الفتاوى بين الإحترام والتقديس وقد أدى الوضع اعلاه لنوع من الترهيب ونوع من التقديس لفتاوي المجتهدين أخرجت الكثير من فتاويهم من مجرد آراء تحترم وتناقش إلى أمر مقدس، وقد بني هذا الفهم عبر التاريخ ودعمه الفقهاء أنفسهم لأسباب مختلفة ليست كلها موضوعية. يقول الشاطبي في موافقاته رافضاً أي نقاش لفتوى الفقيه بقوله عن المجتهد بأنه "قائم في الأمة مقام النبي (ص) وشارع من وجه، لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها وإما مستنبط من المنقول. فالأول يكون فيه مبلغاً، والثاني يكون فيه قائماً مقامه في إنشاء الأحكام إنما هو للشارع، فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع واجب إتباعه، والعمل على وفق ما قاله... وعلى الجملة فالمفتي كالمجتهد مخبر عن الله كالنبي، وموقع الشريعة على افعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي، ولذلك سموا أولي الأمر، وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله" (الشاطبي - الموافقات 4/244). ويقول إبن عابدين في حاشيته المشهورة: "إنه روى كتابه عن الشيخ سعيد الحلبي بسنده عن شيوخه الذين عددهم واحداً واحدا عن "إمام الأئمة وسراج الأمة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي عن حماد بن سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبدلله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن أمين الوحي جبريل عليه السلام عن الحكم العدل جل جلاله وتقدست أسماؤه" (كتاب قضايا إسلامية – التجديد في الفكر الإسلامي- العدد75 ص 205). بذلك تحولت الآراء والفتاوي إلى مقدسات لا يصح المساس بها. وهذا الوضع يفرض على عقلاء الإسلام وحكمائه ليكونوا أكثر جسارة وجرأة في الجهر بالحق في سبيل التجديد والإحياء. يجب ألا يتحرجوا من رفع راية الجهاد في التجديد الشامل بسبب أن المفارقة كبيرة بين العالم الإسلامي وبقية العالم لقوله تعالى: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)" الحج. وقوله: "...يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...(185)" البقرة. فالإجتهاد جهاد في سبيل الله، يقول الدكتور الخمليش عن الإجتهاد: هو "إستنباط الأحكام واستخلاصها من مداركها التي هي أساس النصوص اللفظية للشريعة" وشرح ذلك بقول الغزالي: "اللفظ إما أن يدل على الحكم بطبيعته ومنظومه، او بفحواه ومفهومه، أو بمعناه ومعقوله والإقتباس الذي يسمى قياساً، فهذه ثلاثة فنون: المنظوم والمفهوم والمعقول" (الغزالي - المستصفى 1/316). فإعمال العقل لفهم النصوص جهاد فكري روحي عظيم. نحن اليوم في حاجة لطرح تجديدي في فهم الدين يأخذ بالسياق الكلي للنص ولا يقوم على البتر وقطع النصوص وإلصاقها في مواقع اخرى. يقول الدكتور أبو المجد عن الإجتهاد: "هناك ابتداع محمود هو ثمرة الإجتهاد في إستقراء الحكم الشرعي من دليله الجزئي في إطار من مجموع النصوص في ظل من الوعي بمقاصدها الكلية" (كتاب قضايا إسلامية – التجديد في الفكر الإسلامي- العدد75 ص 107). هذا النوع من الإجتهاد لا بد أن يتصدى له الشباب من العلماء قبل الشيوخ، فبالرغم من أن الشيوخ لديهم الحكمة والتجربة إلا ان الشباب لديهم الطاقة الفكرية والإستنارة الحداثية فليت الشباب من العلماء يعطون فرصة للإدلاء برأيهم. يقول الدكتور الخمليش معبراً عن صعوبة التجديد في ظل الشروط القاسية في تحديد من له الحق في الإجتهاد: "هذه المجموعة من العناصر هي التي تلخص التصور السائد لمصطلح المجتهد فهل يمكن معها للفكر الفقهي أن يتقدم وينمو؟" (كتاب قضايا إسلامية – التجديد في الفكر الإسلامي- العدد75 ص 199). كل مجتهد يجب ان يحسن فيه الظن وتمتحن بضاعته بدلاً عن التشكيك في فكره، فبراءة الذمة هي الأصل وكل إجتهاد يجوز ما لم يقم دليلي يقيني يقول بخلاف ذلك.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة