أعلن المشير.. صرّح الجنرال ، ندّد الرقيب أول! أكّد الدكتور!
أو
يعشق شراب العرقي، يراه أقصر طريق الى السعادة حين يُفرغ الرأس من شحنات المصائب اليومية والذكريات التالفة. يهتم قليلا بالحاضر فقط ليدير ظهره بسرعة للماضي ، خاصة حين تقتحم واجهة ذاكرته بعض تفاصيل ماضيه الفاشل ، يحاول أن تمضي تفاصيل حياته اليومية كشخص عادي، لا تؤرقه أية ذكريات، أو يشعر بالحرج تجاه ماضيه. قضي عدة سنوات من عمره في عاصمة اوروبية يدرس طب الاسنان، حين يتحدث عن تلك الفترة في أحيان نادرة كان يعترف دون مجد:
عشرون عاما من غسيل الأواني!.
سيذّكره ببعض التفاصيل التي يحاول دفنها في النسيان، زميل شاطره الدراسة الفاشلة والاحلام المؤجلة وغسيل الأواني وشراب الخمر الردئ في حانات البحّارة، لكنه يبقي نقطة ضعف ، كونه يعرف كل الاسرار التي لا يجب ان يعرفها البعض ممن يشاطرونه العرقي ويشاطرهم فضائحهم، ما ان يشرب الكأس الاول حتي يفارقه كل هدوءه ويتفرغ فقط للشتائم.
يواجه الثرثار الذي يصر على إفساد بهجة المساء بقراءة نشرة الأخبار التي يحفظها مثل ببغاء فضائي من التلفزيون الحكومي: أعلن المشير، صرّح الجنرال ، ندّد الرقيب أول! أكّد الدكتور!
تسمي هذه أخبارا أيها الوضيع! وتسمي هذا تلفزيونا! هذه ثكنة عسكرية! حين يكون مزاجه هائدا سيشرح كل تحفظاته: لحسن الحظ ان الكهرباء انقطعت منذ سنوات، فتحته مرة واحدة قبل سنوات فأطل وجه المشير المتجهم وإنفجرت قنابل الأكاذيب في وجهي فحطمت شاشته بالمطرقة التي تستخدم لسحن الحبوب. وبدلا ان يغرب وجه المشير إنتهز فرصة تحطم الشاشة وخرج منها وبقى طوال الليل يهذي بالأكاذيب وهو جالس على مقعد بجانب فراشي. وفي النهاية حين اصم اذني بالاكاذيب حتى تسرّب كل الخمر الذي شربته من رأسي، نبهته برفق حتى لا يغضب، أن حديثه علاوة على انه كذب فهو غير حقيقي أيضا، فقد تحطم جهاز التلفزيون، وإنقطع الحبل السري الذي يصل بين أذني وتفاصيل بطولاته الزائفة، ويجدر به ان يخرج من بيتي وحياتي!
حتي ذلك الرجل الطيب لم يسلم من لسانه، الرجل الطيب الذي يؤمن بأن كل رزق يستحق الشكر، فيقول له حين يقدم له كأس العرق: جزاك الله خير! ويقول حين يري زجاجات العرق المرصوصة علي المائدة في انتظار مصيرها المحتوم،
ما شاء الله تبارك الله : يخشي علي كل هذا الرزق(وقود البهجة السائل) من العين.
يقول عبد السميع: شربنا مع كل اصناف البشر ولم يسبق ان شربنا مع مثل هذا الشخص العبيط!
فيقول العبيط: جزاك الله كل خير.
يجتر زميل الفشل ذكريات الماضي المشترك . يستخدم هو تكنيكا مماثلا ليجبر زميله علي تجاوز الماضي بمراراته، يبحث عن أسوأ ذكرياته، يستخدمها بفعالية مثل قوات الدعم السريع، لقمع ثورة ذكريات زميل الفشل:
أسكت يا لاحس فروج النساء!
تستفز العبارة زميل الفشل، الجاد أيضا في نسيان غرقه القديم بلسانه في قاع البهجة! فيقسم: (عبد السميع لو تاني قلت الكلام دة العرقي دة حيكون في رأسك) !.
زملاء الليل بعضهم تستفزهم شتائمه فيبدأ العراك ولا ينتهي قبل ان تتحطم عدة مقاعد فوق رأسه، صديقه الزين لا يرد عليه الا بعد ان يفرغ كل مرارة أحقاده.
يسأله : هل أفرغت كل مافي جوفك ؟. وحين يسمع كلمة نعم، تكون تلك الكلمة ايذانا بانطلاق جهاز الراديو الصيني واستقراره مهشما في رأس عبد السميع ليكون ذلك خاتمة تلك السهرة الشتائمية المباركة. وفي البيت الذي اقاما فيه فترة من الزمان تمددت مساحة اجهزة الراديو المهشمة حتي ابتلعت الفناء كله، ليستغرقا في الصيف في النوم وسط فوضى هذا الحقل الالكتروني! .
يقول الزين: لحسن الحظ انها رخيصة، نسمع نشرة أخبار الكذب، وحين نحطّم جهاز الراديو نشعر بنشوة النصر الزائف على جمهورية الكذب! ويقول مقلّدا مذيع نشرة الاخبار:
صرّح المشير وأعلن الرقيب مهندس دكتور أركانحرب: ارتفع معدل النمو الي 11 في المائة!، لا حاجة لهم ليعلنوا لنا كيف تنمو أرصدتهم، وتنخفض قيمتنا ( يحرزون أغرب نمو: لا يحتاج حتى لضوء) يوضح:يجب تحطيم كل شئ ينقل هذا الكذب الى آذاننا. يعترف بفائدة واحدة للإعلام في مواجهة العرقي: الراديو مفيد لتحطيم وجه كل من يتجاوز عن حدوده. .
اثناء النهار يجلس في متجر والده الراحل، الدكان فارغ تقريبا الا من بقايا أشياء قليلة لم يعد تمييزها سهلا بسبب أطنان الغبار من مخلّفات أعاصير القرن الماضي، يجلس عبد السميع صباحا أمام المتجر، يشرب القهوة ويراقب الناس، ينسي تفاصيل الليلة السابقة، تصطدم صور الذكريات التي تترقرق احيانا الي ذاكرته مصحوبة بعطر غامض يجعله يشعر بخدر طفيف ولذة لا تمت بصلة للزمن الحاضر، يري نفسه صبيا يجلس الي منضدة في منتصف الفناء الواسع في بيتهم وعلي ضوء مصباح الزيت كان يحاول ان يكتب الشعر، مضيعا الوقت كله في الزعيق فوق اخوته الصغار ليصمتوا حتي يجد شيطان الشعر فرصة ليهبط فوق رأسه، وفي محاولة طرد الباعوض الذي يجذبه ضوء المصباح بكثافة اكبر كثيرا من انهمار الشعر الي رأسه. انه الوحيد الذي يسب الدين لشيطان الشعر ليزوره دون جدوي.
ضاعت القصيدة الوحيدة التي نجح في كتابتها في متاهة السنوات ولم يتبق منها سوي وهج باعوض المصباح وبعض بقايا تفاصيل شجاره مع اخوته الذين توزعهم العالم.
ذات مرة صمم ندماء الليل علي عدم اعطاءه الفرصة لاستفزازهم بشتائمه، قال للنور: ايها الكلب تسير طوال النهار وراء زوجتك التي لا تشبه النساء، أحرف جزار لا يستطيع ان يستخرج منها كيلو لحم واحد!
فقال النور: جزاك الله خير !
وقال للطيب: عامل فيها شيخ يا دجال وانت كل قطعة لحم في جسمك بالحرام، ابوك مشي السعودية قال للناس داير ابني جامع، لم القروش وجة أكلها وما بني ولا حتي زاوية!
قال الطيب: بارك الله فيك ياأخي!
قال لعثمان: عامل فيها دكتور وانت كل همك تتفرج علي أعجاز النساء، اي واحدة تجيك حتي لو عندها وجع ضرس تديها حقنة في الأرداف!
فقال عثمان: فضلة خيرك، إنت كمان لو ما الظروف كان بقيت دكتور كبير تجيب الضرس من جذوره من القدمين!!
وقال للزين: اليشوفك بالنهار لابس هدومك المكوية يقول دة المحافظ مش مخزنجي في المجلس، يا لص المخازن والمهمات!!.
عرف الزين أنه سيوفّر جهاز راديو لسهرة الغد: نعمل شنو دي قسمة ربنا!
قال لزميل فشله: يا لاحس فروج النساء!
ابتلع الزميل اعصارا من الغضب حتي سمعت أصوات قرقعة العاصفة داخل بطنه وقال: أحسن من بعض من الناس!.
نظر عبد السميع حواليه، وضع كأس العرقي جانبا ولبس مركوبه خارجا: أحسن النوم بدل السكر مع اللواي.. (تم حذف الطاء والياء المربوطة لدواعي الحياء العام ..الخ)
يشرب القهوة في الصباح أمام المتجر، لا يزعجه سوي الأصوات العالية، أحدهم ينادي علي المركب الواقفة في الشط الآخر، المركب التي لا تأتي أبدا، بسبب عدم وجود هواء! ففي جمهورية الكيزان السعيدة إنعدم حتى الهواء! حتى أنه إنتهي الى القول:
لو عاوز تقطع البحر الى الضفة الأخرى...إلا تبقى كيجاب!
أحدهم يصيح وهو قادم من المشرع: ايوة أنا شاهد في القضية، يكررها عدة مرات، يصيح فيه عبد السميع: اصلك شاهد في لوكربي! ما حمار مسروق يا قزازة عرقي!
أقنعه الندماء ان يذهبوا الي حفل عرس، اقتنع بعد لأي، كان يخشي من المضايقات بمجرد ان نزل من المركب وهو يترنح حتي فال احدهم:
ألحق عبد السميع كرجبون! ( أي سكران بشدة بلغة الدناقلة!)
فقال له : ايوة كرجبون، كرجبون من جيبك يا سخيف!
يقول زميل فشله : عشرين سنة تقرأ طب أسنان يا عبد السميع، وضم طرف صباعيه الابهام والسبّابة ليبيّن تفاهة الشئ الذي سيشير إليه: ضرس.. ضرس ما تقدر تقلعو!
أمسك زميل الفشل بجركان العرقي وسكبها فوق رأس عبد السميع الذي أخرج لسانه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من العرقي السائل فوق وجهه بكثافة، ولتقليل تكلفة الغسيل الباهظ لرأسه الفارغ!!
للحصول على نسخ بي دي اف من بعض اصداراتي رجاء زيارة صفحتي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة