|
قلة الادب في كتب الادب بقلم زاهر الكتيابي
|
مذ تعلمت تهجي الحروف الابجدية اخذت اسابق الزمن في محاولة تعلم القراءة بسرعة. لم اك اعرف لهذا سببا. لكن كانت للقراءة عندي متعة لا تضاهيها متعة. تعلمت الحروف الابجدية و الجمل بسيطة التركيب في الصف الاول الابتدائي. لا اذكر اني تعلمت شيء في سنة الحضانة. و يبدو ان عامي في الروضة قد أمضيته (تكيل ساي). بدأت أقرأ في الصف الثاني الابتدائي، و اذكر أني اول ما قرأت قصص رجل المستحيل (أدهم صبري) للدكتور نبيل فاروق. كنت عندها لا افهم معظم ما أقرأ، لكني كنت سعيد بأني استطيع نطق الكلمات و ان كنت لا استوعب معانيها. قفزت من الابجديات الى رجل المستحيل، غاضيا الطرف عن ميكي و سمير و ماجد و الصبيان. بعد مرور عام او اثنين اصبحت متمكنا من القراءة متفهما لبطولات ادهم صبري (الوهمية) و متعطفا و متنازلا بقراءة ميكي و سمير و باقي مجلات الاطفال، مواكبا زملائي في الدراسة و امكانياتهم المحدودة حينها. كانت والدتي (متعها الله بالصحة و العافية و رزقنا رضاها) تحب فيّ حبي للقراءة و تشجعني عليها. و كنت، و ما زلت، احمد لها ذلك. و كانت تختار لي بعض ما أقرأ و تبارك أختياري للبعض الاخر من الكتب. و ذات يوم لا ادري كيف ولا اين تحصلت على احد كتب احسان عبد القدوس. و احسان هذا طفرة كبيرة من رجل المستحيل و الشياطين الثلاثة عشر، و لم يكن يناسب طالب الابتدائية باي حال من الاحوال. و في واقع الامر لا ادري سر قفزاتي الادبية هذه. فلم اعرف ابدا التدرج في مستويات ما اقرأ، و كأني بها ثقة زائدة لا مبرر لها، او سذاجة و عدم المام بالطبقات الادبية. غضبت امي عندما رأتني حاملا رواية احسان هذه و كانها رأتني احمل خطرا. و اظن انه قد اثار غضبها غلاف الرواية – و هو مثير حقا – فصبت جام غضبها عليّ. استغربت هذا منها و تعجبت، فهي لم تنهرني او توبخني في يوم على اختياري لكتاب، و هي التي دائما كانت تحفزني لقراءة مختلف الكتب و متنوعها. سألتها مستفسرا عن سر حنقها المفاجيء، فأجابتني بأقتضاب و الشرر يتطاير من عينيها: (لأن احسان عبد القدوس ده قليل ادب) لم افهم معنى ردها هذا، لكني أثرت السلامة و اكتفيت بقولي اني سأعيد الكتاب لصاحبه، و هو ما فعلت تماما. لكن عبارة (قليل ادب) هذه ظلت تؤرقني لفترة. كنت افكر كيف يكون الكاتب الاديب قليل ألأدب؟ او كيف يكون العمل الأدبي للكاتب الفاضل خادشا للحياء؟ كيف يكون كتاب ألأدب (قليل ادب)؟ الغريب في ألأمر اني لم أسأل احد عن هذا. و لا ادري لما، و لكني كنت عندما يستعصي علي فهم شيء اظل افكر فيه و اتركه و أعود اليه، لا أسأل غوث احد. اذكر انني – و كنت صغيرا عندها- كنت اشاهد مسلسل مصري، و كانت هناك امرأة تضع مولودها. و بعدما ولد الجنين، خرج الطبيب مهنئا الاهل قائلا انه ولد. كنت استغرب عبقرية هذا الطبيب. كيف عرف ان المولود ولد؟ فالولد و البنت يتشابهان عند الولادة. و حتى ينمو للبنت شعر طويل يميزها عن الولد، كيف نعرف الفرق؟ لم أسأل احد عن ذلك ايضا، و ظللت افكر فيه وحدي. بعد عامين او ثلاثة توصلت للأجابة لوحدي. (فهم بطي) تغشاه البراءة. مرت فترة من الزمان، ابتعدت فيها عن ادب احسان عبد القدوس و (قلة ادبه). لا أقراء له و لا احمد من يقراء له. كنت أقراء (بلاوي) اكثر منه، و لكني لا اقرأ له. كنت أقرأ كتب اخرى في ادب البورنوغرافي –ان صح ان نسميه ادب- متخفيا عن امي، لعلمي انها لو اكتشفت قرأتي لهذا النوع من الكتب فلن أمن عقابها. فالوالدة لا تجيد الضرب ( بالكف)، لكنها افضل من يصيب الأهداف الجوية و ألأرضية بحذائها او اي حذاء قريب شاء حظي و حظه العاثر ان يكون قريب منها. ثم تختم هذا الهجوم الجوي بأنها (تدعي عليك) بسيل من الدعوات المهلكة، و التي تدعو الله فيما بينها و بينه – كأي ام اخرى- ان لا يستجيبها. أنتهت المرحلة الدراسية المتوسطة و انتهت معها روايات ألأثارة و البورنوغرافي السخيفة، و صار بنا الحال في المدرسة الثانوية. كنت قد كبرت قليلا، و اخذت ملامح شخصيتي تبدو اكثر وضوحا، و اصبحت أقرأ لكثير من جادة الكتاب الا ابن عبد القدوس. و كانها اصابتني فوبيا من نوع ما. و رغم هذا كان دائما ما يقابلني تناول الجنس في كتب ألأدب تلميحا او تصريحا. كان يقابلني عندما أقرأ لغادة السمان، و غادة السمان يُعرف عنها أدبها الجريء و تناولها للجنس في كتاباتها. و قد لاقت استحسانا من البعض لجرائتها و كسرها لنمط كتابة المرأة العربية المحافظ. اعتبر البعض ان كتابات غادة السمان و ما شابهها يندرج تحت حق حرية التعبير و ان الكاتب فقط يعكس واقعنا الذي نعيش، و ان اتت كتاباته قبيحة فهي نتاج قبح واقعنا الذي نعيش لأن الكاتب انما يعكس صورة مجتمعه بخيرها و شرها. لكن البعض الاخر يستفزه هذا النوع من الكتابة، و يحاول غض الطرف عنه ان استطاع، و ان لم يُفلح فأنه يصفه بأنه ادب رخيص و مغاير لقيمنا السائدة. هناك ايضا المازني الذي كتب عن الجنس في "ثلاثة رجال و أمرأة"، و توفيق الحكيم في "الرباط المقدس"، و عالجه ايضا نجيب محفوظ و يوسف ادريس في بعض كتاباتهم. و اجمل ما قراءت في تناول الادب للجنس رائعة ماركيز "ذكريات غانياتي الحزينات". فكان عوالم من الدهشة ترتسم امامي بعبقرية لا يستطيعها الا ماركيز. و أذكر ان احدهن مرت بي و انا اقرأ في هذا الكتاب فسألتني بفضول يشوبه الشك و الاتهام لماذا انا أقرأ في كتاب عن البغايا. فتبسمت ضاحكا من قولها، و اطرقت خجِلاً متمتا انها مجرد رواية. فنظرت الي بنظرات ثاقبة و هي تقلب اجابتي في رأسها، و لكن قبل ان تقول اي شيء ادبرت مسرعة و لم تعقب. و هنا وقفت عند سؤال لم اعرف له اجابة. هل الوصف الدقيق للجنس في الأدب ضروري؟ هل هو نوع من الأدب؟ ما وجه الابداع في وصف الجنس؟ هل يخدم الجنس العمل الادبي فعلا؟ البعض يقول نعم و البعض يقول لا. فأذا وصف احدهم صباح جميل بشمسه المشرقة و زهوره و عصافيره و أمعن في الوصف قالوا اديب متمكن. و اذا وصف الجنس و اهاته و شبقه و نشواته و أمعن في ذلك ايضا، قالوا صفيق متفلت. هل قليل الجنس مباح و كثيره مرفوض؟ هل نحتاج الى التفاصيل الدقيقة ام يكفي التلميح بها؟ هل يؤدي تناول الجنس في العمل الادبي الى خدمة العمل و تثقيف و تنوير القاريء، ام انه فقط يستثير غرائزه و يخاطب شهواته؟ و هذا ليس بموضوع جديد، فقد تناول الأدباء في مشارق الارض و مغاربها الجنس في اعمالهم. لكني لمست ان هناك اجماع على ان أدب التنفيس (ادب البورنوغرافي) ليس بأدب، لأن الكتابة عن الجنس من اجل الجنس مرفوضة. فهي كتابات رخيصة يقراءها المراهقون كنوع من المغامرة و التمرد على السلطة، سواء سلطة البيت او المدرسة او المجتمع. و لحسن الحظ هذا لا يدوم طويلا، فيبطل سحر هذا النوع من الكتابات في عام او بعض عام لأغلبية قراءه المراهقين. لكن يختلف النقاد في كم من الجنس مباح وصفه في عمل روائي جاد و متكامل؟ هنا يكمن النزاع و تكمن الحيرة. يقول الفريق ألأعم للنقاد انه ليس هناك ادب اباحي و ادب غير اباحي، لكن هناك ادب جيد و ادب غير جيد، و ان الحكم الاخلاقي على العمل الادبي غير مقبول اصلا، و خصوصا عند اطلاعنا على الادب الغربي. و بعض الناس لايرى ضير في تذوق الجنس في الادب الغربي، لكنه يستهجنه في ادبنا العربي لأختلاف الدين و القيم. و كلٌ يؤخذ من قوله و يرد. قراءت مؤخرا رواية "مخيلة الخندريس" (الممنوعة في السودان) للأديب السوداني/ عبد العزيز بركة ساكن. و هي اجرء عمل ادبي سوداني قرأته يتناول بعض الجنس و افكاره في المجتمع السوداني، و قد مُنعت الرواية لهذا السبب بالذات رغم انها تعكس الكثير من الواقع المعاش الان في السودان. فما يكتب الأديب في اعماله تعبير عن رؤيته للعالم حوله، و هي نتاج احداث خبرها و مواقف مرت به و قصص و اخبار انتهت اليه من بعضهم. و لم اجد في كتابات "ساكن" ما استحي من وصفه او نقله لصديق حميم. فنحن نتناول الجنس في كلامنا مع المقربين من الاصحاب بنحو او بأخر. لكن عندما يخرج علينا كاتب علنا بما نفعله او نقوله استتارا ننقلب عليه و ننعته بأبشع الصفات. ما سر هذا النفاق الثقافي؟ نرجع لكتاب احسان ذكرت سابقا أني اعدت الكتاب لصاحبه و انا منكسر الخاطر، و لكني كنت قد أضمرت في نفسي أني سأعاود زيارة هذا الكتاب في يوم ما. مرت سنوات، و احسبها قليلة، و كنت احادث جار لي يكبرني في السن قليلاً، و جاءت سيرة احسان عبد القدوس و "قلة أدبه"، فحكيت له حكايتي مع كتاب احسان و الوالدة. فضحك مني و من سذاجتي، و قال لي (يا ابو الزهور خليك حريف)، ان لقراءة احسان عبد القدوس أحتياطات و طقوس. و علمني ان اول هذه الاحتياطات ان تمزق غلاف الرواية المثير للغرائز و الشبهات. راقت لي الفكرة و احسست انه قد حان موعد تفحصي لكتاب احسان عبد القدوس مرة اخرى. قررت ان لا اكترث لكلام امي و اعتبره (كلام بتاع شيوعين ساي)، و قرأت كتاب اخر لأحسان بدون غلاف هذه المرة. و امي لا تدري عني شيئا و انا تحت سمعها و بصرها. اعجبتني رواية احسان كثيرا لكني لسبب او لاخر لم اقرأ له اخرى. لكني تعلمت من رواية احسان عبد القدوس ثلاث فوائد هامة. الفائدة الاولى ان امي العزيزة (يادوبها تعبت معاي). الفائدة الثانية تعرفت على اسلوب احسان عبد القدوس الجميل السلس، و انسياب الاحداث كانسياب النهر في الوادي، و انتقال الاحداث كانتقال الفراشات من زهرة الى زهرة. الفائدة الثالثة اني قد عرفت ان امي كانت صائبة فيما قالت، و عرفت ايضا انه فعلا هناك ....... (قلة ادب في كتب الادب). تحياتي، زاهر الكتيابي
مكتبة حيدر احمد خيرالله
|
|
|
|
|
|