كان القضاء في سنار في التسعينات من الألفية السابقة (حين تلك التجربة عام 1994/ 1995، يؤمه تنظيم الجبهة الإسلامية الإنقاذية: فبدءاً كان القاضي المقيم من رجالهم السياسيين ومن أقرباء أحد أعضاء مجلس قيادة ثورة الإنقاذ، وهو نفس القاضي الذي خلف القاضي المقيم المعزول الذي تحدثت عنه مسبقاً، وكانت زوجته هي النائب العام الإقليمي، وهي طبعاً من التنظيم العقائدي للحكومة، وكان شيخ السوق أيضاً من نفس أسرة عضو مجلس قيادة ثورة الإنقاذ المذكور
وكانت البنوك تحت إدارة الإخوان، يقومون بمحاصرتك متى ما احتجت لقرض لترحيل دين طارئ، فيتحول القرض إلى دينٍ عضال في ذاته عن طريق المرابحة، والتي هي نفسها أسلوب يعتمد على خطواتٍ مشبوهة، بأن يشتري لك البنك ذرة، فتصرفها بسعرٍ بخس لتجار الفرصة، لتردها إلى البنك شحنة عينية تشتريها بأسعارٍ باهظة من نفس دائرة المرابين، والعين بالعين لا ظلم فيه، ولكن البنك يعلم بما يجري ويدري أنك لا تريد العين ولكن الأنف، فيدخلك في بؤرة المرابين وهو يدري ذلك مسبقاً
تلجأ لوزارة الزراعة لقرض طارئ في الزراعة فتدخلك في بيع السَلَم، حيث تطلب منك بعد الحصاد أن تقوم بتسليم منتوجك للوزارة والتي لا تأبه لتكلفتك لتوخي أسلم أساليب تعجيل الإنتاج وضبطه ليصادف السوق الحي لعرضٍ أفضل يرجع منفعته لها هي فقط، فهم بذلك يمارسون العبودية المقنّعة
وهنالك سوق "المَلَجة" حيث تقوم ببيع منتجاتك، وهي مكانٌ جُبِل على المؤامرات لمحاصرتك لابتزازك ثم تحطيمك أو نهبك، وهي حلبة لشيخ السوق فيها السلطة العليا لإدارة تلك اللعبة
في تجربتي، كان هنالك تاجرٌ في الملجة قد عرض عليّ المساعدة عندما أقدمت لبدء عملي بالزراعة ونصحني أن أحرص على أن تكون لي كمية هائلة من صفائح تعبئة الطماطم والتي كانت أهم سلعة نقدية في زراعة الخضروات، وعرض عليّ كمية هائلة من الصفائح والتي نقشت عليها بطلاء البوية ماركة قال إنها ماركة عمل سابق له، فقمنا بمسح الطلاء ونقش ماركة تجارتي، وشريت كمية من الصفائح من البقالات واعددناها ونقشنا عليها الماركة
وذات يومٍ وأنا بالملجة دعاني بعض التجار لتناول القهوة معهم ثم فاتحوني بأن بعض صفائحي بائن أن بها ماركة قديمة ممحاة وسألوني إن كنت شريتها من مالكٍ سابق أم كانت لي بماركة سابقة وعدّلتها، فأجبت بأني شريتها من تاجر، فسألوني وما كانت ماركته التي باع لك بها، فلما أخبرتهم إتضح أنها صفائحهم وقد سرقها ذاك التاجر. وانفجرت دراما هائلة في السوق واجهوا بها ذلك التاجر الذي باع لي، فهاج وشتمني بأقذع الألفاظ واتهمني بأشنع التهم بالتزوير والتحوير وحمل عصاه وأقسم أنه سيسيل دمي، ولما قررت فتح بلاغ عليه تم نصحي بأنه من أهل شيخ السوق وأن تصعيد المسألة سيكون سياسياً، وطمأنني التجار بأنهم يعلمون المؤامرة وأنهم يقفون معي ويحموني، لأن الشرطة والقضاء لن يحموني
سكان قرية ود هاشم والذين كانوا يخدمون سابقاً في مشروع والدي، رحبوا بي ترحيباً حاراً لإحياء ما بدأه والدي والذي اشتهر بجوده، فأمرت بالسماح لهم ولأي أسرة مطلقاً للتبضع بما يملأ مقطفاً يومياً لكلٍ، من منتجات المزرعة لطعام أسرهم دون مقابل
لمحاط بالتهديدات بالاعتقال والمطاردات القضائية وتنفتح الطرق لقلة من تجار المؤامرات للابتزاز والسرقة انتهى العام وخسرت الزراعة رغم الشهادة بأنها كانت زراعة ناجحة جداً، ولكن تجارتها كانت مصيبة كبرى، وخسرت كل رأسمالي رجعت للخرطوم وكانت أيضاً نهاية عقد الشراكة في تهجين الأغنام والتي نجحت نجاحاً باهراً كنا لما نعلن عن مزاد لبيع الأجنة، تصلني محادثات هاتفية من شتى المؤسسات تعرض عليّ شراء كل الأجنة بالسعر الذي وضعناه وهو مائة دولار للجنين الواحد، مرةً كانت القوات المسلحة لمنح تلك الأجنة للأكفاء من رجالها تقديراً، ومنها وزارة التعليم العالي لمنحها مكافآت تقديرية لأفضل معلميها، ومنها اللجان الشعبية والتي ترغب في قيامها بتوزيعها للأسر المستحقة. ولكن بما أن المنتج ليس كثيراً لخدمة أيٍ من تلك المؤسسات، ولأن في المؤسسية في السودان هنالك نسبة عالية من الفساد، قررت وقوفنا شخصياً ببيعها للجمهور مراقباً عدم الطمع وسط من يحاولون التحايل لشراء أكثر من جنين وقرر الأخ عادل تأسيس عمله لوحده وقمت أنا بتحويل الأغنام لمنطقة الحتانة حيث حفظتها في حوش كبير وبه غرفة لحفظ الذرة لطعامها ومواد العناية من حجارة اللحوس، وعلاجات القراد وخلافه، حيث أن البرسيم نأتي به نقياً كل يوم، وعينت بها راعي يحرسها ويحلب ألبانها لبيعها للمواطنين، ثم يذهب بها للرعي، والفحل نأتيه بالثلج يومياً، ونسبة لقرب النيل من الموقع، كنا نأخذه يومياً لحمامٍ بارد بالنيل، وكان يحب ذلك وكان أولاد الحلة يحبون تلك السيرة التي يقاد بها الفحل (وهو ضخم) إلى النيل بمواظبة محكمة، مما سهل عليَ المهمة ثم أصبت بالتهابٍ رئوي حاد وكنت طريح الفراش، وتدهورت صحتي، وكنت قد عهدت بالإشراف على عملي لنسيبي، واستعمر المرض العضال ثلاثة أشهر، كان خلالها قد ماتت معظم أغنامي وأجنتها، ولم يتم إخطاري رفقاً بي خلال تلك الفترة، وشرح لي نسيبي أنه كان يخطر كل يوم بأن هناك ضحايا من الأغنام ويقال إنها لدغة عقارب
ثم اتصل بي بنك فيصل الإسلامي لشراء الفحل، ولكني كنت أغلي من الغضب وأنا يتضح لي حجم الحرب التي أواجه
وأتاني أحد الأصدقاء برجلٍ قبطي يطلب شراء الفحل، فرحبت به، ولم يبخل هو بدفع الاستحقاق كاملاً، وعبر لي عن تقديره لبيعه له وهو قبطي دون تردد، فأخطرته إنني أجد في إخوتنا الأقباط وفاءاً وصدقاً، وكما قال تعالى "رأفةً ورحمةً ورهبانية" قلما تتوفر في هذا الزمان ثم أمرت بتوزيع الأغنام المتبقية عطيةً وهي حُمّل لأقطاب الأسرة الكبيرة وللكبار الذين لا عائل لهم، تنفعهم تلك الأغنام وأجنتها قررت مغادرة البلاد لإنجلترا حيث كنت مقيما في السبعينات، وكنت قد قررت إضاعة إقامتي عمداً بعدم زيارة بريطانيا لمدة عامين، كافية لإزالة الاستحقاق. حاولت فرفضت السفارة طلبي إذ كان هنالك شك في غرضي للجوء بعدها عرضت أرضي الزراعية، وهي كل ما تبقى لي من ميراثي ومن عملي العام والخاص، عرضتها في جريدة السودان الجديد، إذ أن سوق الأراضي والعقار كان جامداً لعدم السيولة، القيمة ترتفع عرضاً نوعياً، والسعر ينخفض قدرةً طلبياً، وليس في السوق إلا صيادو الفرص أخيراً شرت أختي الأرض مني فسخّرتُ المبلغ لعملية لجوء سياسي لإنجلترا، وكان يوم الجمعة هو يوم سفرنا في سفريات الخطوط السودانية للندن، ولكننا وبعد إجراءات المطار كلها، ونحن في قاعة المغادرة، جاءنا رجلٌ من الأمن وأمرنا بحمل حقائبنا والرجوع، وكنت قد شريتُ تأشيرة عمل بالكويت وعملت حجزي لكل أرجل الرحلة حتى الكويت عن طريق بريطانيا، فقال لي رجل الأمن إذا كنت ترغب في السفر للكويت فسأتولى تحويلك بطريقٍ آخر. تصنّعت الغضب وقلتُ له سأقدم شكوى وسأغادر الجمعة القادمة. سألتني زوجتي إن كان من الحكمة إخطارهم بخطتي تلك، فقلت لها لا لن نتبع نفس الخط، بل سنغادر عن طريق الهند. بدأنا التخطيط هذه المرة بأسلوب مختلف تماماً، استخرجنا تأشيرات للهند، وتركنا أغراضنا كلها وراءنا (عدا وثائقي التي تثبت محاربتي في السودان) بحجة أننا في سفر لعطلة قصيرة. قمت كذلك باتصالاتٍ عرض عليّ فيها البعض أن أدفع خمسة آلاف دولار وسيتم ترحيلنا حتى لندن (وهي ما اتضح لي الآن هي عصابات التهريب البشري)، ورغم عدم خبرتنا بتلك تجارب إلا أنني أن الموضوع غير مقبول إذ أنه لا يوجد فيه شيء صلب يمكن أن تمسك عليه، وبحثت حتى وصلت إلى من يستطيع أن يؤمّن لي ضباط أمن من قسم الجوازات والطيران المدني نظير مبالغ من المال حسب خطةٍ دبرتها: باستعمالي بطاقة دخولي المطار والتي لا زالت معي يمكن دخولي للمطار وحتى التواجد في صالة المغادرة وذلك للتخفي في داخل إحدى دورات المياه لحين إعلان مواعيد الإقلاع. بالنسبة للزوجة والأولاد يمكنهم الدخول للمطار كالعادة وعمل إجراءات المغادرة. مهمة ضابط أمن الطيران المدني هي تسهيل ذلك لهم، ثم الوقوف على ضابط الجوازات والذي يتم الإجراءات سريعاً ويخفيها من ضباط أمن الدولة الذين يمرون كل قليلٍ. تمت إجراءات المطار كلها وجلست الأسرة في صالة المغادرة حتى إعلان الإقلاع، فخرجت وتبعتهم (ولم أنضم إليهم) وكأنني في عملي الرسمي ببطاقتي على صدري، ثم قدمت في باب الطائرة بطاقة الصعود للطائرة، وكانت الخطوط السعودية إيربص 310. بعد صعود الركاب جميعاً حضر مندوباً من الأمن وبدأ ينادي أسماءاً يأمرهم بالمغادرة، وكنا مطّربين جداً ونتعوّذ بالقرآن الكريم بعد أن نادي أربعين إسماً بالمغادرة وتسليم أمتعتهم، تم السماح للطائرة بالمغادرة
تحركت الطائرة ونحن نحسب إذا هنالك أي احتمالٍ لإرجاعها قبل وصولها مدرّج الإقلاع، وذلك محتمل طبعاً، فلم تهدأ قلوبنا وهي تتسارع الدقات.
وتسارعت الطائرة للإقلاع وفعلاً أقلعت ترتفع وتتسارع في الارتفاع، وخيّم علينا هاجسٌ جديد.. أليس الخطر لازال باقياً؟ قبيل عبور حدود السودان الشرقية هنالك احتمالٌ لرجوع الطائرة للخرطوم أو هبوطها اضطرارياً في بورسودان، لوكان هنالك أمرٌ طارئ، فنياً أو أمنياً، وبذا لا زلنا في الخطر
عفواً فقد انمسح جزء من المقالة أعيد ذلك الجزء من قبيل بدئه إلى بعيد إنتهائه: سكان قرية ود هاشم والذين كانوا يخدمون سابقاً في مشروع والدي، رحبوا بي ترحيباً حاراً لإحياء ما بدأه والدي والذي اشتهر بجوده، فأمرت بالسماح لهم ولأي أسرة مطلقاً للتبضع بما يملأ مقطفاً يومياً لكلٍ، من منتجات المزرعة لطعام أسرهم دون مقابل "في عملية المسح أتاني رجلٌ من قرية مايرنو وأخذني لجنينة تخصه مقامة على جزءٍ من أرضي الجزء الحكر على جانب النيل الأزرق، وقال لي أن والدي رحمه الله سمح له بإنشائها صدقةً جاريةً له ولأولاده، وأنه لن يتردد في ردها لي إذا رغبت في ذلك، ولكني تمنعتُ أن أنقض عمل خيرٍ قام به المرحوم والدي ووجدتني اصارع كثيراً من التعديات الأخرى كإدخال بعض الرعاة اغنامهم او ابقارهم للرعي في حواشات المزارعين، وأقمنا سياجاً من الشوك ورغم ذلك كانوا يزيحون منه ما يسمح بإدخال ماشيتهم، وفي ذلك الجو المحاط بالتهديدات بالاعتقال والمطاردات القضائية وتنفتح الطرق لقلة من تجار المؤامرات للابتزاز والسرقة كان الصبر قاسياً والسعي شاقاً"
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة