم من تشرد في الأدغال قبل أن يصلوا إلى مرفأ الأمان في كينيا.. و تحدثتْ عن بلاوي أخرى كثيرة.. ناقشتها باستفاضة.. و أوضحت لها بأن أحد الصبية قال لي أنه سيعود إلى الخرطوم عقب تخرجه في إحدى الجامعات الأمريكية.. و أن قلب ذلك الصبي معلق بالحياة مع العرب و غير العرب في أم درمان التي هي سودان مصغَّر.. و أن الصبية ليسوا كارهين للعرب كما يشاع.. فلا مشكلة بينهم و بين العرب.. و لا مشكلة ( حقيقية) بين المسلمين و المسيحيين.. و أن أصل المشكلة يكمن في هيمنة قلة من السودانيين على مقدرات البلد و تهميش أغلبية السودانيين الآخرين .. لم يرق حديثي للمديرة.. و لم ترد على بشيئ ذي بال سوى:- “ This is our policy anyhow! You can go back to your office".. هذه سياستنا على أي حال، و بإمكانك العودة إلى مكتبك..
انصرفتُ دون أن أعدها بعدم التحدث بالعربية مع الصبية.. و بعد فترة استدعتني لتبلغني باستغناء المنظمة عن خدماتي.. و أن علي الذهاب لتسلم ( مستحقاتي) من الصراف.. و فارقت المنظمة.. لم أشعر بالندم.. كلا! إن دورة حياتي كلها فصول من فصل من العمل و فصل أو استقالة و عمل و فصل أو استقالة! سمِّني متمرداً إذا شئت..! تقدمت لوظيفة، معلَنٌ عنها، بمكتب العمل بالمدينة.. و هناك طلب مني المسئول الذهاب إلى حاسوب معلَّق على الحائط لأملأ استمارة خاصة بموضوع الوظيفة، و الاستمارة أشبه ما تكون بالسيرة الذاتية للمتقدم لتلك الوظيفة.. ملأت البيانات المطلوبة.. و عدت إليه.. فقال لي:- “ You will hear from us within a week” أي سوف نوافيك بالنتيجة خلال اسبوع.. و ظللت أتابع صندوق البريد الخاص بي منذ ذلك اليوم على أمل دعوتي للمعاينة.. فإذا بي أجد خطاباً من مكتب العمل يفيد بأن لي على المنظمة مبلغاً مالياً محترماً.. و أن المنظمة سوف تقدم لي بطاقة تأمين لمدة ستة أشهر.. و قد وصل الاثنان- البطاقة و الشيك- في نفس الاسبوع بالفعل.. كما وصل خطاب آخر من مكتب العمل يحدد لي موعداً للمعاينة للوظيفة التي تقدمت إليها.. تملكني شعور أقرب إلى شعور من خرج من ظلام حالك إلى ضوء فاقع.. شيئ لا يُصدّق لدرجة توقف العقل عن الادراك.. خاصة عقل شخص قادم من العالم الثالث، و في العالم الثالث لم يطل به فراق سودان التمكين و التهميش! لم أذهب إلى مكتب العمل لأشكو المنظمة.. إلا أن ( المؤسسية) الأمريكية المبنية على العدالة المرتبطة بالحقوق ( داخل) أمريكا، جعلت ( العدالة) تصل إلى حقوقي و ترسلها إلي و أنا لا أعلم بوجودها.. فالعدالة ناجزة بحق متوافرة ( داخل) أمريكا.. مهما يُقال عنها! بينما سأكتشف أن العدالة في السودان منكسة الرأس. و مهيضة الجناح.. إذ عدت إلى السودان لأصطدم بكارثة الإخوان الذين وصفهم مؤسس حركتهم بأنهم " لا إخوان و لا مسلمون!".. عدت و وجدت العدالة تنتحب حيثما توجهت..! و ذلك موضوع الحلقة التالية بإذن الله..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة