حملت الأنباءُ خلال الأيام الماضية خبرَ وفاة طفلة البئر (أم شوايل) التي رمى بها من لا قلب له ولا رحمة فى جوف بئر موحشة تسكنها الهوام وهو لا يدري أنه بصنيعه هذا يكتب لها موعداً مع قدرٍ عجيب.
لقد تابع الكثيرون قصة تلك الفتاة البريئة التي عاشت ما ينيف عن شهر حبيسة بئر مهجورة في أحد سهول ضاحية سودري بشمال كردفان، ولكن قدر الله أبى إلا أن تعيش فتاتنا داخل ظلمة الجُب وتخرج منها كما عاش يوسف النبي في ظلمة هذا الجب، وخرج يونس النبي من ظلمة بطن الحوت.
لقد كنت من الذين قُدر لهم أن يزوروا أم شوايل في بيتها بأمِّ ضوَّاً بانْ برفقة الأستاذ التاج عثمان الذي كان له فضل نشر قصتها في صحيفة الرأي العام. فقد كتب عنها مراراً فاتصلت به وحدّدنا موعداً لزيارتها.
وفى يوم سبتٍ سماؤُه صافية وحرارته معتدلة، لقيني ليُقلّنى الأستاذ التاج عثمان بسيارته الأتوز البيضاءِ اللون بياضِ قلبه وهو يتفانى في خدمة الناس بإخلاصٍ وتجرد. قطعنا المسافة ونحن نقلب مواضيعَ شتى تركز جلها حول الظروف الإنسانية المعقدة التي يمر بها كثيرٌ ممن عرفهم الأستاذ التاج عثمان بحكم مهنته وحاجة الكثيرين غيرهم من أبناء هذا الشعب المغلوبِ على أمره. تأثرت كثيراً لما سمعته من قصص مختلفة وروايات متعددة تحكي أصنافاً من عذاب بني الإنسان في هذا السودان العريض. سألت نفسى حينها كيف الخلاص من هذه الظروف المعقدة وكيف السبيل إلى محاربة غول الضائقة المعيشية ومتى يساق إلينا ذليلاً منهزماً بُعْبُعُ الأزِمات الاقتصادية؟ لم أجد لديَّ جواباً لهذه الأسئلة، فتذكرت أن بالدولة من يتعاطى أجراً ومزايا وفوائدَ ونثرياتٍ للرد على هذه التساؤلات وأن على رأس الدولة راعٍ لو عثرت بغلة فى حفرة بشارع القصر الأسفلتي لأقضَّ ذلك مضجعه وأرَّق دواخله حتى يحاسب من كان السبب!
كانت السيارة البيضاء الصغيرة تنهب الطريق نهباً حتى وصلت بنا إلى وجهتنا فهي تعرف الطريق إليه من فرط تعودها عليه. لمْ ننسَ أن نعرج على سوق المدينة المكتظ فى ذلك اليوم لشراء بعض الفاكهة والمشروبات كعادتنا دائماً أهلَ السودان عندما نزور بعضنا؛ فنحن كأننا إنما نؤسس علاقاتنا الاجتماعية على الثمار الطيبة والشراب الذي وعد الله به أهل الجنة.
طرقنا باب المنزل الذي عرفت فيما بعد أنه هدية أحد محسني جزيرة العرب إلى أم شوايل (فهل تركنا الإحسان إلى غيرنا فاغترب!). دلفنا إلى حجرة متواضعة بأحد أركان المنزل وجلسنا ننتظر قدوم أم شوايل إلينا وأنا أتحرق شوقاً لرؤيتها. مرت لحظات أحسبها طويلة كسر سكونها صوت أقدام تتجه نحو باب الغرفة فإذا بفتاةٍ صغيرة تبلغ من العمر عقداً ويزيد ويلامس مُحيَّاها البرئ شغاف القلب منذ الوهلة الأولى. كانت تلك هى أم شوايل التى لا يملك المرء إلا أن ينفطر قلبه عليها وهو يتخيلها داخل تلكم البئر الموحشة يسكن دواخلها الخوف من هول المكان وظلمته. كانت تقترب منا وهي تتعثر في مشيتها حتى خشيت عليها أن تقع وهي تسارع الخطى للترحاب بضيوفها. صافحتني بيدها اليسرى لمرضٍ داهم يدها اليمنى في طفولتها فأثر على حركتها. وما بين يمناها ويسراها وجدتني أحدق في محياها. تفرست وجهها الملائكيَ فرأيت فيه صدق الابتسامة وعذوبة الطفولة ومسحةً من نقاء السريرة ودفقةً من براءة الشعور والدواخل. رأيت فيها أيضاً قدرة الله واختياره لها لهذا الاختبار القاسي وهي في تلك السن الصغيرة. سألت نفسي كيف صمدت هذه الفتاة الصغيرة في تلك الحفرة الكبيرة؟ كيف امتصَّ ذلك الجسد الضعيف تلك السقطة القوية؟ وكيف قوِي ذلك العود الطري على هيجان نوبات الجوع والعطش طوال تلك الفترة؟ تخيلتها وهى ترعى الغنم في البوادي على حينِ أن أترابَها كنَّ فى فصول الدراسة ينهلن من العلوم وتلاعب بعضهن بعضاً وينعمن بستر البيت ودفء الأسرة وعطف الأب وحنان الأم!
جالت ببالي لحظتَها خواطر عدة وفكرت فى قدر الله وتصريفه لشئون خلقه ومخلوقاته. مر أمامي شريطٌ من الأمثلة عن معجزات وآيات قديمة وأخرى حديثة معاصرة تذكرنا بجبروتِ المولى عز وعلا وقدرتهِ تبارك وتقدس.
إن معجزات الله لا تعد ولا تحصى وآياته فى الأرض كما هي فى السماء لا حصر لها ولا انتهاء ويبقى الإنسان نفسه إحدى معجزات الخالق البديع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!
رحم الله أم شوايل وغفر لها وأبدلها بعذاب البئر نعيماً فى القبر، وعوضها عن ظلام الجب نوراً من نوره لتهنأ فى مرقدها حتى تُزفَّ مرة أخرى عروساً تتلقفها قصور الخلود في الخلد وتعطرها رياحين الفراديس.
2016-01-10 20:37 GMT+01:00 Dr. Mohamed Badawi :
مسقط ... أعلنت عليكِ العشق
بينما كان العام 2015 يلملم أطرافه مودعاً، كنت أشد الرحال مع أسرتي الصغيرة ميمماً شطر وجهة لا أعرفها حتى أضع عني حمل عامٍ مضى ولكى أعبيء دواخلي بطاقاتٍ جديدة لعامٍ سيأتي نسأل الله لنا فيه التوفيق والنجاح وأن يسخر لأمتنا الإسلامية - عربية كانت أم أعجمية – سبل الفلاح وأن يلهم حكامنا وولاة أمورنا قول الحقيقة وطرق الهداية وأن يهيئ لشعوبنا المستضعفة الصبر على البلاء والثورة على ظلم الأعداء.
كانت وجهتي سلطنة عمان أو "مجان" أو "مزون" كما حكى التاريخ عنها، فحط بنا الرحال ذات مساء في حاضرتها "مسقط" فبتنا ليلتنا تلك لا ندري ماذا تخبىء لنا تلك المدينة عند بزوغ شمس أول يوم لنا فيها !
يجيء الصباح مبتسماً في "مسقط"...تشرق الشمس من خلف جبالها كطفلةٍ خجلى تحتمي بأبيها عندما ترى غرباء لأول مرة. تشعرك وأنت تتجول في طرقاتها التي تعلو تارة وتهبط تارة أخرى كأنك في مهد صبي غر تداعبه أمه ضاحكة مستبشرة حتى يداهمها النعاس معاً. تغسل عنك رهق الأمس وهم اليوم وأنت تجرجر أقدامك متسكعاً في شواطئها الممتدة بلا نهاية. تقرأ داخل مياه خليجها سر البقاء الأبدي والخلود عبر الزمان. ترسم وديانها المتعرجة لوحة طبيعية في مخيلتك، فتخالها ضفائر فتاة خرجت لتوها من النهر بعد أن غسلت شعرها فطاشت ضفائرها الطويلة وتبعثرت بلا ترتيب على طول جسدها البض.
يمتلئ برنامج الزيارة اليومي بالعديد من الأمكنة الساحرة والقلاع القديمة والحصون التاريخية ومنابع العين الساخنة والمتاحف المتنوعة والمساجد ذات البناء المعماري الفخيم وكذلك الكثير من المواقع الأثرية متبوئه بذلك مكاناً في قائمة التراث العالمي لما تحتويه من آثار وأماكن ضاربة في القدم. تنتقل أيضاً من العراقة إلى الحداثة في تناغم حنين كأنك تستمع إلى السيمفونيات العالمية من جهاز الفونوغراف القديم وأنت ممددٌ على أريكة خشبية ورأسك مسنودة على وسادة طرية. تصاب بالذهول والدهشة من سحر الإبداع والفخامة ما أن تطأ قدماك دار الأوبرا السلطانية ذات البلاط الإيطالى والخشب المغربي والبناء الإنجليزي والنفس العماني.
رأيت في "مسقط" سواحاً من جنسيات شتى لا يتحدث أغلبهم العربية فقلت في نفسي أن هؤلاء جاءوا من بلادهم البعيدة لسبر أغوار هذه البقعة وليستمتعوا بسحرها وفتنتها وهى قريبة منا، فعرفت أن شعوبنا العربية لا ترى بوضوح موطأ أقدامها لهذا تكثر عثراتنا وتمتلئ أجسادنا بالدمامل والجروح!
بحثت عن عمال النظافة في "مسقط" فلم أجدهم! لا أبالغ إن قلت أنه ليس هناك حاجة لهم فالنظافة يتنفسها الإنسان في "مسقط" كما الهواء! عرفت أن السلوك التلقائي هو النظافة وإلا لما كان ساحلها الطويل نظيفاً كصفحة صحن أبيض إلا من ذرات تراب عبثت به رياح الشتاء فتهاوى على بطنه منهكاً. ابتسمت طويلاً وأنا أطرد عن خيالي الآن أكوام النفايات المكدسة في شوارعنا وداخل أزقة حاراتنا وأمام أبواب بيوتنا !
سبعة أيامٍ وثمانية ليالٍ متتابعات مرت سريعاً كخاطرة جميلة، شكلت خير ختام لعامٍ ولى، وددت لو تطول في تلك المدينة التي تتنفس تاريخاً وتتجشأ تراثاً وحضارة!
أيتها المدينة الفاتنة...أعلنت عليكِ العشق...فقد سقط عني بعض مني في "مسقط"...فلتفتحي ذراعيك لي وأنا أرتمي في أحضانك كلما راودتني نفسي أن أجيئ إليك !
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة