|
فى محاولات أنْ تكون كما تشتهى:عودة مؤقتة إلى حقنة كمال عبيد وشفقة حسين خوجلى بقلم عبد الحفيظ مريود
|
mailto:[email protected]@gmail.com لم ينقضِ وقتٌ طويل على إنفصال الجنوب حتّى طالبت السيّدةُ وصال المهدىّ بتغيير إسم السودان. فى حوار لإحدى صحف الخرطوم. فالتسمية – وفقاً للحوار – تنطوى على "قدرٍ من التحقير". الشيئ الذى يحفّزُ القارئ المستنير على ربطها بذهاب بعض عربات القاطرة الحديدية الصدئة، سوداء اللّون، التى يُرجّح أنّها السبب الرئيس للتسمية المقيتة، شديدة الإحراج. لم تجدِ الدعوة إلى تغيير الإسم أذناً صاغية. وهى ليست الأولى، بالطبع. ثمّة تأريخٌ لهذا الإستنكار موثّق، على أيّة حال. بعدها بقليل، كان رئيس الجمهورية يؤكّد فى لقاء حاشد بالقضارف، أنّ موضوع الهويّة قد تمّ حسمه. "نحن دولة عربية إسلامية". ذاك الحديث وردتْ فيه قصّة "دغمسة الأديان". وهو يضيف بعداً رسميّاً لمسألة الهوية. ويحرّر شهادة ميلاد جديدة للبلاد. كنّا – حتّى ذاك الوقت – نتحايل عليها. مرّةً بالإقرار الخجول بأنّنا ننطوى على مكوّن إفريقىّ، ومرّات بالتكرار عديم القيمة لكوننا بلدٌ متعدِدٌ، غنىٌّ بتنوعه. فلا ضير أنْ تكون التعددية هذه، مشتملة على "بعض زنجيّة " على رأى الشاعر محمد المكى إبراهيم. تنطوى تلك الإشارات على عجلة ما. ربّما تُعيقُ محاكمتها كتأسيس نظرى حسن البناء للهويّة. لكنّ د. كمال عبيد – صاحب الحقنة الشهيرة، وزير سابق، ومدير لجامعة إفريقيا العالمية – يؤسّس لذلك. متجاوزاً – بقفزات واسعة، شبه متهوّرة – المنطق الصورى حتّى، الأرسطىّ، فى أردأ تطبيقاته ليؤكّد فى ورقة قُدّمتْ بمناسبة إنعقاد مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية فى فبراير 2014م، بعنوان "آفاق الإستثمار الثقافىّ فى إفريقيا" وهو يتحدّث عن الوجود العربىّ فى إفريقيا "...فالوجود العربىّ فى شمال إفريقيا لا تكاد تُخطئه عين، حيث تشكّلُ دول مصروليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا والسودان دولاً عربية كاملة العروبة...". عازلاً "جيبوتى،الصومال وجزر القمر" بأنّها نالت عضوية الجامعة العربية، غير أنّ اللسان العربىّ لا يغلب عليها. يخفى تجاوزات د.كمال عبيد ليس للواقع، فحسب. وإنّما لأصول المنطق. فى تعسّف عقيم ربّما استدراراً لأموال مجلس الأمناء الخليجية، قبل تعاطفهم نفسه. فالواقع أنّ الدول التى عدّدها عبيد ليست على ذاك الإدّعاء العروبىّ كامل الدسم. ومن البديهىّ أنّ السودان لم يكن، ولن يكون كامل العروبة فى يوم من الأيّام سواء تمّ تأسيس ذلك على اللغة والثقافة العربية أو العرق أو الدّين. إنّما لا معدى للدكتور إلاّ أنْ يدّعى ذلك، فى تسرّع غير علمىّ البتة. ذلك إلاّ إذا أراد أحدٌ ما أنْ يثبت أنّ العالم صار بريطانيّاً، إنجليزيّاً كاملاً لأنّ اللغة الإنجليزية صارت اللغة العالمية الأولى. يحشد كمال عبيد مصادر هامة جداً، يذهب بعضها إلى أنّ الفولانىّ، التّنجر، زغاوة، الطوارق وغيرهم عربٌ تأفرقوا. من بين تلك المصادر إبن خلدون. حتّى لقد وصل إلى أنّ أعداد العرب فى إفريقيا أكثر من أعدادهم فى "موطنهم الأصلىّ" فى جزيرة العرب. لكنّ السؤال الجوهرىّ هو : ما الذى يجعل "إفريقانيّة" السودان هذه شديدة الوطأة، دميمةً، وجالبة للعار للدرجة التى يُلجئنا إلى الدعوة إلى تغيير اسم القطر، وإلى كسر عنق المناهج العلميّة نفياً لها، وإلتصاقاً بهوية عربية "كاملة العروبة" ؟؟ ما الخطأ فى كون الشخص، المجتمع، الدولة إفريقية؟؟ ثمّ من بعدها، جرياً وراء على المزروعى : ما هى هذه الافريقانية اللعينة؟؟ ينافحُ المزروعىّ عن إفريقيا. يجالد هيجل وتريفر- روبير مجالدةً رصينة. فالإفريقىّ هو "شخص بلا تأريخ قبل قدوم الأوربيين"، ليتّسع الوضعُ قليلاً ليكون "كانت إفريقيا مجرّد ظلام فقط. والظلام لا تأريخ له". بإزاء الغطرسة الأوربيّة تلك، يقف المزروعىّ. يؤكّد أنّ الأوربيين يظنّون أنّ ما كُتِبَ بلغات غير أوربية لا وجودَ له. إذْ انّ ما كُتِبَ عن إفريقيا وتأريخها، من قِبَل الأفارقة والعرب – تحديداً – يفوق ما كتبه الأوربيون بما لا يُقاس. لكنّ الغطرسة هى التى تجعل عقلاً مثل هيجل يقول مقالته تلك. إمعاناً فى مركزية جهلاء. هل يجعل د.كمال عبيد السودان دولة " كاملة العروبة" مثل المملكة العربية السعودية، فقط لأنّ الدساتير قالت إنّ اللغة العربية هى اللغة الرسمية للبلاد؟ أم أنّ " غلبة اللسان غير العربى" تلك التى وصمَ بها الصومال، جيبوتى، وجزر القمر ليست واقعاً سودانيّاً؟؟ لا يجهل كمال عبيد حقيقة أنّ حيّاً واحداً فقط، فى الخرطوم هو حىّ "الإنقاذ" تؤكّد المسوحات والأبحاث التى أجرتها جامعة إفريقيا العالمية، التى يديرها، ينطوى – حىّ "الإنقاذ" – على أكثر من عشر لغات حيّة، والعربيّة تأتى فى ذيل القائمة. ولا يجهل أنّ اللغة العربية فى أغلب بقاع السودان هى كذلك، فى رقاع شاسعة فى الشرق، الغرب، الشمال الأقصى، وجيوب كثيرة فى الوسط والجنوب الشرقىّ. بل تكاد تكون لغةً مساعدةً، فقط. فلماذا يعمدُ أكاديمىّ ضليعٌ مثل كمال عبيد إلى المصادرات غير العلميّة هذه؟؟ يخلط د. كمال عبيد خلطاً فاحشاً بين العروبة والإسلام. وهو خلطٌ يساعده فى صياغة مقولاته القطعية هذه. الأيديولوجيّة الماكرة. إذْ يعدّد ملامح الثقافة الإسلاميّة فى إفريقيا كما لو أنّها ملامح للثقافة العربية، حتّى يتسنّى له أنْ يؤسّس لتأثيرات العروبة فى إفريقيا فى الملبس، المسكن، اللغة، والأدب معتمداً – فى بعض الأحيان – على إحصائيات وأرقام تعود إلى أكثر من ثلاثين عاماً. تشكّل الهندسة العمرانية فى غرب إفريقيا نمطاً من الإسلام الإفريقى، أىْ تمثّلتْ إفريقيا الإسلام وأعادت إنتاجه فى حياتها، دون أنْ يكون له صلة – حتميّة – بالعروبة. وذلك أمرٌ جلىّ كما فعل المسلمون الصينيون فى قراهم ومدنهم. حتّى المسجد أخذ العمارة الصينية، دون أنْ يكون ذلك تأثيراً عربيّاً. ولا يمكن الجزم اليوم بأنّ السودان – الدولة الكاملة العروبة بنظر كمال عبيد – تبنى قراها ومدنها على نمط القرى والمدن العربية، قبل الإسلام أو بعده، فضلاً عن الزعم بأنّها تأثيرات الثقافة الإسلامية. ذلك أنّ ربط العروبة بالإسلام افتئات لا يشبه العلم. أسهم العرب – عرقاً وثقافةً – فى الإسلام والثقافة الإسلامية دون أنْ تصبح الأخيرة أسيرةً لهم. لكنّ الموقف من الإفريقانية هو الذى يحرّكُ أدوات د. كمال عبيد العلمية. ذهب المزروعىّ إلى أنّ جنوب السودن، قبل الإنفصال بربع قرن تقريباً، سيحصل على نسبٍ عربىّ بعد مائة عام. لم يكن يتهكّم. اليوم – بعد الإنفصال – تتحدّث القنوات والإذاعات وأغلب الصحف باللغة العربية. ويتراجع "عربى جوبا" ليتحدّثه اليوغنديون والكينيون، وقد أشار د.رياك مشار، قبل إنشقاقه، إلى رغبة الحكومة فى استقدام معلمين للغة العربية. ستأخذ الأوضاع مساراً مختلفاً عن كتاب مكمايكل الذى تباهى به القبائل فى السودان، ولكنّ الجنوب سيحصل فى نهاية المطاف، على لقب "دولة عربية كاملة العروبة". لقد سلكتِ اللغة العربية مسالك وعرة، شديدة الخشونة، لتكون اللغة الرسمية فى دستور السودان. غير ديمقراطية البتة. ولا يمكن – بناء على ذلك – وهو أمرٌ قتله الباحثون تماما – أنْ نصادر الهويّة السودانيّة لأغراض "الإستثمار الثقافىّ فى إفريقيا". ذلك هو جوهر الخلاف الدّموىّ، أغلب الظنّ. وسيكون ملائماً لو تحلّى الأكاديميون ببعض "روح علميّة" لترفد جهات كثيرة تسعى لسلام دائم واستقرار وعدالة فى كلّ شيئ. عسى ذلك أنْ يوفّر – وليس يحقن – بعض دماء هذه البلاد. ف" العبيد ديل كملوا زاتو ياخ" بحسب عبارةٍ قالها لى شخصيّاً الأستاذ حسين خوجلى بمكتبه،متخمةً بالشفقة، أحبّ أنْ أوردها هنا، بخبث متعمَدٍ رصينٍ، لأنّها نموذج لأحاديث كثيرة لم تخرج إلى العلن، تؤثّر فى مجريات السياسة والتأريخ والإجتماع فى السودان. فى صيف 2008م كنتُ عائداً من ماليزيا، مرتديّاً قميصاً دون ياقة، مخطّطاً، حين سألنى والدى فجأةً، بعد السلام " دا شنو لبس الأفارقة دا؟؟". كان علىّ أنْ أنفذ إلى أعمدة بنائه المكين، فأجبته " مَنْ نحن إذا كانوا "هم" الأفارقة؟؟" . يبدو أنّ الداء ذهب بعيداً جداً. وإذا كان "الأمدرمانيون" و"الفناجرة" فى النصف الثانى من القرن العشرين يتباهون بأنّ :" كلّ من لم يرد له ذكرٌ فى كتاب مكمايكل، فليس بعربىّ"، فإنّ أغنية الراهن السياسىّ تذهب إلى أنّ كلّ من لم يقطع بعروبة السودان متهمٌ فى دينه، وربّما عميل. فتأمّل، رعاك الله.
مكتبة بابكر فيصل بابكر
|
|
|
|
|
|