كان السيد/ أحمد فضيل، من مواطني نهر الجور ببحر الغزال، يعمل سائق سيارةالمأمور/ إبراهيم بدري في الثلاثينيات من القرن المنصرم.. لم يكن أحمدفضيل يفكر- مجرد تفكير- في مغادرة منطقته على ضفاف نهر الجور.. فقد كانهانئاً راضياً بالعمل سائقاً للمأمور الإنسان.. و بالعيش في حدود الخضرةو الجمال.. و البساطة و السلام في منطقته..تقرر نقل السيد/ إبراهيم بدري للعمل بمدينة ملوط، فأصر على أن يصطحب إلىمعه إلى ملوط، سائقه أحمد فضيل لما وجده فيه من تفانٍ في العمل و لحسنسريرة السائق الأمين، فكان له ما أراد.. و هناك التقى أحمد فضيل زوجةالمستقبل- والدة محمد أحمد فضيل- و اقترن بها..هذا ما حدثني زميلنا المشترك محمد أحمد فضيل حين سألته عما إذا كان يعرفشوقي بدري.. فقال:- " كيف ياخي؟! ده كان معانا في ملكال الوسطى....." وكلانا من ملكال الوسطى و شوقي كذلك.. و ما رواه الأستاذ/ محمد أحمد فضيلعن الزواج الذي كان هو شخصيً أحد ثمراته، أعرف الفترة الأخيرة منه.. فقدكنا كأهل في واو الجميلة.. و كان الشباب يقضون أيام العطلات في بيت أحدهمفي أي حي يتفقون عليه دون تفرقة في الحي أو القبيلة أو أي شيئ آخر.. و كمكان منزل العم أحمد فضيل مضيافاً..هذا.. و قد دام الزواجً بين والدي الأستاذ/ محمد إلى أن توفاهما الله.. والفضل في زواجهما يعود، بعد الله، إلى السيد ابراهيم بدري..و استطرد الأستاذ/ محمد أحمد فضيل كثيراً في إبراز خصال ابراهيم بدري وتعاطيه مع الجنوبيين الذين كانوا يعملون معه.. و أكد لي بأن البدري منالشماليين الذين ظلوا يردمون الهوة بين الشمال و الجنوب بصدق نابع منإنسانية لا يشوبها نفاق أو ادعاء إنسانية كاذب.. و هي الهوة التيافتعلها الانجليز بتكريس المناطق المقفولة و ساعدهم على توسيعها بعضالشماليين باستعلائهم و أنانيتهم المبالغ فيها..و قال لي محمد أحمد فضيل أن حب ابراهيم بدري للجنوب و الجنوبيين جعلهيعود إلى رومبيك بعد نزوله إلى المعاش.. و تواصل ردمه الهوة بين الشمال والجنوب و هو تاجر كما كان يفعل و هو إداري- بعيداً عن الأنانية والغطرسة..و على ذكر الأنانية، ففي بداية إجازتنا السنوية في أواخر الخمسينيات منالقرن الماضي، أقَّلتنا الباخرة من ملكال إلى ميناء شامبي و منها ركبناعربة لوري إلى يرول للعبور إلى رومبيك لتقلَّنا شاحنة إلى مدينة واو.. وحين بلغنا مدينة يرول تفاجأنا بأخبار تفيد بأن جسر العبور إلى رومبيك كانمكسوراً.. و أن علينا البقاء في يرول التي كانت تعاني من المجاعة و كانسكان ضواحيها يأتون إلى المدينة لبيع أنعامهم بأبخس الأثمان.. و قد أبدىأحد الزملاء سعادته الغامرة:-" أبوي السنة دي حيشتري أبقار كتيييرةخلاص!" .. و على النقيض من زميلي ذلك كان أحد تجار المدينة يعامل الجوعىبكل رحمةٍ مادية في وسعه .. و سمح لنا بالإقامة أمام متجره و كان يمدناببعض الطعام.. و كان عددنا حوالي الثمانية تلميذاً.. و انقضت أيام.. علىتلك الحالة.. و لما شعرنا بأننا نثقل على التاجر الكريم، قررنا أن نلجأإلى مفتش المركز - و اسمه قريش- في بيته.. لم يكن هنالك سور يحمي بيتالمفتش.. و البيت مبنيً على الطريقة الانجليزية العتيقة و حواليه أشجارمتدلية الثمار من مانجو و باباي و غيرهما.. و رغم الجوع لم يطمع أيٌّ منافي قطف أي ثمرة من الثمار المتاحة لنا.. طرقنا باب البرندة.. فتح أحدعماله الباب.. أخبرناه عن هويتنا.. و سبب مجيئنا.. دخل العامل على المفتشو عاد إلينا و طلب منا الدخول إلى الصالة.. أتى المفتش لابساً جلباباً..حيانا بود و تعاطف كبيرين.. و بعد فترة وجيزة من الأسئلة و الأجوبة طلبمن طباخه أن يعد لنا الطعام.. و أمره بفتح الاستراحة الحكوميةٌلإيوائنا.. وأمر الطباخ أن يعد لنا الوجبات الثلاث يومياً حتى يتم إصلاحالجسر الرابط بين يرول و رومبيك.. و ظل يطل علينا يومياً للاطمئنان علىسلامتنا إلى أن غادرنا المدينة..إداريان شماليان يعكسان ما كان يتصف به الاداريين من نبل في الإدارة وإنسانية في التعامل في الجنوب..كنا نعيش تحت رعاية و عناية رجال عظماء!أحدث المقالات
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة