|
الفيتوري والهوية البديلة بقلم عماد البليك
|
03:37 PM Apr, 26 2015 سودانيز اون لاين عماد البليك -مسقط-عمان مكتبتى فى سودانيزاونلاين
لا يحكى
يصعب تصور المشهد الثقافي السوداني دون الفيتوري رغم أنه لم يكن متواجدا في الموقع المكاني بالمعنى المباشر ومنذ مطلع السبعينات، بل صار يحمل هوية بلد آخر. وهذا يفضح قضية المثقف والوطن والهوية، وهي مسألة جدلية ومعقدة أطلت برأسها ليس لعدد لا بأس من الأدباء والفنانين السودانيين بل أيضا ربما هي ظاهرة كونية، رأيناها مثلا في نماذج مثل كونديرا التشيكي الذي أصبح فرنسيا وكتب بالفرنسية وظل في نصوصه يقترب ويبتعد من بلده الأم، كذلك إيزابيل الليندي التي أصبحت أمريكية بقلب من تشيلي وكتبت رواياتها وأعمالها الرائعة وهي معلقة بوطنها الأول ومن أجمل كتبها (بلدي المخترع) الذي هو في الأساس عن الهوية والتنازع الذي تعيشه ذات الكاتب والفنان بين جغرافية وأخرى، بين زمنين، أحدهما غارق في الأمس والأسطورة والثاني يتجه نحو التحرر والمستقبل، فالهوية ليست مجرد مسألة مكانية. لكن من وجهة أخرى فإن هذا الابتعاد، أو البعد عن الفضاء المكاني المباشر قد يكون مفيدا لبعض التجارب الإبداعية، حيث يوفر نوعا من الرؤية التي لا تتحقق بالاحتكاك المباشر فالمعاصرة حجاب كما يقال، أي أن القرب من الأشياء وفي بعض الأحيان لا يتيح الرؤية السليمة لها أو التبصر والتأمل العميق لها، لهذا كانت الأشياء الجميلة والرائعة دائما تتخذ صفة التخفي والغيب والحجاب. وتكاد تجربة الفيتوري تشبه تجربة الطيب صالح الذي كان أيضا قد اشتغل على كيمياء بلده في تلويناته الإبداعية ومشروعه القصص والروائي من خلال الابتعاد الجغرافي، لكنه لم يفقد خاصية الهوية في أن يكون الوطن هو المضمون والمحتوى. لكن من ناحية أعمق من ذلك فإن موضوع هوية الكاتب أو المثقف والفنان هي مسألة معقدة بعض الشيء، بحيث يكون الكلام فيها وحولها كثيرا وقد لا يؤدي لنتائج او اتفاقات بعينها. فهل هي هوية ذات سياق جنساني مرتبطة بالهوية في معناها الإثني مثلا أم بالهوية الوطنية أم أنها الذات الإنسانية العليا التي بإمكانها أن ترقد بحجم الأرض، في كل شبر منها كما يحيل الفيتوري إلى هذا المعنى: لا تحفروا لي قبراً سأرقد في كل شبر من الأرض أرقد كالماء في جسد النيل أرقد كالشمس فوق حقول بلادي مثلي أنا ليس يسكن قبرا فالإحالة الجلية هنا أن الوطن الحقيقي لا تحده الأمكنة ولا الفواصل الحاجزة أو البرازخ الشكلية، هو وطن مطلق للأبدية والخلود. لأن تأكيد الشاعر هنا أنه لا يموت، ولا يسكن القبور حيث يتماهى في كل فسائل الكون وجدائله ويعيش في مطلق الأشياء كضوء الشمس الذي يتغلغل في ثنايا كل الوجود والحياة ويمنحها الدفء والبدايات الرائعة وكذا النهايات. كما أن السكون أو الرقاد المعني هنا ليس بالمعنى التجسيدي المعروف، لأن الشعراء أمثال الفيتوري لا يتعاملون بالمعاني الواضحة أو المجسدات الشكلانية إنما بالعمق المعرفي الذي يأتي من خلال إدراك معنى الحياة ومن خلال تأصيل الذات وردها لمضمونها العارف والمركزي في كونها هي كل شيء مطلق وهي الجمال والخير والإنسان والنفث المقتبس من الذات العلية. إن الفيتوري وإن كان قد بدأ مشروعه الإبداعي شاعرا لأفريقيا كجزء من حراك العالم الأفريقي وقتذاك والعالم النامي عموما في ثورات التحرر والرغبة في الانعتاق من الاستعمار والماضي الثقيل وهو تيار كبير وواضح في كُتَّاب القارة السمراء أمثال تشينو أتشيبي في (الأشياء تتداعى) وليوبولد سنغور وغيرهما. فإنه كان يرى من خلال منظور الانعتاق والتحررية والثورة رؤية للذات المنعتقة التي تحاول أن تجد عالما بديلا وهوية أخرى للضائع والغريب في هذا الحياة البرانية والمظهرية، وبالفعل ما أن عبر هذه المرحلة حتى كان شعره قد اكتسى ومع الستينات بالغنائية الصوفية والبحث عن العوالم السرمدية التي تمزج بين خاصية الشعر والحلاجية والتخفي عن المظاهر والعوالم المرئية، ليكون مضمون الإنسان والشاعر هنا هو جلاله، ويتحرر من فكرة الهوية الشكلية التي يضيع كثير من الناس وقتا كبيرا في البحث عنها. فهوية الفنان بالمعنى المباشر هنا هي القصيدة وهي بيت الشعر وهي المعاني الخالدة التي يصنعها لنا بحيث يتغيب عنا المكان بمعناه الظرفي والعارض، فالفيتوري بهذا المنظور لن يكون ابن الجغرافية بقدر ما يكون ابن الحضور والأرض المتسعة والأضواء التي تشع في كل مكان بنور الكلمة التي هي الخلود الحقيقي لذات أي شاعر، وهي حلمه. لكن الفيتوري ظل ذلك الإنسان القلق الذي تتحرك فيه الهوية الإنسانية، هوية الشاعر التي لا تعرف الركون لسوى عوالمها التي ترغب في صياغتها بنفسها لأجل أن ترى الحقيقة وأنوارها، وهو كذلك كان ينتقل من فضاء الثورة الأولى التي أشعلت باسم أفريقيا وفي مرحلة لاحقة إلى فضاءت ثورات أخرى لا حد وحصر لها، ثورات ضد الطغيان والأنا المتعالية والكبرياء الأجوف وضد طواعين الزمن الجديد وضد الأباطيل التي تصاغ باسم المعنى يقوم عليها جلادون وكذابون وأفاكون. وإذا كان الطيب صالح قد أخذ حيزا كبيرا من السودانيين في الأخذ والرد والسجال النقدي فإن الفيتوري وفي المقابل باعتباره سلطان الشعر لم يجد هذا الحظ الوفير، ولا أعرف بالضبط الأسباب، لكني اعتقد اننا في حاجة إلى مراجعات عميقة ودراسات يقوم بها المهتمون في سبيل الإضاءة الأوسع لهذه التجربة الإنسانية الراقية في محيط عالم الشعر الذي هو أكثر جسارة في بعض المرات من عوالم السرد، بل أقوى من حيث الأثر. كما أن تجربة حياة الفيتوري وبشكل عام في تنقلاته بين الأمكنة والأزمنة وربيع الحياة وصيفها وخريفها، وشعره الذي كان له مذاقه الخاص جدا، وتجربته التي لا تشبه سواها، كل ذلك يتطلب وقفة ذات معنى وليس مجرد وقفات عابرة كما يحدث دائما في طقوس الموت عندنا إذ ينتهي العزاء بانتهاء مراسم الدفن، وبعدها لن نسمع حسا لكل ما أطلق من تكهنات وأقاويل ومشاريع رائعة الرنين. إن الفيتوري يستحق واستحقاقه ناتج من كونه رسم لنفسه الخلود الذي يليق به، ورقد في كل شبر من الأرض فعليا سواء تم دفن جسده في السودان أو في المغرب أو ليبيا أو أي مكان آخر، فليس هذا بالمهم مطلقا. فالشاعر الحقيقي ترقد روحه السرمدية في القلوب الإنسانية وفي كل الأزمنة والتاريخ العريض الذي لن يبقي إلا على الاسماء والمعاني الجديرة بالاحتفاء ويركل ما سواها إلى مزبلته. إنها دعوة للأجيال الجديدة لقراءة الفيتوري وبروح جديدة تعيد إليه ألقه وتفكر فيه بمحيط مختلف كقيمة إبداعية سامقة نتعلم منها ونلتقي بظلالها الوارفة حيث يكون لنا أن ننسج الأمل للمستقبل من خلال المعاني التي تنسجها الأشعار التي صاغها، ففي الشعر نبوءة وأقدار وحقائق وأيضا ما يحفز للوجود. mailto:[email protected]@gmail.com
تشينو أتشيبي
مواضيع لها علاقة بالموضوع او الكاتب
- نحو مجتمع متحرر بقلم عماد البليك 04-25-15, 04:04 PM, عماد البليك
- المثقف والتنميط (2 – 2) بقلم عماد البليك 04-23-15, 02:22 PM, عماد البليك
- المثقف والتنميط (1 – 2) بقلم عماد البليك 04-22-15, 03:48 PM, عماد البليك
- القوة والإلهام والتفرد! بقلم عماد البليك 04-21-15, 02:34 PM, عماد البليك
- السودان 2050 ! بقلم عماد البليك 04-20-15, 02:22 PM, عماد البليك
- هل قرأ أوباما إدوارد سعيد ؟ بقلم عماد البليك 04-19-15, 02:45 PM, عماد البليك
- النظر إلى العالم بالمقلوب بقلم عماد البليك 04-16-15, 02:40 PM, عماد البليك
- صوتك الآخر! بقلم عماد البليك 04-15-15, 02:54 PM, عماد البليك
- بانسكي في السودان بقلم عماد البليك 04-14-15, 02:27 PM, عماد البليك
- نوستالجيا المثقف! بقلم عماد البليك 04-13-15, 02:52 PM, عماد البليك
- ترويض الفيلة بقلم عماد البليك 04-12-15, 03:45 PM, عماد البليك
- الجثة الطائرة ! بقلم عماد البليك 04-11-15, 02:39 PM, عماد البليك
- الزمن المفقود ! بقلم عماد البليك 04-09-15, 05:31 AM, عماد البليك
- معان لفلسفة السعادة ! بقلم عماد البليك 04-08-15, 02:42 PM, عماد البليك
- الشوفينية بقلم عماد البليك 04-07-15, 02:36 PM, عماد البليك
- أبريل في حيز المراجعة بقلم عماد البليك 04-06-15, 05:52 AM, عماد البليك
- التجربة الفنلندية بقلم عماد البليك 04-05-15, 03:17 PM, عماد البليك
- الطريق إلى تعليم جديد بقلم عماد البليك 04-04-15, 06:41 AM, عماد البليك
- في منهج بناء الشخصية بقلم عماد البليك 04-02-15, 02:22 PM, عماد البليك
- الاستشراق مرة أخرى! بقلم عماد البليك 04-01-15, 03:25 PM, عماد البليك
- الصور النمطية للسوداني بقلم عماد البليك 03-31-15, 03:02 PM, عماد البليك
- جدل الرواية والتاريخ بقلم عماد البليك 03-30-15, 02:56 PM, عماد البليك
- حنين القواديس ! بقلم عماد البليك 03-28-15, 03:21 PM, عماد البليك
- توثيق الفنون والتراث بقلم عماد البليك 03-27-15, 02:01 PM, عماد البليك
- رد الاعتبار للعرفان بقلم عماد البليك 03-25-15, 03:27 PM, عماد البليك
- إشكاليات الذائقة الجمالية بقلم عماد البليك 03-24-15, 03:16 PM, عماد البليك
- ابن عربي الهندي ! بقلم عماد البليك 03-23-15, 03:01 PM, عماد البليك
- صندوق "بنو حنظل" بقلم عماد البليك 03-19-15, 04:47 PM, عماد البليك
- ما بعد ريلكه ! بقلم عماد البليك 03-17-15, 04:27 PM, عماد البليك
- طقوس فنية في الحياة السودانية بقلم عماد البليك 03-16-15, 02:09 PM, عماد البليك
- الطبقات مرة أخرى ! بقلم عماد البليك 03-15-15, 02:13 PM, عماد البليك
- جهل كونديرا وفلسفة الاغتراب ! بقلم عماد البليك 03-12-15, 03:40 PM, عماد البليك
- الانتقام الرباني ! بقلم عماد البليك 03-11-15, 02:44 PM, عماد البليك
- أزمة النشر في السودان بقلم عماد البليك 03-10-15, 06:15 PM, عماد البليك
- الفاسد والمفُسِد بقلم عماد البليك 03-09-15, 02:44 PM, عماد البليك
- الاختلاف والهوية ! بقلم عماد البليك 03-08-15, 04:30 PM, عماد البليك
- الـديستوبيا ! بقلم عماد البليك 03-07-15, 03:15 PM, عماد البليك
- حقيقتي.. إرهابي ؟! بقلم عماد البليك 03-05-15, 01:37 PM, عماد البليك
- الساحر ينتظر المطر ! بقلم عماد البليك 03-04-15, 03:01 PM, عماد البليك
- سعة الأحلام وعبادة الصبر ! بقلم عماد البليك 03-03-15, 04:47 PM, عماد البليك
- عن سليم بركات والكرمل وعوالم أخرى! بقلم عماد البليك 03-02-15, 11:39 PM, عماد البليك
- وزارة الفلسفة! بقلم عماد البليك 03-02-15, 06:32 PM, عماد البليك
- صناعة الوهم ! بقلم عماد البليك 02-26-15, 04:02 PM, عماد البليك
- سينما.. سينما !! بقلم عماد البليك 02-25-15, 02:40 PM, عماد البليك
- واسيني والمريود بقلم عماد البليك 02-24-15, 03:57 PM, عماد البليك
- المدن الملعونة ! بقلم عماد البليك 02-22-15, 02:26 PM, عماد البليك
- نهاية عصر البطل ! بقلم عماد البليك 02-19-15, 02:24 PM, عماد البليك
- ما وراء الـتويوتا ! بقلم عماد البليك 02-18-15, 02:24 PM, عماد البليك
- حوار مع صديقي مُوسى ! بقلم عماد البليك 02-17-15, 05:44 AM, عماد البليك
- شياطين الحب وأشياء أخرى ! بقلم عماد البليك 02-15-15, 03:12 PM, عماد البليك
- الحداثة المزيفة وما بعدها المتوحش بقلم عماد البليك 02-14-15, 04:32 PM, عماد البليك
- ما بين السردية السياسية والمدونة الأدبية بقلم عماد البليك 02-13-15, 02:31 PM, عماد البليك
- قوالب الثقافة وهاجس التحرير بقلم عماد البليك 02-11-15, 02:50 PM, عماد البليك
- لا يُحكى..أزمة السودان الثقافية بقلم عماد البليك 02-10-15, 06:15 AM, عماد البليك
- لا يُحكى فقر "سيتوبلازمات" الفكر السياسي السوداني بقلم عماد البليك 02-09-15, 06:13 AM, عماد البليك
- عندما يُبعث عبد الرحيم أبوذكرى في "مسمار تشيخوف" بقلم – عماد البليك 07-26-14, 09:31 AM, عماد البليك
- إلى أي حد يمكن لفكرة الوطن أن تنتمي للماضي؟ بقلم – عماد البليك 07-06-14, 01:32 AM, عماد البليك
- المثقف السوداني.. الإنهزامية .. التنميط والدوغماتية 07-02-14, 10:33 AM, عماد البليك
- بهنس.. إرادة المسيح ضد تغييب المعنى ! عماد البليك 12-20-13, 04:08 PM, عماد البليك
- ما بين نُظم الشيخ ومؤسسية طه .. يكون التباكي ونسج الأشواق !! عماد البليك 12-16-13, 06:11 AM, عماد البليك
- مستقبل العقل السوداني بين إشكال التخييل ومجاز التأويل (2- 20) عماد البليك 12-05-13, 07:01 AM, عماد البليك
- مستقبل العقل السوداني بين إشكال التخييل ومجاز التأويل (1- 20) عماد البليك 12-02-13, 05:48 AM, عماد البليك
|
|
|
|
|
|