صلة لحديثنا في الحلقة الأولي من هذه الذكريات عن عميد الفن السوداني الراحل احمد المصطفي الذي غادر الفانية في 30/10/1999م نقول أنه وطوال مسيرته الفنية ، لم يتوقف العميد عن التجديد في أعماله الغنائية ، وفي طريقة ألحانه ، بل وفي تنوع مفردات الأغنيات نفسها ، فما من شاعر- بخلاف الجاغريو - لم يكن ليتمني من أن يتغني العميد بأشعاره . ومن المعروف تاريخياً ، أن كل من احمد المصطفي وحسن عطية وابراهيم الكاشف والفرقة الموسيقية ، قد أعدت لهم حكومة السودان ( الإنجليزية طبعاً ) في العام 1944م رحلة فنية للترفيه عن الجنود السودانيين الذي شاركوا من ضمن قوة دفاع السودان مع جيوش الحلفاء في معركة العلمين في ليبيا ضد جيوش دول المحور ( المانيا وايطاليا والنمسا ) ، وقد كانت الكتيبة العسكرية السودانية مرابطة في مدينة الكفرة الليبية حيث مكث الفنانون المبعوثون أسابيع طويلة يتغنون وينشدون للقوات السودانية . وهناك في الكفرة كان الصاغ محمود أبوبكر من ضمن قيادات قوة دفاع السودان ، وهو يكتب الشعر ، غناءً وأناشيداً ، فهو مؤلف نشيد المؤتمر الشهير ( صه يا كنار وضع يمينك في يدي ) فكتب لأحمد المصطفي نص غنائي وهو ( زاهي في خدرو ما تألم ) ، فأعجب بها العميد وشرع في تلحينها ولم تستغرق منه غير يوم واحد ، وأجري بروفاتها مع الفرقة المصاحبة ، وتغني بها في حفلهم الأخير للجنود ، ثم غفلوا راجعين إلي السودان بالبر عن طريق مرسي مطروح ، فالإسكندرية فالقاهرة ، وقد شاهد أحمد المصطفي وزملاؤه بعضاً من المعارك بين الحلفاء والمحور وقد إرتدوا الخوزات ولجأوا كثيرا مع الجنود إلي السواتر وسكنوا الخنادق . والحلفاء هم جيوش بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها من دول أوربا . أما جيوش دول المحور . تلك الأغنية ( زاهي في خدرو ) تقول: قالوا ليهو القطر تقدّم كفرة نيرانا .. زي جهنم تحرق الجنب الشمال ما تكلم وما تألم .. إلا تمتم بإنفعال أجري دمعو .. وارخي سمعو البرق سمعو .. كال وهال في مسايرو .. وفي ضفايرو وفي سنونو ... الموت حلال وفي القاهرة كان لأحمد وزملاؤه متكئاً من الإبداع ، فهاهو الشاعر السوداني والجندي بالجيش المصري الشاعر الغنائي الراحل عبدالمنعم عبدالحي يكتب له في ذات الزمان بالقاهرة ، ليلحنها أحمد المصطفي فوراً ، بل ويسجلها في إذاعة ركن السودان من القاهرة وهي ( إذاعة وادي النيل حالياً ) ليسمعها شعب السودان من تلك الإذاعة التي كان بثها يبدأ من الساعة الثالثة ظهراً وحتي المغرب يومياً .. وهي أغنية : ( بل ّ شوقي .. وردّ روقي .. بعد الألم ) .. كانت أغنية في غاية الهدوء ، فهي من فصيلة غناء التطريب الهاديء. ولأحمد المصطفي العديد من الأعمال الراسخة في وجدان الجماهير ، فقد كان ذات الشاعر عبدالمنعم عبدالحي متأثراً بالحركة الوطنية التي تمددت بالسودان مطالبة بجلاء الإنجليز من السودان ومصر في أربعينات القرن الماضي ، فتأثر عبدالمنعم عبدالحي ، وتذكر مدينته الفاضلة أم درمان التي شهدت ميلاده وطفولته الباكرة بحي الموردة قبل أن يأخذه أخوه الأكبر وولي أمره معه إلي القاهرة حيث كان يعمل في سلاح الهجانة بالجيش المصري ، وكان جل الهجانة من أبناء السودان ، حيث يمثل حي عين شمس الشرقية وحتي اللحظة أكبر معقل للسكن للسودانيين القدماء هناك ، والذين يطلق عليهم المصريون لقب ( جالية ). كتب عبدالمنعم ( أنا أم درمان ) وقام العميد بتلحينها هناك ، وتغني بها في إذاعة ركن السودان ايضاً ، غير أن قلم المخابرات البريطانية بالخرطوم منع تداولها هنا ، فأخفاها أحمد لسنوات قليلة ، إلي أن أشرقت شمس الإستقلال بقوة ساطعة ، فخرجت الأغنية من إذاعة هنا أم درمان بعد رفع علم الإستقلال علي سارية القصر الجمهوري في 1/1/1956م : أنا أم درمان مضي أمسي بنحسي غداً وفتاي يُحطِّمُ قيد حبسي وأخرج للملأ في ثوب عُرسي وأهمسُ والوري يعلن همسي وأبسُم ُ بعد ما قد طال عبسي فيا سودانُ إذ ما النفسُ هانت أقدمُ للفداء .. روحي بنفسي وظل شعب السودان يتغني بها ولسنوات طوال بعد أن نالت البلاد إستقلالها ، وقد سيطرت هي ورائعة الشاعر الذي رحل مؤخرا برفاعة محمد عثمان عبدالرحيم ( أنا سوداني أنا ) التي حبس الإنجليز مؤديها الراحل حسن خليفة العطبراوي بسبب أدائها دوما بعطبرة وشندي والدامر ، فأتي هو الآخر من مدينة عطبرة عقب إعلان الإستقلال ليسجلها بإذاعة أم درمان ، لتشكل مع أنشودة أحمد المصطفي ثنائية فائقة الجمال ، وقوية الطرح وقد ألهبت مشاعر السودانيين في ذلك الزمان .... هناك أغنية محددة يكاد الشعب السوداني كله يحفظ كلماتها في زمان مضي ، وهي لها قصة لا تخلو من حزن . فمن المعروف أن لأحمد المصطفي علاقة إجتماعية متينة وصامدة لعقود طويلة ، حتي إمتدت إلي العمق التجاري بالسوق السودانية مع آل أبوالعلا في أم درمان ، والقصة هي أن أحد أبناء عائلة ابوالعلا ، وهو الشاب حسن عوض أبو العلا الذي كان يدرس في مصر ، قد أصيب بشلل فجائي إثر قفزة كانت خاطئة حين كان يسبح في حوض سباحة في مكان ما هناك ، ما أثر علي العمود الفقاري ، ولم تفلح محاولات أهله في علاجه بالقاهرة ، وأصبح الحالة ميئوساً منها ، فجييء به إلي دار أهله بام درمان ، والذي فارق الدنيا في سريره مشلولا في العام 1962م تقريباً . والشاعر الشاب حسن عوض أبوالعلا كتب العديد من القصائد الغنائية وهو طريح الفراش ، وتأتي من أهمها أغنيته الخالدة وهي ( سفري السبب لي أزاي ) ، وقد اختار لها الفنان احمد المصطفي لحناً هادئاً جميلاً ، سكن في وجدان الناس تماماً ، لأن مفردات القصيدة كانت تحكي عن معاناة الشاعر ، وذلك حين يقول: ( سفري السبّب لي عنايا .. وحطـّم وعكـّر لي صفايا ) . كانت تلك اللوحة الحزينة التي كتبها حسن عوض أبو العلا وتفاعل معها عميد الفن احمد المصطفي.. وعاشها شعب السودان الذي كان يغنيها في لياليه المقمرة علي إمتداد الوطن الواسع وكأن هذه المأساة قد عاشها كل فرد في بيته ، فكانت درجة الإنفعال الشعبي بتلك الأغنية كبيراً حتي حين غادر شاعرها الدنيا ، فتامل كيف يعيش شعب بأكلمه مأساة أحد شعرائه الشباب وهو حسن عوض عوض ابوالعلا الذي كتب ايضا لسيد خليفة اغنية ( امل ) المشهورة بِ ( ولـّي المساء الواله المحزون في جوف الضباب.. وأنا أهيء زينتي وأعد في زاهي الثياب ) وأحمد المصطفي وبدرجات الإنفعال والعاطفة الوطنية ، فإنه وفي إحدي زياراته إلي القاهرة في مطلع خمسينات القرن الماضي ، كان قد إطلع في إحدي المجلات الأدبية علي نص شعري فأعجب به ، وقام بتلحينه والتغني به ، كتبه كبير شعراء المهجر من اللبنانيين الذين هاجروا منذ بداية القرن العشرين بالسفن عبر البحار إلي أمريكا وهو الشاعر اللبناني ( إيليا أبوماضي ) حيث عاد وهو في التسعين من عمره إلي موطنه لبنان بعد عقود طويلة قضاها بالمهجر تاركا خلفه زملائه الشعراء ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وغيرهم ، فقد كتب إيليا حين لامست قدماه مرفأ بيروت البحري وقد أطرق برأسه إلي السماء في ليلة وصوله وقد شاهد سماء لبنان مرصعة بالنجوم ، وهو مشهد لم يره منذ سنوات طوال ، بسبب سكناه بناطحات السحاب بنيويورك .. فكتب فور وصوله إلي دار أهله في بيروت في ذات الليلة .. ثم وضع القلم و خلد إلي النوم : وطن النجوم أنا هنا حدّق .. أتذكر من أنا ألمحت في الماضي البعيد فتيً غريراً أرعنا جذلان يمرحٌ في الحقول مغرداً ... ومدندنا يتسلقُ الأشجار.. لا وهناً يحسُ .. ولاعنا ويعود بالإغصان يبريها سيوفاً .. أو قنا ويخوضُ في وحل الشتاء متهللاً ... متيمناً لا يتـقي شر العيون ولايخافُ الألسـنا وهو ما يعطي إنطباعاً مؤكداً بأن أحمد المصطفي كان يمتاز بعمق وحس أدبي كبيرين ، فهاهو يأتي لنا بنص فصيح آخر ، ولكن هذه المرة فإن شاعره هو مبدع سوداني آخر ، كان يعمل برئاسة وزارة التربية والتعليم ، حيث ظهر هذا النص عندما تغني به أحمد المصطفي ، وقد أحدث ضجة كبيرة ، خاصة في الأوساط التي تهتم بالأدب ، علماً بأن معظم الغناء السوداني ، بل والعربي يعتمد علي نصوص المفردات الدارجة . ذلك الشاعر صاحب القصيدة التي نحن بصددها هو الأستاذ ( مهدي الأمين ) والذي كتبها ونالت مانالت من شهرة قبل عقود طويلة ، غير أن الإعلام لم يبحث لنا أين هذا الشاعر العجيب الي ان فارق الدنيا ؟ فالقصيدة كانت بعنوان ( في سكون الليل ) ، وهو عنوان إستهلالي مريح جداً ، يعود بنا إلي ليالي السودان الدافئة والمقمرة ، حين كان غالبية أهل السودان في مدنه وقراه وأريافه القريبة والبعيدة يستمعون ليلا الي الراديو . في سكون الليل دعنا نجتلي الصمت الهريب إن في جنبيَّ معنـَي فوق إحساسي عجيب لست أعني لست أعبأ طالما كنت الحبيب هاهي الاضواءُ أغفت والدجي أصغي الينا والمني في الحلم رفت وإستقرت في يدينا والذي عيناك اخفت قد بد لما إنتهينا فإحتسينا وإنتشينا ما علينا ثم عدنا وافترقنا كلنا يمشي وحيدا باكياً قلباً وجفنا خائفاً ألا يعودا اين منا الأمسُ اينا المني والحب اينا ؟؟ في سكون الليل ... دعنا نجتلي الصمت الرهيب *** وعربيا .. تغني أحمد المصطفي في فيلم مصري بأغنيته وبمشاركة الفنان اللبنانية الراحلة صباح التي كان يطلق عليها لقب ( الشحرورة) حين كانت في فورة شبابها بالقاهرة وبيروت وهي أغنية ( رحماك يا ملاك .. هلكني وملكني وجنني). كما لاننسي كيف إحتفي أحمد المصطفي بكوكب الشرق أم كلثوم عند زيارتها للسودان في العام 1968م حيث اقام لها إتحاد الفنانين حفلا كبيرا بداره بأم درمان وحفلا غنائيا بالمسرح القومي. أما في مجال الشعر الغنائي ، فلأحمد المصطفي العديد من الغناء الراقي والجميل والسهل ، كتبه له شعراء السودان الراحلين ، فجاء له خالد أبو الروس برائعته : ما أحلي ساعات اللقاء .. في الشاطيء قرب الملتقي .. أنا والحبيب عند الغروب ، وهذه نذكرها لمن لم يشهد حدائق المقرن في مناسبات الأعياد ايام زمان حيث تنطلق الأسر إلي شاطيء النيل بالخرطوم . كما تغني من كلمات الصحافي الراحل والشاعر المتعدد الآفاق حسين عثمان منصور صحب مجلة الصباح الجديد ، بأغنية : أيام زمان .. كانت أيام .. لي فيها قصة ..قصة غرام ، وقد كنا أيضا نعيش الغناء خفيف الظل من نظم الجاغريو حين كان بيت الخياطة هو أهم إهتمامات الفتاة التي تتوق لتعلم فنون التفصيل والخياطة : ( جن ماشات تلاتة ..أعرفوا زولتي ياتة ... بحلف بي حياتها .. وأهاجر ليها حافي .. وأزرو بيت الخياطة .. وين سميري المرسوم في ضميري ) . وإستمرت مسيرة الغناء الجميل عند العميد ، فتغني لظبية المسالمة .. الفي الخمايل حالمة .. وفيك ياظالمة ، نعم ... إنها ( بنت النيل ) .. فكان الشعب السوداني كله يرددها في افراحه وفي مدارسه ومعاهده ، ذلك أن فن الغناء لايزال يرتبط إرتباطاً وثيقاً بثقافة الشعب السوداني ، وقد تشكل وجدانه تماماً به منذ نعومة أظفاره . رحم الله العميد أحمد المصطفي والذي مثلما قلنا ، بأنه كان يشكل جزءاً مقدراً وعزيزاً من وجدان هذا الشعب ، ونحن حين ودعناه في نهاية اكتوبر من العام 1999م إلي مثواه الأخير ظللنا نردد بعده غنائه الجميل ، ولن ننسي ذكراه ، مهما حاولنا .. نعم سنغني بعده مدي الدهر جميل أغنياته : ( حاولتً أنساك ... وقلبي زاد في جروحو.. وريني كيف .. الحي بودّع روحو ؟؟ ) وإلي اللقاء ،،،،
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة