البحر قبالة مصراتة يعوي مثل ذئاب جائعة..خلف هذا اليّم ترقد مالطا بمآذنها ومخازيها..الأنباء من الخرطوم، تشير إلى اعتقال كارلوس بعد تخديره..تحت الجِسر الذي يأخذك في إتجاه صرمان، رأيت ضحية الثورة..المتشرِّد "معتوق"، يلجأ الى نفق عند خاصرة الأسمنت...
لا أهلَ لمن لا مالَ له..!
يهمس السودانيون،أن الفاتح العظيم صادر منه كل شيئ..رأيته في الضياع، تلفحه بواقي عينة البحر الرخيمة..!
أصحاب المقاهي لا يطيقونه..ما أن يظهر أمام واجهة المحال ،حتى يحملون إليه مأكلة، في لفافةٍ من ورق..!
رائحة المعتوق ثقيلة يا صاحِبي..ثقيلة كالنُّحاس..رائحة زفيرةٌ ، مثل عنق رحِمٍ تذرُفُ بالخطايا..!
ضاعت التفاصيل..ما أذكره الآن، أنها اصطحبتني ذات يوم إلى 54 شارع الروضة بالمنيّل..غرقت بسيارتها الفِيات في زحيح القاهرة..لوحات الطبلون مذهّبة و منحوتة على إطار من خشب..التلوُّث يخنق الانفاس في وسط البلد، لكن عطراً دافئاً منها، يهبط علي...قالت، أن جدّها لأبيها عمل موظّفاً في الرّي المصري، وأنه جاء إليهم من السودان، باللُّبان الضّكَرْ..!
*إنت ما تعرفش..ما تعرفش اللُّبان الضّكَرْ ده، ده بيعمل أيه..؟
ــ لا..!
*ما تعرفش..؟ طبْ إزّاي..!؟
أذكر أنها قالت ذلك بايحاءاتٍ شتى..قرأت في تقطيبة جبينها، ما دفعني الى تقليب تلك المرأة المتغغلمنة على جمرٍ من الاشتياق..قلت لها أن سحرة فرعون جاءوا من هناك، وأن كبيرهم دخل الأُقصر في هيئة جرادة..وأنّه آمن بإله موسى، فقام فرعونكم بشنقه على جذع نخلة..!كانت تسمعني ولا يبدو أنها تصدّقني،لكنني كنت "أُتبِّل" الاشياء وأُموضِع الاسطرة، مؤكداً لها، أن في في الاسطورة يختبئ شيء من حقيقة...كانت تغض الطرف، عندما تضبطني وأنا جائل هنا وهناك...كل شيئ فيها كان ضخماً،مثل عجيزة حُمُر الوحش..تفاصيل كثيرة تفرّقت من ذاكرتي ..عندما ذابت عُقدة لقاءنا، لم تعد تلك المرأة هي مدام جِندي، التي استأجرتنا شقتها في طومان باي..!
تلك المرأة ورثت عن أبيها مكتبة صفراء..لا أذكر أنني تصفّحتُ كتاباً منها ، دون أن أرى في صفحاته صورة لفؤاد الاول،أو وسم خطوط لمطابع الفجالة، و محمد على صبيح..!
الحياة حلوة، لكنها لا تسكُن ولا تهدأ..ضاقت القاهرة ذرعاً بالسودانيين، بعد محاولة الاغتيال الفاشلة..وصل "الريِّس" غاضباً من أديس أبابا، وهدد باحتلال بورتسودان...بعد شهور من وداعنا في منزلق كوبري قصر النيل، كان الليبي عبد الجليل ،يقرضني بعضاً من عرقي...اشتريت أبرولاً، و"كبكاً" ذي سيور..الجيفارات جنوب الزاوية هي بيوت أعاريب بني صقر..بيوت من البلوك الأسمنتي تتناثر متباعدة..القبيلة باقية، وللبداوة أحكامها، وزحف الثورة لن يذيب الفوارق..!
أخذني مُستأجِري عبد الجليل، الى مزرعة في الجيفارات..قلت له أنني مزارع إبن مزارع ،ابن ستين فتلة...لم يلقِ بالاً لما أقول، فالسوداني عنده، لا يصلُح إلا في حفر "السّباليق"..!
كنت أحفر له بمعدل خمس سباليق في اليوم..متر مكعّب طولاً وعرضاً وارتفاعاً...قبل هبوط الليل ،يأخذني إلى الجسر الذي يلجأ إليه ضحية الثورة ـــ المعتوق..!
كنت أراوده كل مساء، أن يعطيني حقّي:ــ
*حاسبني يا زول، أنا قَفَاي أعوَجْ..!
يقول لي:ــ
ــ باهي باهي..غُدوة نِحاسَبوك..!
*يا زول، إنت كل يوم تقول لي باكِر، باكِر..؟
ــ يا سوداني، بعدين ببعدين.. تِخلّص شغلك، وبعدين نِحاسَبوك..
*وشغلي دا يِنتهي متين..؟هذه مزرعة حدّها شريط أُوزو..!
لن يعطيني جواباً، ولا مالاً ..لو أضربت عن العمل، سافقد أجر اليوم، و"حإتْسَيّكْ"..!
لو سخّرت نفسي له، ربما يقرضني قوت يومي..!
غداً، سأحفر له، حتى "القُريرا"..غداً، ستكون لي عنده دينارات، أدفع منها حق الميز، وربما أسافر إلى جهة أخرى..!
في باب الميز، تقابلني رائحة الحَلّة، وكواريك تربيزة الكوتشينة، وأسئلة اليوم الذي انقضى..!
لعشب البراري جدائلاً مثل أذناب الثعالب، وعبد الجليل في الغادية والرايحة، يستغرب قولي له ، أن السودان دولة كاملة السيادة، وأن فيها انهاراً، و أغنياء ،وحكماء ، وشعراء..!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة