قبل نحو عقدين من الزمان،عندما كنا نتزلج على أمواج الدراسة الجامعية،كنا نادرا مانفترق،أنا وياسر وجمال..لكن لاحقا بعد ما تشعّبت بنا الدروب،مثلما يتشعب الدم ليسق الأظافر، صرنا لانتلاقى إلا كما تتلاقى الفطنة مع الطالع الحسن،لقاءآت نادرة وقصيرة. في اللقاء الأخيرلنا مجتمعين،كان جمال متكدرا من زوجته..ولم تزجره حقيقة أننا لم نعد نستظل تحت شجرة الصداقة نفسها التي كانت تجمعنا من قبل،ولم تزجره كذلك النوايا التي كنا نتفق عليها دون اتفاق، في أن نجعل لقاءآتنا العابرة مناسبات للمرح والتذكر الجميل وحسب..إذ سرعان ماطغت عليه مشاعره المهيضة ،ومع أول سؤال عفوى عن الأحوال، رد قائلا :زى الزفت والحمد لله... ونظرت أنا لهذه العبارة مثل ماتنظر السمكة العجوز (للصارقيل) المتهتك الذي يحاول إخفاء الصنارة.. لكن ياسربإجابيته المعروفة قال:خير في شنو؟ : المرة ياياسر جننتنى عديل كدا، قدر ماأحاول أرضيها تزيد هي في مشاكلها وسخافتها. وانزلق بعد ذلك سيل الشكوى من جمال تجاه زوجته،وتابع ياسر ذلك السيل بصدر رحب حتى منتهاه.. ثم سأل جمال قائلا:هل امتنعت عن تلبية طلب لها؟وهل تتغيب عن البيت كثيرا؟ قال جمال:على الإطلاق... وتوالت تباعا الأسئلة (الفاحصة) من ياسر،لكن كانت الردود دائما ماتؤكد حقيقة واحدة: أن جمال أقل مايستحقه من تلك الزوجة الجاحدة،هو أن ترسل اسمه لموسوعة غينيس للأرقام القياسية (باب أكثر الرجال وفاء لزوجاتهم). قال ياسرمبتسما:عليك بنظرية الخروف. : كيف يعنى؟ قال ياسر: عندما كنت صبيا،كنا نسافر من وإلى القرية على ظهور (اللواري)،وأحيانا كان بعض الركاب يحملون معهم المواشى من الماعز والضأن على تلك العربات بالقرب من بقية المسافرين،كان العرف يقضى بأن تكون خطة الجلوس كالآتى : النساء في صدر اللورى،ثم الشيوخ والكهول،ومن بعدهم الصبيان والشباب،وأخيرا المواشى في مؤخرة العربة..ولم يكن هناك أحد ـــــ خلاف الطلاب المهاجرين ــــ يبدي امتعاضا من تلك البهائم... و في ذات مرة كنت على ظهر أحد اللواري مسافرا من القرية..كان ذلك اللورى مزدحما بالركاب،وفي مؤخرته رقدت بعض الخراف، لكن واحد منها أشتر وعنيد،تقدم ووقف بقربى لدرجة التلاصق،وخشيت من أن يتبول على ملابسى،هذا خلاف رائحته النتنة،ولأن الزحام كان فظيعا،لم يكن هناك سبيل لأبدل مكانى أو أتزحزح عنه،لذلك لم أتوان إطلاقا في دفع ذلك الخروف لأقصى مؤخرة العربة..لكن كلما كنت أدفعه كلما عاد هو إلىّ من جديد..وهكذا أمضيت زمنا طويلا من تلك الرحلة مثل الطفل الذي يلعب (باليويو)،أدفع ذلك الخروف ويعود هو إلىّ من جديد..وكان هناك شيخ يجلس غيربعيد منى،ظل يراقب الموقف منذ البداية،ثم قال بعد وقت طويل :لو بدّورو مايقربلك تانى، أزحفو عليك... وفي البداية تجاهلت أنا تماما هذه النصيحة غير المنطقية،واعتبرتها محاولة جديدة من أهلنا للسخرية منّا نحن الطلاب،بسبب اعتقادهم أننا قد نسينا حياة القرية..لكن الشيخ انتهرني قائلا :ها آجنا،إت قايلنى بلعبّك؟.. فقمت عندها بجذب الخروف نحوي جذبة شديدة أودعتها كل غيظى منه،ولدهشتى الشديدة بمجرد مافككت يدي عنه،قام الخروف بقفزة خلفية مضادة لتلك الجذبة..وصار أخيرا في مؤخرة العربة بعيدا عنى،ثم ثبت في مكانه ذاك مع رفاقه..واكتشفت أن حركات الخروف كانت منذ البداية عبارة عن ردات مضادة لأفعالي... قال الشيخ:الخروف أصلو معاند ومابفهم،لكن ماعندو ذنب..المحن ياولدي إنو في ناس كتار متلو،مابشتغلو إلا بالعاكوسي... وضج الركاب بالضحك.. لكنى لم أفعل،فقد كنت أفكرفي هذه النصيحة الثمينة والتى جربتها على مرالأيام مع كثير من الناس،وأقول لكم صادقا إنها لم تخذلنى قط..هناك غريزة في الناس تدعو للعناد خاصة في العلاقات الاجتماعية..والآن ياجمال كل ماعليك فعله هو التثاقل على زوجتك...ادفعها بعيداعنك وستعود هي إليك من جديد إن شاء الله. بعد تلك القصة الطريفة تفرقنا فراقا طويلا ولم نتقابل ثلاثتنا مجتمعين حتى الآن، لكنى قبل فترة قليلة قابلت جمال لوحده..كنت قد نسيت تماما قصة الخروف،لكنى لم أنس شكواه من زوجته، فسألته عن أحواله معها... وما إن سمع سؤالى حتى رجع للخلف خطوتين ووجه أم رأسه نحوي ثم حدرنى بعينين مقلّبتين وصاح بعدائية ظاهرة: بآآآآآع. في الواقع ارتبكت أنا من هذا(النشاط الهدّام المفاجئ)،وظننت أن صديقى القديم قد أُصيب بانفصام في الشخصية،وبتُّ أفكر فقط في كيف أتفادي تلك النطحات التي هي دون ريب منهمرة على بعد قليل... فصحت دون وعى منى :يازول هيي مالك،في شنو؟ لكن صديقى المحبط قال: ياخى إنت قايلنى دار أنطحك وللا شنو؟أنا بس دار أوريك إنو نظرية الخروف نجحت. ودفنت خجلي الشديد في ثنايا حفاوتى بذلك الخبرالسعيد،ولم يتركنى جمال أمضي إلا بعد أن شرح لى بالتفصيل الممل كيف طبق تلك النظرية مع زوجته ومع أناس كثيرين غيرها،ووجدها دائما ناجحة نجاحا منقطع النظير. وأنا الآن بالطبع لاأنصح القراء الأعزاء بمحاولة تطبيق تلك النظرية الخروفية تجاه زوجاتهم، فلكل نظرية آثارعكسية محتملة،لكنى قد أحاول أن أنصح بتطبيقها تجاه دولة جارة (تشبه زوجة جمال) ...فمهما كانت الآثار العكسية المحتملة بالغة في السوء ،فهى لن تكن أسوأ من الإستخفاف المزمن (والكيد أحيانا) الذي عشناه من تلك الجارة على مرّالتاريخ (أوحتى عندما كان واقفا لم يتعلم المروربعد)..لكن من يحتاج لتلك النظرية أكثرمن غيره،تجاه تلك الدولة ياترى؟ما رأيكم في الأجيال المخضرمة،التى درست في تلك الدولة،أوسمعت خطب عبد الناصر،أوشربت من سراب التكامل، أو حتى أعجبت بأم كلثوم وفريدشوقى...الأجيال التي ترّنمت ب (يا أخت بلادى ياشقيقة).... والسؤال الباقى أبدا:متى الفكاك من عقدة تلك الشقيقة؟.. متى يأتى اليوم الذي نحدر لها فيه بأعين مقلّبة ونصيح (ليس بعدائية بالطبع):بآآآآع...ثم نمضى لحالنا... لا أعتقد أن أصغرسلاحفنا عمرا والتي مازالت تتعلم أصول الجعجعة في أضابير أحزابنا،أوتلك التى تتلذذ بشعور الاصطفاء والتميزمع قادة الرأى الوطنى وصناعه،أو حتى تلك التي تختبئ حياءً في تلافيف عقل الأمة الباطن، ستحيا حتى تشهد ذلك اليوم..رغم أن السلاحف هى أيقونة العصرفي طول العمر و.....بطء الحركة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة