بينما كان العام 2015 يلملم أطرافه مودعاً، كنت أشد الرحال مع أسرتي الصغيرة ميمماً شطر وجهة لا أعرفها حتى أضع عني حمل عامٍ مضى ولكى أعبيء دواخلي بطاقاتٍ جديدة لعامٍ سيأتي نسأل الله لنا فيه التوفيق والنجاح وأن يسخر لأمتنا الإسلامية - عربية كانت أم أعجمية – سبل الفلاح وأن يلهم حكامنا وولاة أمورنا قول الحقيقة وطرق الهداية وأن يهيئ لشعوبنا المستضعفة الصبر على البلاء والثورة على ظلم الأعداء.
كانت وجهتي سلطنة عمان أو "مجان" أو "مزون" كما حكى التاريخ عنها، فحط بنا الرحال ذات مساء في حاضرتها "مسقط" فبتنا ليلتنا تلك لا ندري ماذا تخبىء لنا تلك المدينة عند بزوغ شمس أول يوم لنا فيها !
يجيء الصباح مبتسماً في "مسقط"...تشرق الشمس من خلف جبالها كطفلةٍ خجلى تحتمي بأبيها عندما ترى غرباء لأول مرة. تشعرك وأنت تتجول في طرقاتها التي تعلو تارة وتهبط تارة أخرى كأنك في مهد صبي غر تداعبه أمه ضاحكة مستبشرة حتى يداهمها النعاس معاً. تغسل عنك رهق الأمس وهم اليوم وأنت تجرجر أقدامك متسكعاً في شواطئها الممتدة بلا نهاية. تقرأ داخل مياه خليجها سر البقاء الأبدي والخلود عبر الزمان. ترسم وديانها المتعرجة لوحة طبيعية في مخيلتك، فتخالها ضفائر فتاة خرجت لتوها من النهر بعد أن غسلت شعرها فطاشت ضفائرها الطويلة وتبعثرت بلا ترتيب على طول جسدها البض.
يمتلئ برنامج الزيارة اليومي بالعديد من الأمكنة الساحرة والقلاع القديمة والحصون التاريخية ومنابع العين الساخنة والمتاحف المتنوعة والمساجد ذات البناء المعماري الفخيم وكذلك الكثير من المواقع الأثرية متبوئه بذلك مكاناً في قائمة التراث العالمي لما تحتويه من آثار وأماكن ضاربة في القدم. تنتقل أيضاً من العراقة إلى الحداثة في تناغم حنين كأنك تستمع إلى السيمفونيات العالمية من جهاز الفونوغراف القديم وأنت ممددٌ على أريكة خشبية ورأسك مسنودة على وسادة طرية. تصاب بالذهول والدهشة من سحر الإبداع والفخامة ما أن تطأ قدماك دار الأوبرا السلطانية ذات البلاط الإيطالى والخشب المغربي والبناء الإنجليزي والنفس العماني.
رأيت في "مسقط" سواحاً من جنسيات شتى لا يتحدث أغلبهم العربية فقلت في نفسي أن هؤلاء جاءوا من بلادهم البعيدة لسبر أغوار هذه البقعة وليستمتعوا بسحرها وفتنتها وهى قريبة منا، فعرفت أن شعوبنا العربية لا ترى بوضوح موطأ أقدامها لهذا تكثر عثراتنا وتمتلئ أجسادنا بالدمامل والجروح!
بحثت عن عمال النظافة في "مسقط" فلم أجدهم! لا أبالغ إن قلت أنه ليس هناك حاجة لهم فالنظافة يتنفسها الإنسان في "مسقط" كما الهواء! عرفت أن السلوك التلقائي هو النظافة وإلا لما كان ساحلها الطويل نظيفاً كصفحة صحن أبيض إلا من ذرات تراب عبثت به رياح الشتاء فتهاوى على بطنه منهكاً. ابتسمت طويلاً وأنا أطرد عن خيالي الآن أكوام النفايات المكدسة في شوارعنا وداخل أزقة حاراتنا وأمام أبواب بيوتنا !
سبعة أيامٍ وثمانية ليالٍ متتابعات مرت سريعاً كخاطرة جميلة، شكلت خير ختام لعامٍ ولى، وددت لو تطول في تلك المدينة التي تتنفس تاريخاً وتتجشأ تراثاً وحضارة!
أيتها المدينة الفاتنة...أعلنت عليكِ العشق...فقد سقط عني بعض مني في "مسقط"...فلتفتحي ذراعيك لي وأنا أرتمي في أحضانك كلما راودتني نفسي أن أجيئ إليك !
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة