|
4-العقل الرعوي: لولا براعة الشبل بندر (4-4) بقلم عبدالله علي إبراهيم
|
06:31 PM Feb, 22 2015 سودانيز أون لاين عبدالله علي إبراهيم - Missouri-USA مكتبتي في سودانيزاونلاين
من بواكير ما سمعت من هذر المدينة عن انقطاع أهل الحداثة عن معرفة البادية الفكاهة التي رويت عن حنكوشة سئلت: ما شغل الراعي. فقلت: "بيفسح البهائم". ولو علم الناس عن الرعي ما استوجب العلم لربما كانت إجابة الحنكوشة علماً لا جهلاً. فالراعي الرشيد في عٌرف البادية نفسها هو الذي "يمجد" البهائم. اي الذي يتخير لها القشة العضية (البِكر غير الرديدة التي أثقل عليه الرعاة قبله). ويبلغ بها في هذا التمجيد المواضع القاصية التي يرهبها من لانت ركبته وتهافت فؤاده. ومن مجازاتهم في هذا الخصوص قولهم إن ذلك الراعي يبلغ بمراحه "القش أبو نوناي" أي الذي يتزاحم ذبابه وحشراته حوله طرباً "كفعل الشارب المترنم" لا يزعجه عن رحيق ذلك القش مزعج. وقد علمت أكثر هذا من أحد الرعاة من أهل الرشد المؤرخ الحافظ محمد عبدالله التريح من أولاد فحل الصغير من نوراب الكبابيش. وهو ممن يطلق عليهم الأستاذ العارف الأمين البدوي "بروفسيرات البادية". والأمين من أعلم الناس بالبادية وأدب العربية الذي تلقاه من أحد الشناقيط تحت ظل شجرة بها. وقد استثقل الرئيس نميري اسم "أم ضبان" فجعلها "أم ضواً بان". وظن ورهطه أنهم جاءوا بسحر البيان وما علموا أنهم ما تبرعوا بغير جهلهم ببلاغة الاسم وحيثياته الاجتماعية. أهل الحضر والبندر سيئو الظن في ظعن البادية أي ترحالها. ويقولون عنها في الإنجليزية " roaming ". وأفضل ترجمة لها ما وجدته عند الأستاذة رقية وراق عن والدتها وهي "السواجي واللواجي" بإمالة الشايقية المعروفة. وتقال السواجة واللواجة كناية عن الحركة بلا هدف. ووأول من فتح ذهني لخطأ فكرة أن الظعن سير ضال في الخلاء هو عالم الأنثربولجي طلال أسد. وهو ابن الشيخ الأسد اليهودي البلجيكي الذي أسلم وحسن إسلامه بكتابات طيبة عن العقيدة. وأم طلال عربية سعودية كانت سكنت معه حيناً بمنازل جامعة الخرطوم. وكان درّس هو بهذه الجامعة في آخر الخمسينات وأول الستينات وحصل على درجة الدكتوراة برسالة عن نظم الكبابيش الاجتماعية والسياسية نشرها في كتاب عنوانه "الكبابيش البداة". ثم درّس في انجلترا وبلغ من تميز نظراته الاجتماعية أن اختطفته جامعة مدرسة العلوم الاجتماعية الجديدة بنيو يورك. وانقطع عن الكتابة عن السودان ولكنه برع في الكتابة عن أنثربولجيا الدين والإسلام من زاوية ماركسية حاذقة ذات خطرات. ولا أعرف تناولاً ل "آيات شيطانية" (رواية سلمان رشدي المستفزة) بلغ الغاية من ذلك مثل مقالاته التي نشرها في كتاب "شجرة نسب الدين". نشر طلال كلمته عن ظعن البادية بمجلة السودان في رسائل ومدونات عام 1964 إن لم تخني الذاكرة. وأراد طلال من مقالته وصف مراحيل الكبايش وبيان العقلانية التي تتسم بها في الاستخدام الأمثل لموارد بيئتهم الشحيحة. وهي محاولة منه لرد الاعتبار للمعاش البدوي في وجه من يرونه نظاماً عفى عليه الدهر وينبغي أن يرمي أهله طوبته إن أرادوا التحضر والتعلق بأسباب الحداثة. وجوهر قوله بعقلانية معاش البادية إن البداة يستنفدون الموارد الواقعة في نطاقهم استنفاداً. فهم يراوحون بين المراعي للاحتفاظ بنعمهم والتحسب لزيادتها. ويعيب حبراء التمنية على الرعاة أنهم مستهلكون لا يضيفون لتلك الموارد أو يجددونها. وكتب طلال كلمته هذه في مواجهة جيل خبراء الموارد السودانيين الأول مثل د. مصطفى بعشر ودكتور محيميد ومحمد عوض ممن استهجنوا البداوة كمعاش وعدوها وسيلة غير طبيعية للعيش. فهي لا تضيف للطبيعة حين تأخذ منها مما يطعن في كفاءتها الاقتصادية. ويتحفظ طلال على هذا المأخذ بقوله إن عجز الكبابيش عن تنمية مواردهم ليس عن سفه أو استهتار. فلهذا النقص أصل في طبيعة الموارد نفسها التي تتحكم عوامل الطبيعة في زيادتها ونقصها. وشبه عجزهم عن تنمية مواردهم بعجز تاجر في الأبيض من رصف طريقه للخرطوم لتثمير تجارته هكذا تطوعاً أو كفاحاً. يواجه الكبابش المسألة الاقتصادية التي تواجه كل باطش في سبيل العيش وهي استنفاد ما يليه من الموارد لبلوغ غايته. فهم يستثمرون أرضاً شاسعة شحيحة للحفاظ على المراح وتربيته. فمنطقتهم شبه صحراوية يغطيها رمل كثبانه سهلة. ومتوسط أمطار جنوب دارهم 200 ملميمتر بينما متوسط شمالها 100 مليمتر. ويقتصر المطر على شهور ثلاثة هي يوليو وأغسطس وسبتمبر. وهطولها في الشمال يتميز بالعشوائية من حيث حدوثه وغزارته. وعليه فهي بيئة محدودة. ولما كان على الكباشي أن يحافظ على مراح متنام وسط هذه الشحاحة لزم عليه ان يستخدم هذه الموارد المحدودة التي تليه بكفاءة. فالظعن هو حيلة البادية هذه لاستنفاد هذه الموارد بكفاءة وإحسان. فالترحل هو لا عشوائية ولا حتى "هواية التنقل". فالكبابيش ليسوا غافلين عن اقتصاد الاستقرار كما يتبادر للذهن. أو أنهم أخذوا للترحال "عزة عرب منهم" كما يقال. فوسطهم يقيم نحو 22 ألف مزارع (1960). ولم يغرهم هذا بالاستقرار. والكبابيش لا يخلون من حزازة واضحة ضد الاستقرار. بل سمعتهم يستعجبون للمزارع يشقى موسمه كله وقد يأتي الجراد فيعصف بزرعه. فهم مطمئنون للرعي لأنهم يجيدونه وزمامه في يدهم وقطوفه دانية. فقد كانوا يصدرون في الستينات 40% من جملة ما يصدر من جمال إلى مصر. وتحدي الراعي الرشيد هو جفاف الصيف. فسعيته تطلب مزيداً من الماء مما يحصرها في آبار معلومة ويترتب على هذا انحصارها في حيز مراع ضيق. فالسعية في الصيف هي في أحرج أوقاتها. وتحدي الراعي الرشيد أن يجتاز بها هذا المطب لمواسم الخريف والشتاء السخية نوعاً ما. وعلاجاً لتحدي الصيف تنقسم العائلة صاحبة المراح إلى مجموعتين: النساء والأطفال والعجائز (التقيلة) من جهة فتلزم الدمر (موطن الإقامة) مع الضان والماعز بينما يتبع الرعاة الشباب مراح الإبل إلى حيث المراع الطيبة جنوباً في ديار قبائل أخرى في وسط كردفان ودارفور ل "تمجيدها" في الكلأ الذي تنبته أمطار تلك البوادي الباكرة. وبهذا الحيلة تؤخذ الجمال من مراعي التقيلة (النساء والأطفال والعجائز) فيخف الطلب عليها من الضان والماعز والبقر. ويقع هذا الانقسام في الأسرة في الشتاء أيضاً. وقد كتب حسن نجيلة عن رحلة "الجزو" هذه في بطن الصحراء كتابة مشوقة فليرجع لها القاريء إن أراد. لن استطرد في عرض مقالة طلال في صحيفة سيارة. ولكن النقطة وضحت. فاقتصاد الظعن عقلاني تفتق الرعاة فيه عن حيل شتى لتنمية مراحاتهم والحفاظ عليها في مناطق موصوفة في عرف الحداثة ب" الشدة". ولم تقف هذه الحيل عند هذا الحد. فقد قرأت منذ أيام كلمة للاستاذ معتز محمد خليل (السوداني 7 أكتوبر 2008) عن استخدام الأبالة بالبطانة للموبايل لتحديد مواقع المأ والكلأ. وستجد في كلمته كيف حل هؤلاء الأبالة معضلة شحن الموبايلات في خلاء بلا كهرباء. يبدو أن مشكلة السودان ليست في سيادة "العقل" الرعوي في أدائه السياسي والاجتماعي والاقتصادي بقدر ما هي جهلنا بمهارة هذ ا العقل في لجم الموارد التي بمتناوله في المكان القفر واستئناسها بما في ذلك الموبايل. إذا كان ثمة "عقل" افسد السودان جداً وأهلكه بالهرج فهو "العقل" البرجوازي الصغير. ولنا عودة إلى هذه الآلة الحدباء التي هبطت بالسودان إلى درك منذ ثورة 1964.
مواضيع لها علاقة بالموضوع او الكاتب
- العقل الرعوي: أو إنت ساكت مالك آ (يا) طاها (3-4) بقلم عبدالله علي إبراهيم 21-02-15, 00:07 AM, عبدالله علي إبراهيم
- العقل الرعوي: أو إنت ساكت مالك آ (يا) طاها (2-4) بقلم عبد الله علي إبراهيم 18-02-15, 07:41 PM, عبدالله علي إبراهيم
- العقل الرعوي: أو إنت ساكت مالك آ (يا) طاها (1-4) بقلم عبد الله علي إبراهيم 17-02-15, 00:40 AM, عبدالله علي إبراهيم
- المسلمون كأسنان المشط: قالها ماركس (2-2) بقلم عبد الله علي إبراهيم 14-02-15, 04:21 AM, عبدالله علي إبراهيم
- زيارة كارل ماركس المغربي العثماني للجزائر (1-2) بقلم عبد الله علي إبراهيم 12-02-15, 02:13 AM, عبدالله علي إبراهيم
- محمود محمد طه: طوبى للغرباء (الحلقة الخاتمة) بقلم عبد الله علي إبراهيم 08-02-15, 05:53 PM, عبدالله علي إبراهيم
- محمود محمد طه: طوبى للغرباء 3-4 بقلم عبد الله علي إبراهيم 06-02-15, 04:11 AM, عبدالله علي إبراهيم
- محمود محمد طه: طوبى للغرباء (2-4) بقلم عبد الله علي إبراهيم 03-02-15, 09:25 PM, عبدالله علي إبراهيم
- محمود محمد طه: طوبى للغرباء 1-4 بقلم عبد الله علي إبراهيم 01-02-15, 08:55 PM, عبدالله علي إبراهيم
- سعودي دراج: الذكرى الجميلة لو تعرف معناها بقلم عبد الله علي إبراهيم 31-01-15, 00:48 AM, عبدالله علي إبراهيم
- في تذكر 18 يناير محكمة طه في 1985 : أخذت القانون بيدها للثأر بقلم عبد الله علي إبراهيم 22-01-15, 04:58 AM, عبدالله علي إبراهيم
- في تذكر 18 يناير ما هوية قضاة محنة الأستاذ طه (1985): قضاة شرعيون أم كيزان؟ بقلم عبد الله علي إبراه 21-01-15, 00:04 AM, عبدالله علي إبراهيم
- محمود عبد العزيز الحوت: ما قبل الربيع السوداني بقلم عبد الله علي إبراهيم 19-01-15, 07:20 AM, عبدالله علي إبراهيم
- إسلام السودان وعربه: عرض لكتاب (الأخيرة) (العرب والسودان، 1967) بقلم عبد الله على إبراهيم 17-01-15, 05:43 AM, عبدالله علي إبراهيم
- إسلام السودان وعربه: عرض لكتاب (7) (العرب والسودان، 1967) بقلم عبد الله على إبراهيم 15-01-15, 06:48 PM, عبدالله علي إبراهيم
- إسلام السودان وعربه: عرض لكتاب (6) (العرب والسودان، 1967) بقلم عبد الله على إبراهيم 14-01-15, 06:18 PM, عبدالله علي إبراهيم
- إسلام السودان وعربه: عرض لكتاب (5-6) (العرب والسودان، 1967) بقلم عبد الله على إبراهيم 13-01-15, 01:05 PM, عبدالله علي إبراهيم
- في تذكر 18 يناير الجمهوريون: حقول الاستتابة 1985 بقلم عبد الله علي إبراهيم 11-01-15, 10:30 PM, عبدالله علي إبراهيم
- إسلام السودان وعربه: عرض لكتاب (4-6) (العرب والسودان، 1967) بقلم عبد الله على إبراهيم 10-01-15, 05:53 AM, عبدالله علي إبراهيم
- في تذكر 18 يناير: طه في وحشة طريق الآلام (1974-1982) بقلم عبد الله علي إبراهيم 08-01-15, 05:56 PM, عبدالله علي إبراهيم
- إسلام السودان وعربه: عرض لكتاب (3-6) (العرب والسودان، 1967) بقلم عبد الله على إبراهيم 07-01-15, 05:00 PM, عبدالله علي إبراهيم
- أخطأت الميدان، وصَحّ عثمان ميرغني: السودنة الدامية بقلم عبد الله علي إبراهيم 06-01-15, 05:06 PM, عبدالله علي إبراهيم
- بين رزق وبابو: يوم انحلت أمريكا من فرط الشقاق بقلم عبد الله علي إبراهيم 05-01-15, 06:58 PM, عبدالله علي إبراهيم
- إسلام السودان وعربه: عرض لكتاب (العرب والسودان، 1967) بقلم عبد الله على إبراهيم 05-01-15, 04:59 PM, عبدالله علي إبراهيم
- في تذكر 18 يناير : دراما محاكم الجمهوريين وقضاة الشرع بقلم عبد الله علي إبراهيم 04-01-15, 06:53 PM, عبدالله علي إبراهيم
- إسلام السودان وعربه: في مناسبة مرور 57 عاماً على صدور العرب والسودان(1967)للدكتور يوسف فضل حسن 1-6 03-01-15, 08:19 PM, عبدالله علي إبراهيم
- اليوم نلعن أبو خاش راية استقلالنا بقلم عبد الله علي إبراهيم 30-12-14, 03:46 PM, عبدالله علي إبراهيم
- تثقيف الغيرة على الحبيب المصطفى بقلم عبد الله علي إبراهيم 28-12-14, 01:58 AM, عبدالله علي إبراهيم
- جيل الفراشات الشيوعي: قريب الله الأنصاري بقلم عبد الله علي إبراهيم 26-12-14, 05:49 AM, عبدالله علي إبراهيم
- صه يا كنار: سيوبر وطنية بقلم عبد الله علي إبراهيم 23-12-14, 11:18 PM, عبدالله علي إبراهيم
- عثمان ميرغني: استقلال بتاع الساعة كم! بقلم عبد الله علي إبراهيم 21-12-14, 03:32 AM, عبدالله علي إبراهيم
- الاستقلال: موت الأمل، موت الحلم بقلم عبد الله على إبراهيم 18-12-14, 04:08 PM, عبدالله علي إبراهيم
- وادي الشايقية ووطن الجعليين: هبوط إضطراري عبد الله علي إبراهيم 11-05-14, 06:23 AM, عبدالله علي إبراهيم
|
|
|
|
|
|