يقول باتريك دان ليفى، بروفيسور العلوم السياسية بجامعة لندن للاقتصاد، يقول بان الدولة البريطانية كانت تعانى من حالة انفصام فى الشخصية ابان عهد الاستعمار، فالدولة التى كانت تُحكم من لندن، تحت ألية حكم موحدة، تشمل الجزيرة البريطانية والمستعمرات الممتدة، والتى كان يفوق تعداد سكانها ال٩٠٠ مليون نسمة انذاك.
ولكن بالرغم من وجود ألية حكم موحدة، فان نظم الحكم المطبقة فى الجزيرة البريطانية ونظم الحكم المطبقة فى امتداد الدولة البريطانية، والتى كانت تتكون من المستعمرات كانا مختلفتان تمام الاختلاف، فبينما كان الحكم فى الجزيرة البريطانية، ديمقراطى، ليبرالى، يسعى بخطىً حثيثة نحو تحقيق مستويات عالية من الرعاية الاجتماعية وتوفير الحقوق الأساسية، والرفاهية العالية . كان الحكم فى المستعمرات، اوتغراطى ومستبد، بحيث لم يمنح سكان المستعمرات الحق فى التصويت فى الانتخابات البريطانية العامة، و الحق فى اختيار من يحكمهم وكيف يحكمون، وعلى عكس تركيز موارد الدولة فى العمل على خلق دولة رعاية اجتماعية وتوفير الحقوق الأساسية، فى الجزيرة البريطانية، كانت الدولة تبذل اكبر نسبة من ميزانية الدول المستعمرة فى بناء وادارة مؤسسات قهروقمع النزعات التحررية وقمع شعوبها. لذلك بذلت الدولة البريطانية قصارى جهدها فى بناء ودعم مؤسسات القهر والقمع من جيوش وشرطة واجهزة تجسس وغيرها.
لم يكن حكم بريطانيا للمستعمرات حُكمً مدنياَ راشداَ كما كان فى الجزيرة البريطانية، بل كان نظامً عسكرياً قمعياً و اوتغراطية مستبدة.
لقد كان الفكر السائد انذاك بان شعوب العالم الغير بيضاء لا تستحق الاستمتاع بذات الحقوق التى يستمتع بها البيض، لم يكن ذلك المفهوم العنصرى سائداً وحسب انذاك، بل كان مفهوم البياض محصوراَ لبعض البيض وليس لكل البيض، فعلى سبيل المثال كانت الشعوب الايرلندية، وهى جزيرة مجاورة للجزر البريطانية، كانت الشعوب الايرلندية تُعتبر غير بيضاء و عليه واجهت ما واجهه شعوب القارة الافريقية السود من استعباد وغيره من امور استغلال وتسخير البشر.
لم تكن هذة التفرقة فى مفهوم من يستحق الاقتراع العام و المشاركة فى اختيار وتكوين و حكم بلاده، حصرية على لون البشرة والارث الاثنى وحسب بل كانت تشمل النوع ايضاً، فلقد كانت مشاركة الاناث فى الانتخابات العامة مقيدة بالسن وممنوعة لمن دون الثلاثين من العمر حتى العام ١٩٢٨، من القرن الماضى حين مُنحت المرأة حقها الكامل فى الاقتراع العام وكان ذلك نتاج نضال سلمى متراكم من قبل مجموعات حقوق المرأة وعلى رأسهم مجموعة السوفرجت التاريخية.
هذا التمييز بين نوع الحكم البريطانى فى الذى كانت تطبقه الحكومة البريطانية فى موطن الدولة ونوع الحكم الذى كان يُطبق فى المستعمرات، مهم للغاية فى سياق محاولة تسليط الضوء على اصول كارثة الحكم فى السودان، وذلك بمحاولة كشف الغطاء عن المفاهيم السائدة المورثة من الاستعمار فى السودان و المفاهيم السائدة المورثة من الحكم التركى والدول الاسلامية والتى تعرقل من تطبيق واستمرارية محاولات الحكم الراشد المعاصرة فى السودان.
ان ترسبات مورثات الاستعمار تتبلور فى المحاولات المستمرة والناجحة لأحياء اسلوب الاستعمار من قبل المستعمرين الجدد حكومة عمر البشير الحالية وحكومتى جعفر النميرى وابراهيم عبود الاتى تم اسقاطهم بثورات شعبية ساحقة يؤدهم من الاحزاب السياسية ومن ومن يتبع نهجهم من المستعمرين الجدد وغيرهم ممن يسعى لاستعمار السودان بطريقة او اخرى، و تتبلور ايضاً فى فى مفهوم أحقية مؤسسة الجيش فى السعى والمنافسة لنيل الحكم، بذات الحماس والعنفوان الذى يخص سعى الاحزاب السياسية الديمقراطية للمنافسة والسعى لنيل الحكم، وذلك خلل عميق فى حد ذاته.
فان الدولة المدنية، المعاصرة لا تُحكم من قبل مؤسسة ذات خاصية محددة مثل مؤسسة الجيش ولا تُحكم عبر مؤسسسة غير منتخبة، مثل مؤسسة الجيش. فالجيش بطبيعة عمله وطبيعة السلطات التى يملك وبطبيعة مقدرتة على استخدام الأسلحة الفتاكة، والتى يُعتبر اقتنائها عند المواطن العادى خرقاً للقانون، يجب ان يكون محايدً تمام الحياد وليس مسيساً وتابعاً لجهة او لاخرى كما هو الحال فى السودان وغيره من الدول المتخلفة، لكى يستخدم السلطات والاسلحة المتاحة لدية لدفع مصلحة جماعة مدنية على اخرى، او لدفع مصالح جماعة منه على اخرى مدنية، ففى ذلك انعدام تام للعدل فى اى منافسة وفتح باب التسلح وسط الجماعات المدنية لكى تنافس على ذات المستوي، وعليه- ان وجود الجيش فى موقع قيادة الدولة هو السبب الأساسى فى نمو وانتشار الحركات المسلحة فى كل ارجاء السودان، فالسلاح فى موقع القيادة يؤرجح النفوذ لصالح حامل السلاح وينزعة من غير حاملى السلاح. ولخلق التوازن بين هذة الموازنة الغير عادلة يضطر المدنين حمل السلاح.
ان مؤسسة الجيش فى الاساس أداة ذات خاصية محددة ومميزة ومؤسسة دفاع وحماية للشعوب ولا يمكن لهذة الأداة ان تسيس او تتخير او تستشار في من تحمى ومن تداهم.
لذلك فان الصعود السياسي من خلال مؤسسة الجيش وليس من خلال الاحزاب السياسية المدنية خاطئ ومدمر.
اما نسبة تقبل الشعوب المتحررة من الاستعمار العالية لحكم الجيش، فذلك لان المستعمر لم يكن حاكماً مدنياً بل كان قائداً فى جيشاً غازياً، محارباً، غرضة فى الاساس فرض سلطتة على تلك الشعوب ولذلك ليس غريباً او مدهشاً ان تتقبل هذة الشعوب حاكماً من الجيش، فذلك معرفتها بالحكم و ما اعتادت عليه، ولكن يبقى وجود الجيش على كرسي الحكم هو المضاد الاساسي لاى محاولة لدفع عجلة الحكم الديمقراطى الرشيد الى الامام.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة